لا أقدّر بالتحديد كم كان عمري حينما أخذت لي هذه الصورة، التي قد تكون الأولى في ألبوم حياتي. فغيري ربما يحوز ما هو أقدم منها. فهي عندي أشبه بتحفة تنطق بما كانت عليه ملامحنا، نحن الأطفالَ الجزائريين، الذين لو امتدت حرب التحرير، التي نشأنا خلالها، إلى ما بعد 1962 لكنا جنودها اللاحقين. لكن التقاطها كان بالتأكيد في مدينة سعيدة؛ بعد عودة شتات من عائلتي المشردة أنا ووالدتي ووالدي من وهران عشية الاستقلال. فأخواي الكبيران كانا التحقا بصفوف جيش التحرير من دارنا التي لا تزال بقاياها المهرشمة قائمة في أرضنا الفلاحية في دوار لإله حسنة التابع لعرش أولاد عيسى على الحدود بين معسكر وبين سعيدة إلى الجنوب. فاستشهد البكْر، وعاش الثاني ليكمل حياته عسكريا إلى تقاعده. وكان أخي الأصغر مني بعامين رُتب عند خالي الرابع لأن أخوالي الثلاثة الآخرين كانوا حملوا السلاح قبل أخوَيّ. أما أختاي الباقيتان لأن أختي الثالثة الكبرى كانت اغتيلت خلال الحرب فقد كانتا تزوجتا في سن مبكرة جدا. يجب أن أقول زُوجتا وهما لم تبلغا بعدُ مرحلة مراهقتهما. وتلك كانت حال غالبية البنات الجزائريات؛ خوفا عليهن من اغتصاب العسكر والحركى ونقلهن إلى المواخير. ولا بد أن تزويجهما تم قبل فرارنا إلى مدينة سعيدة بشهور، إثر تعرّض بيتنا إلى التدمير ونهب القطيع والحصان وإتلاف مخزون مطاميرنا، بعد أن اكتشفت الاستخبارات الاستعمارية كونه مركزا لإيواء المجاهدين. لا أذكر من ذلك اليوم المظلم سوى أن أمي كانت ''شَوْمَتْنِي'' على ظهرها وركضت تدخل غابة جبل سيدي عيسى، قبل وصول العسكر. فذاكرتي، كطفل في حوالي سن السادسة، لم تحتفظ إلا بشذرات من صور مرتجة التفاصيل لا تتثبت لي الآن. وإلا كنت تذكرت بشكل أوضح بعضا من تفاصيل لحظة تشريدنا. لذلك لا أتذكر كيف دخلنا مدينة سعيدة، كما أنا أتذكر دخولنا مدينة وهران لاحقا، بعد سنتين من ذلك في تقديري. كان الوالد في وهران مضطرا إلى التنقل بي وبأمي ببطاقة هوية مزورة وبأسماء مستعارة اشتهر منها بكنية بَقَدّار. أستعيد الآن، بشكل لا يعكس تفاصيل كثيرة، تلك الأماكن التي نزلنا فيها تباعا. بدءاً؛ في حي سيدي الهواري، بأمر من الجبهة كما علمت لاحقا، عند أحد أقارب والدتي. لا أتذكر المنزل ولا رقمه. ولكني كنت أنزل أدراجا نحو ساحة هي محطة للتروليات المدهشة (بعضها؟) بذراعيها العالقتين الأسلاك الكهربائية. لا بد أن لونها كان أصفر. هل لأني عاينت ذلك في ما كان بقي من ذلك النوع من التروليات لما كنت عدت إلى وهران في العام ,1970 عشر سنين من بعد أو أزيد بقليل لأنتقي بدلة عرسي التي دفع أخي العسكري ثمنها هي والقميص والكرافتة. وقتها كان يسكن وهران. كنا نتزوج في الثامنة عشرة أو العشرين. فالحياة الصعبة الشاقة والمليئة بالتجارب القاسية كانت تجعلنا ننضج بسرعة، نكاد معها لا نتذكر أننا عشنا طفولتنا، وتُخرجنا إلى مراهقة عنيفة وشرسة ومثيرة بكل أنواع الجنوح قبل أن تُلبسنا هيئة الرجولة قبل الأوان. يوم اشتريت مختارات شعر ناظم حكمت من مكتبة كبيرة في شارع الأمير عبد القادر قريبا من مقر جريدة الجمهورية تكون تحولت إلى بيتزيريا أو محلا لبيع الأحذية استوقفتني قصيدة ''البشرية الكبرى''. فحفظت منها هذا المقطع: ''البشرية الكبرى تركب القطار، تسافر في الدرجة الثالثة، تتزوج في العشرين، وتموت في الثلاثين.'' أو هكذا، كما ترجمتها من الفرنسية الناقلة من التركية. كان ذلك في 1976 لما عدت إلى وهران طالبا في جامعة السانيا. اختفى من مكتبتي المجلد ذو اللون الأخضر، وإلا كنت ترجمة مقاطع أخرى من تلك القصة الجميلة. مثل سراب، أتذكر ساحة تلك المحطة. فثمة أكلت في زاوية منها الفول بالكمون. هل دفعت مقابلا؟ لا أذكر. غير أني أستطيع أن أستعيد أن كل شيء كان يبدو لي أسود في أبيض، كما كنت سأرى ذلك لاحقا على الشاشة الكبيرة بألوان الأفلام الكلاسيكية القديمة. فالأوروبيون كان يغلب على ألبستهم اللون الأسود. وكان أغلب الرجال منهم يرتدون البيريه. هذا لن أنساه. لاحقا، عرفت أنهم إسبان عاودوا الرجوع إلى المدينة التي أخرجهم منها زلزال 1790 المدمر. مسألة حنين! فوهران الشعبية إلى وقت قريب كانت تتكلم الإسبانية إلى جانب العربية أكثر من الفرنسية. إن حاولت الآن جَمْع قِدَم الحي آنذاك إلى ظلال بناياته في المنحدر نحو فم البحر وإلى الرطوبة وإلى آثار التلوث المنبعثة من بعض المعامل ذات المداخن الآجرية الشاهقة تبيّنت علة رؤيتي اللون الأسود بذلك الانتشار. ومن انتقالنا من سيد الهواري إلى حي الزيتون في ضاحية وهران الجنوبية الشرقية، الذي مُسح مؤخرا من على الأرض لأنه كان -كما يبدو- من بقايا مشروع قسنطينة، أذْكر بَنّة قطعة خبز ''نصارى'' أو ''البولانجي'' كما كان يسمى وقتها، وضيق الغرفة والمطبخ اللذين كان الخال يسكنهما مع زوجته التي لم تلد أبدا. كانت امرأة أنيقة حظيت بتقدير خاص عند والدتي، لذلك يكونان استقبلا أخي الذي استرجعته أمنا بعد الاستقلال ببضع سنين. ومن حي الزيتون إلى قرية ''بارنوفيل'' الكولونيالية في الضاحية الشرقية، حيث عَلِق ذاكرتي اسمُ الباكّارية المرأة العظيمة بأوشامها المهيبة بهيئتها الباذخة التي استقبلتنا في حوشها وخصصت لنا غرفة لم تكن مبلطة؛ رائحة ترابها بامتزاجها برائحة حطب التدفئة في الكانون لا تزال كأني أشمها الآن. ورأيت لأول مرة حقل الدالية (الكروم) الشاسع الذي ينفتح عليه باب الحوش مدى البصر. كنت تسللت فقطفت عنقودا من العنب الأبيض ثم أكثر وذقت لأول مرة لذة فاكهة الجنة العجيبة. المؤكد أن مكان التقاط الصورة هو مدينة سعيدة، كما هي على الهيئة التي كنا عليها نحن أطفال الاستقلال بلا روتوشات؛ هكذا نيئة، صلبة وخام. طبعا، لم تصحبني أمي ولا رافقني أبي؛ فذلك إن حدث صار وبالا علي تجاه أقراني. ولا بد أن الداعي كان تسوية بطاقة مدرسية لدخولي الأقسام الخاصة بتحضير شهادة التعليم الابتدائي. فأسبقية مقاومة العائلة للاحتلال جعلتني أخطئ سن التمدرس القانوني مرتين: الأولى في سعيدة، والثانية في وهران. ثم إن الوالدة، في ظل سرية الوالد، كانت شديدة التمنع على تسجيلي خشية اكتشاف أمره. فتلك كانت صورتي الأولى.. بحثا عن مكاني الأول. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته