ولدت في حي عادي، كان يبدو لي أنه حي بلا صخب ولا عنف. يقع في الضاحية الغربية للعاصمة، بين البحر والجبل. لا هو ينتمي للمدينة ولا للريف. بناه معمرون فرنسيين استوطنوا المنطقة بعد أزمة زراعة العنب في فرنسا سنة .1880 أطلق عليه المعمرون اسم ''سان كلو''. وفي نوفمبر سنة 1978 ، جاء مناضلون من جبهة التحرير الوطني، بوجوه قاسية عليها شوارب كثيفة الشعر، رفقة ''شنبيط'' على دراجته النارية ''سيمكا''، ووضعوا عند مدخل الحي لافتة عليها تسمية بوكيكاز عمار. وكلمنا هؤلاء الموظفون في البلدية وقسمة الحزب بلغة شديدة اللهجة أن عهد سان كلو قد انتهى نهائيا، دون أن يخبرونا شيئا عن بوكيكاز عمار. وبعد عشرين سنة قرأت في مذكرات محمد حربي أن بوكيكاز عمار كان من إطارات الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. تسير الحياة في سان كلو على وقع الهدوء. لا شيء يعكر صفوها، ويدفعها نحو الصخب. ذاك الصخب الذي يخلق عوالم القصة والرواية. الصخب الوحيد الذي عرفته منذ صغري هو صخب البحر وسيلان الوديان خلال فصل الشتاء. وكنت دائما أسأل نفسي كيف بإمكان من عاش في حي مثل هذا أن يكتب عملا إبداعيا. فسان كلو ليس السيدة زينب ولا باب الوادي. إنه حي اعتاد على الرتابة اليومية. وأهله ينتمون إلى ذلك النوع البشري الذي اكتسب طباعا أوروبية. تجدهم يفضلون الداخل على الخارج، والحي بالنسبة لهم لا يتعدى كونه مكانا للنوم، فهم يقضون أغلب حاجاتهم الحياتية بعيدا. يعملون في العاصمة، يتسوقون في غيوت فيل (عين بنيان)، ويترددون على مطاعم ''لامادراغ''، وعندما يحين الليل يعودون إلى حي سان كلو للنوم. وهذا هو حال أحياء الضاحية، لا شيء فيها يوحي بوجود ما قد يتحول إلى مادة روائية. هذا الفراغ هو الذي دفعني لقراءة الكتب منذ الصغر. وكان فعل القراءة منتشرا بين أبناء الحي. اكتسبه الجيل الذي سبقنا من خلال اختلاطه بالفرنسيين الذين لم يغادروا البلاد سنة ,1962 وعاشوا بين ظهرانينا إلى غاية انقلاب الرئيس هواري بومدين. ثم أن كل العائلات الجزائرية التي سكنت بيتا أوروبيا في سان كلو خلال الاستقلال عثروا على مكتبة فيها كما هائلا من الكتب. تركها المعمرون في غمرة رحيلهم. بعضهم حاول إتلافها حرقا أو رميا في البحر، لكن بدون جدوى. وأذكر أن الكتب كانت تنتقل بيننا في الحي بشكل لافت للانتباه. كان الفراغ مستتبا، قائما، ومستفحلا. وكانت القراءة واكتشاف العوالم البعيدة بمثابة ضرورة ملحة، بل كانت بمثابة خلاص، فتمت تغذية المخيال. وفي ما يخصني كان لابد من القراءة لتجاوز لحظات الرتابة والصمت. القراءة للخروج من شرنقة اليومي والعادي، وتلبية رغبتي كانسان متوسطي مُولع بالهجرة. كتبت أشياء كثيرة عن سان كلو، لكن من زاوية الذاكرة، ومن حيث العودة إلى التاريخ القريب. أردت أن أجعل من سان كلو، ماكوندو جزائرية. وفي أغلب الأحيان كنت أتخيل وأُخرج شخصيات من التاريخ، وأعطيها الروح لتعيش في سان كلو. تتعرف على شخصيات واقعية، مثلما حدث لي في رواية ''مرايا الخوف''، بحيث أبدعت شخصيتين هما بلقاسم كاستيلو وبود أبوت، وبفضلهما تناولت الصراع بين المصاليين والجبهويين خلال حرب التحرير، وكيف تطورت العلاقة بعد الاستقلال. كنت أنهل أحداثا من التاريخ، وأتخيل شخصيات أجعلها تعيش في سان كلو، تماما مثلما أبدع غوستاف فلوبير شخصية إيما بوفاري وجعل منها إحدى برجوازيات مدينة روان الفرنسية. وفي الوقت نفسه أدركت أن شخصيات كثيرة عاشت في سان كلو تملك الحُظوة للتحول إلى شخصيات رواية أو قصصية، مثل ذلك الحلاق المدعو ''سي الشريف''، والذي كنت أستمع إليه وهو يسرد على مسامع رواد صالونه حكايات عجيبة ومخيفة عن اغتيال المثقفين في جبال أكفادو خلال حرب التحرير، ضمن ما يسمى بقضية ''لابلويت'' الشهيرة. ابتليت بهذه الحادثة التاريخية صغيرا، ثم وظفتها إبداعيا في أغلب ما كتبته. كان حي سان كلو اليوم يبدو لي كمكان عادي، لكنه سرعان ما أخذ وقعا متشعبا وغنيا. حدث هذا التحوّل بعد أن قرأت ذات مرة في مذكرات ضابط فرنسي (لا أذكر اسمه) شارك في غزو الجزائر سنة ,1830 أن أول محاولة للاستيلاء على الإيالة جرت يوم 24 ماي، بالمكان المسمى ''كاب كاكسين''، على بعد خطوات من حي سان كلو. كم كان وقع هذا الاكتشاف مهما بالنسبة إليّ. تأكدت أن الأمكنة، كل الأمكنة بإمكانها أن تتحوّل إلى أمكنة للصخب، لتشكل مادة روائية بامتياز. لم أبتعد عن حي سان كلو، ولا أزال أعيش فيه. لم أغادره مثلما فعل غالبية أترابي. ما زلت أتردد على أمكنة طفولتي، أقصدها مرة في اليوم، وأستمع لأصوات قادمة من بعيد، من الماضي. أصوات من رحل، ومن هاجر. وهكذا هي حياة الكاتب، إنها تسير على وقع الحنين لزمن انقضى، هو زمن الطفولة. ولدت في حي عادي، كان يبدو لي أنه حي بلا صخب ولا عنف. يقع في الضاحية الغربية للعاصمة، بين البحر والجبل. لا هو ينتمي للمدينة ولا للريف. بناه معمرون فرنسيين استوطنوا المنطقة بعد أزمة زراعة العنب في فرنسا سنة .1880 أطلق عليه المعمرون اسم ''سان كلو''. وفي نوفمبر سنة 1978 ، جاء مناضلون من جبهة التحرير الوطني، بوجوه قاسية عليها شوارب كثيفة الشعر، رفقة ''شنبيط'' على دراجته النارية ''سيمكا''، ووضعوا عند مدخل الحي لافتة عليها تسمية بوكيكاز عمار. وكلمنا هؤلاء الموظفون في البلدية وقسمة الحزب بلغة شديدة اللهجة أن عهد سان كلو قد انتهى نهائيا، دون أن يخبرونا شيئا عن بوكيكاز عمار. وبعد عشرين سنة قرأت في مذكرات محمد حربي أن بوكيكاز عمار كان من إطارات الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. تسير الحياة في سان كلو على وقع الهدوء. لا شيء يعكر صفوها، ويدفعها نحو الصخب. ذاك الصخب الذي يخلق عوالم القصة والرواية. الصخب الوحيد الذي عرفته منذ صغري هو صخب البحر وسيلان الوديان خلال فصل الشتاء. وكنت دائما أسأل نفسي كيف بإمكان من عاش في حي مثل هذا أن يكتب عملا إبداعيا. فسان كلو ليس السيدة زينب ولا باب الوادي. إنه حي اعتاد على الرتابة اليومية. وأهله ينتمون إلى ذلك النوع البشري الذي اكتسب طباعا أوروبية. تجدهم يفضلون الداخل على الخارج، والحي بالنسبة لهم لا يتعدى كونه مكانا للنوم، فهم يقضون أغلب حاجاتهم الحياتية بعيدا. يعملون في العاصمة، يتسوقون في غيوت فيل (عين بنيان)، ويترددون على مطاعم ''لامادراغ''، وعندما يحين الليل يعودون إلى حي سان كلو للنوم. وهذا هو حال أحياء الضاحية، لا شيء فيها يوحي بوجود ما قد يتحول إلى مادة روائية. هذا الفراغ هو الذي دفعني لقراءة الكتب منذ الصغر. وكان فعل القراءة منتشرا بين أبناء الحي. اكتسبه الجيل الذي سبقنا من خلال اختلاطه بالفرنسيين الذين لم يغادروا البلاد سنة ,1962 وعاشوا بين ظهرانينا إلى غاية انقلاب الرئيس هواري بومدين. ثم أن كل العائلات الجزائرية التي سكنت بيتا أوروبيا في سان كلو خلال الاستقلال عثروا على مكتبة فيها كما هائلا من الكتب. تركها المعمرون في غمرة رحيلهم. بعضهم حاول إتلافها حرقا أو رميا في البحر، لكن بدون جدوى. وأذكر أن الكتب كانت تنتقل بيننا في الحي بشكل لافت للانتباه. كان الفراغ مستتبا، قائما، ومستفحلا. وكانت القراءة واكتشاف العوالم البعيدة بمثابة ضرورة ملحة، بل كانت بمثابة خلاص، فتمت تغذية المخيال. وفي ما يخصني كان لابد من القراءة لتجاوز لحظات الرتابة والصمت. القراءة للخروج من شرنقة اليومي والعادي، وتلبية رغبتي كانسان متوسطي مُولع بالهجرة. كتبت أشياء كثيرة عن سان كلو، لكن من زاوية الذاكرة، ومن حيث العودة إلى التاريخ القريب. أردت أن أجعل من سان كلو، ماكوندو جزائرية. وفي أغلب الأحيان كنت أتخيل وأُخرج شخصيات من التاريخ، وأعطيها الروح لتعيش في سان كلو. تتعرف على شخصيات واقعية، مثلما حدث لي في رواية ''مرايا الخوف''، بحيث أبدعت شخصيتين هما بلقاسم كاستيلو وبود أبوت، وبفضلهما تناولت الصراع بين المصاليين والجبهويين خلال حرب التحرير، وكيف تطورت العلاقة بعد الاستقلال. كنت أنهل أحداثا من التاريخ، وأتخيل شخصيات أجعلها تعيش في سان كلو، تماما مثلما أبدع غوستاف فلوبير شخصية إيما بوفاري وجعل منها إحدى برجوازيات مدينة روان الفرنسية. وفي الوقت نفسه أدركت أن شخصيات كثيرة عاشت في سان كلو تملك الحُظوة للتحول إلى شخصيات رواية أو قصصية، مثل ذلك الحلاق المدعو ''سي الشريف''، والذي كنت أستمع إليه وهو يسرد على مسامع رواد صالونه حكايات عجيبة ومخيفة عن اغتيال المثقفين في جبال أكفادو خلال حرب التحرير، ضمن ما يسمى بقضية ''لابلويت'' الشهيرة. ابتليت بهذه الحادثة التاريخية صغيرا، ثم وظفتها إبداعيا في أغلب ما كتبته. كان حي سان كلو اليوم يبدو لي كمكان عادي، لكنه سرعان ما أخذ وقعا متشعبا وغنيا. حدث هذا التحوّل بعد أن قرأت ذات مرة في مذكرات ضابط فرنسي (لا أذكر اسمه) شارك في غزو الجزائر سنة ,1830 أن أول محاولة للاستيلاء على الإيالة جرت يوم 24 ماي، بالمكان المسمى ''كاب كاكسين''، على بعد خطوات من حي سان كلو. كم كان وقع هذا الاكتشاف مهما بالنسبة إليّ. تأكدت أن الأمكنة، كل الأمكنة بإمكانها أن تتحوّل إلى أمكنة للصخب، لتشكل مادة روائية بامتياز. لم أبتعد عن حي سان كلو، ولا أزال أعيش فيه. لم أغادره مثلما فعل غالبية أترابي. ما زلت أتردد على أمكنة طفولتي، أقصدها مرة في اليوم، وأستمع لأصوات قادمة من بعيد، من الماضي. أصوات من رحل، ومن هاجر. وهكذا هي حياة الكاتب، إنها تسير على وقع الحنين لزمن انقضى، هو زمن الطفولة.