كنت أرغب في الإختلاء بنفسي لوقت طويل، أول أمس بعد الظهر، لكنني لم أستطع مقاومة تلك الدعوة الكريمة من طرف ''نون'' الذي ألح عليّ أن أنزل عنده ضيفا في بلدة سيدي خالد الواقعة في منطقة القبائل، حيث الجبال الشامخة ذات الدروب الوعرة والخضرة النظرة، المطوقة لبيوت متناثرة ومزدحمة في الوقت ذاته، كالطحالب بلونها الغامق وقرميدها ذي اللون الأحمر، وحيث يمتد البحر عند أسفلها كالسرير الأسطوري المفتوح والضاج بزرقته الصارخة والعميقة، وكنت أجلس وأفراد عائلتينا، داخل العربة السيارة البيضاء، وما إن وصلنا إلى منزله الذي لازال عبارة عن ورشة كبيرة، حتى تحول اللقاء إلى متعة كبيرة زادها الباربيكيو لذة لا تضاهى، تحدثنا و''نون'' حول ماضي المنطقة، وحول تحولات المدينة والريف، على حد سواء، ودلالات العيش فيهما، كما تحدثنا، كذلك، حول محطة الطبيعة وصخب المدن الكبرى، وقيمة العزلة الروحية التي أصبحنا، كلما تقدمنا في العمر، أحوج إليها· -2- في المساء، بعد انقطاع في التيار الكهربائي دام حوالي الساعتين، رحت أعيد قراءة قصة طالما أثارني عالمها، وأنا شاب، وسكنتني شخصياتها الرئيسية حتى النخاع، يوم قرأتها لأول مرة وأنا لازلت تلميذا في ثانوية سي الحواس بسيدي بلعباس، ثم وأنا أشاهدها لمرتين على التوالي فيلما خياليا طويلا محبوكا ومؤسسا على لغة مجازية تجمع بين المسحة التراجيدية والصبغة الرومانسية المتوحشة، ضمن الرؤية الفنطازية للسينما الجديدة، وأوبيرا ذات طابع باروكي وباذخ، حيث يتصادم ويتعانق الملائكي مع الشياطني، قصة زاخرة بكل ألوان الصراع بين والنور والظلام، وفي النهاية قصة تروي اللون الغجري وتمجد، في الوقت نفسه، قيما إنسانية عندما تجد، نفسها، وجها لوجه مع تلك القوة الخفية والسحرية التي تريد أن تجرنا إلى العالم المظلم، عالم الأسفل، عالم جهنم المرعب، عالم الغيرة والمكر والمكيدة والسحر والقتل، إنها ''كارمن'' تلك القصة الخالدة التي أبدعها الكاتب الفرنسي بروسبير ميريمي