تعجبت كثيرا من تصريحات الأحزاب السياسية في الجزائر، تلك الأحزاب التي توارت وراء الأحداث لقرابة الأسبوع، ثم عندما نطقت كفرت، طبعا ليس كفرا دينيا حسب اللغة الفقهية، ولكنه كفر سياسي، فقد سكتت مع بداية الأحداث متفرجة وكأن الأمور لا تعنيها، ثم لما نطقت استلمت الحكومة وحملتها المسؤولية في التقصير في تسيير الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، وحتى في طريقة تعاملها مع الأحداث (وهذا طبعا لا نختلف عليه)، لكن الغريب هو أنها لم تترك طريقة للتنظير إلا واستغلتها، مستعملة كل أشكال التعبير والتنديد لتبرئ نفسها من المسؤولية وكأنها خارج المسؤولية·· وكأني بها استشاطت غضبا لأن السبق كان لغيرها في ركوب الأحداث، ومع الأسف، عبر وسيلة إعلام عربية ذائعة الانتشار··؟، أو أنها تعتقد نفسها ليست مسؤولة عن سن القوانين والتصويت عليها في البرلمان·· أو أنها غير مشاركة في حكم الجزائر، أو أنه ليس لها ممثلين في الحكومة ومنتخبين في المجالس البلدية والولائية والوطنية··؟، دون التحدث عن المحسوبية التي تتعامل بها الأحزاب في التوظيف والترقية، والرشاوى التي تتداول لتحقيق المصالح والامتيازات··؟؟ أنا لا أقول هذا دفاعا عن الحكومة، التي عرف عجزها اجتماعيا واقتصاديا والآن ميدانيا وسياسيا، لأن هذا العجز كنا قد كتبنا عنه كثيرا وطويلا وفي عدة مناسبات·· ؟ إن ما رأيناه من تجاوزات في الشوارع بعد منتصف الليل، يطرح تساؤلات كثيرة، مثلما يطرح إشكالية مصداقية الحقيقة·· تلك الحقيقة التي تبنى على مصداقية الأرقام وشفافيتها··؟ إذ كيف لدولة برصد ميزانية إنجاز مشاريع تنموية حقيقية، إذا كانت القاعدة الأساسية، التي هي الأرقام القائمة على رصد الاحتياجات الحقيقية للمجتمع مغشوشة وغير ذات صلة، ومنها المغالطة في أعداد البطالين والمحتاجين التي تنبئ بعجز مسيري الوزارات، سواء كان ذلك مقصودا أو لتمويه مسؤولين عنهم للبقاء في السلطة·· وفي كلا الحالتين يجب مجازاتهم على إساءتهم للدولة وتقاعسهم وفشلهم، لكن ليس بتغيير أماكن عملهم أو مناصبهم وغض الطرف عما سلف، لأن التسامح مع مسيري الشأن العام إن كان فاشلا أو عاجزا هو الإفساد بعينه، وعلى الدولة أن تواجهه لأنه هو من يحرض المواطن على الغلط، ويدفعه للشك في مصداقية الدولة ومحاربة كل عمليات الإصلاح الحقيقية·· إن استغلال الظروف الحقيقية للمواطن لتسييسها أو لركوبها أو للقفز عليها، ليس من مسؤولية الحكومة فقط، بل هو أيضا من مسؤولية الدولة بكل فئاتها، بما فيها من طاقم حكومي وأحزاب سياسية ومتعاملين اقتصاديين ومجتمع··؟ الدولة وقد فضحت، والأحزاب قد سكتت، والمجتمع قد حرق البلد، وبقي المتعاملون الاقتصاديون فأين موقعهم من الإعراب··؟ نعرف أنهم لا ينطلقون إلا من مصالحهم الخاصة، سواء في استغلال ارتفاع الأسعار بصفة مباشرة أو غير مباشرة، متعاملون لم يتعرضوا لسخط المواطنين ولم تتعرض ممتلكاتهم للحرق والتخريب، مما يطرح عديد الأسئلة·· ومن المؤكد أننا لا نجد لها جوابا آنيا منهم، ولا من غيرهم، خاصة في ظل غياب تام لمسؤولي الدولة المباشرين قبل الأحداث وأثناءها، والذي برز في عدم قدرتهم على التواصل المقنع مع المجتمع لا أثناء الأحداث ولا بعدها، مما زاد في تأجج الأحداث وتأخير إنهائها··؟ ماذا يعني أن يحرق المواطن وطنه··؟ سؤال لابد وأن يشترك مختصون في علم النفس والاجتماع للبحث عن الإجابة عنه···؟ من تصريحات المحتجين المباشرين في وسائل الإعلام ''الأجنبية''، نحس بمعاناة شباب غير مؤطر عفوي يريد حلا سريعا لمشاكله اليومية، لكن عندما نتابع الأحداث والأهداف المصوب لها التخريب في هذه الأحداث، نتأكد من أن مافيا المال والأعمال والإرهاب هي المحرك لها، فتبرز للواجهة وكأنها تريد تحقيق نصر على الدولة بحرق ممتلكات الدولة، وهو ما يعيد للأذهان أفعالا سابقة، وخاصة تلك التي انتهجها الإرهابيون في كل مرة كانوا يريدون استعادة سطوتهم سواء عن طريق المال أو المخدرات أو الأعمال الإرهابية وغيرها من الأعمال التي ترمز إلى معاناتهم من محاصرة الدولة لهم، وقد زادت القوانين أو الإجراءات والمداهمات الأخيرة من معاناتهم·· وتقليص سيطرتهم على سوق المال والأعمال، وهي التي لا تريد لها هذه الأنواع من المافيا أن تنظم وأن تستقيم، لأن الفوضى القانونية والسياسية والتجارية، هي الفرصة الأكيدة من اغتناء سريع ودائم وتجربتنا في العشرية السوداء دليلنا لذلك··؟ فالفساد الذي ساد طويلا، والذي أصبح فيه اللص هو الشاطر (القافز) والمستقيم هو الغافل والمتعلم هو النية، والجاهل هو الناجع في جمع المال بأية طريقة··! جعل من مقومات مجتمعية جديدة، قادرة على طرح خياراتها الجديدة على الجزائر ككل، لكنها بقيت تعالج بأفكار وأساليب قديمة، ومن خلال متطلبات دولية فجائية·· مما ساعد على تقوية هذه المقومات الجديدة لتقف ضد السياسات المختارة في تسيير البلاد، والتي كان منها تقليص حركة المجتمع المدني المعترف به قانونيا من النشاط بحسب قانون الطوارئ، لكنها فتحت المجال أمام حركة مضادة تعتمد العنف ضد الكل وخاصة ضد ممتلكات الدولة، فأضاعت الدولة بذلك الاثنين، لا استطاعت أن تسير حركة مجتمعية وسياسية قانونية واضحة بنشاطها وبرامجها، يمكن أن تتعامل معها في كل الأحوال، ولا استطاعت أن تحمي أملاك الدولة الخاصة والعامة من المافيا لأنها لا تتحكم في محركيها الحقيقيين····؟ كلنا ننادي سياسيا بالاحتكام إلى الدستور، والرجوع إلى المواطن في تسيير أموره، كلنا ينادي بفتح المجال للشباب، خاصة المثقف منه، وكلنا ينادي بفتح المجال أمام الإعلام الوطني وتهيئة المدرسة والمسجد لأن يقوما بدورهما التربوي والتوعوي ضمن مبادئنا الوطنية الدستورية طبعا· كما أننا كلنا ننادي بتثمين الإنسان المثل القدوة في النزاهة والقدرة على مسؤولية الاقتصاد والتسيير، وكلنا يطالب بمحاربة المخل ومحاسبته على الملأ، ولكن ليس بسياسة إعادة التموضع·· وكلنا يطالب بتفعيل العدالة وتحييدها وجعلها قادرة تنظيميا سياسيا وبشريا على الضرب بيد من حديد على لصوص المال العام، والمتحايلين على اقتسام الثروة الوطنية في الخفاء والعلن·· وكلنا يأمل في أن تتعامل الدولة مع أرقام البطالة الحقيقية ومستوى التضخم الحقيقي وحجم النمو الحقيقي خارج المحروقات بشفافية ومصداقية مطلقة·· وكلنا يتطلع إلى إيجاد صيغة فاعلة للتعامل الحقيقي مع حجم الفساد والفاسدين بالاستفادة من الطرق الحديثة، ومن تجارب بلدان سبقتنا في ذلك، طبعا ضمن سياسة اقتصادية واضحة ونظام أمني ومالي واضح وحديث·· كلنا ننتظر وإن شاء الله لن يطول الأمر··؟