هل يمكن إصلاح التركيبة الحزبية التي عاشت معنا منذ 1988 يلح علينا هذا السؤال ونحن مقبلون على الانتخابات الرئاسية القادمة، فلا نحتاج إلى عين سحرية لقراءة المستقبل القريب بقدر معقول من الدقة، فأداء الأحزاب المعارضة كان أقل من ضعيف في الانتخابات الرئاسية الماضية، وليس من المتوقع أن يتغير هذا الأداء في غضون هذه الفترة المتبقية. وحتى إذا جرت هذه الانتخابات في حرية ونزاهة، فلن تحصل الأحزاب الشرعية على نسبة تذكر في هذه الرئاسيات خاصة بعد أن فشلت محاولة بناء تحالفات سياسية وانتخابية فيما بينها. فهل تستطيع أحزاب المعارضة الرسمية أن تصلح نفسها بنفسها أصلا؟ لنكن صرحاء مع أنفسنا الفرصة ضعيفة للغاية، فالطريقة الوحيدة لإحياء وإصلاح الحياة الحزبية في الجزائر هو التقدم السريع على طريق إصلاح النظام السياسي والدستوري، فهزال وانخفاض مستوى الحياة الحزبية هي نتيجة طبيعية للأوضاع السياسية والدستورية في البلاد، وهذا يعني أن ذلك المفتاح الممكن لإصلاح الحياة الحزبية هو التمكين للانتقال الديمقراطي عبر إصلاح سياسي ودستوري عميق، وليس عن طريق نداءات عقيمة، فالحزب لا يكون حزبا إلا إذا كان قادرا على المنافسة السلمية للحصول على تفويض شعبي بالحكم أو على الأقل التأثير على الحكم من خلال التأثير على بقاء الحكومة أو فرصتها في الحصول على موافقة البرلمان على سياساتها وما تقترحه من تشريعات، حيث في جميع الدول الديمقراطية ثمة معيار واضح نسبيا لبقاء الزعامات الحزبية، وهو بكل بساطة أداؤها في الانتخابات العامة، وعادة ما يعني إصلاح الأحزاب من الداخل تغيير الزعامات الحزبية، وهو بكل بساطة أداؤها في الانتخابات العامة. وعادة ما يعني إصلاح الأحزاب من الداخل تغيير الزعامات والتوجهات الحزبية بمناسبة سوء الأداء في الانتخابات العامة، وهو مؤشر أمين لأن الانتخابات العامة لا يتم تزويرها في الدول الديمقراطية، ولذلك فباستثناء الأحزاب الفاشية تعرف جميع الأحزاب الكبيرة في المجتمعات الديمقراطية طريقة ديمقراطية لانتخاب قيادتها وهيئاتها القيادية بصورة ديمقراطية وبمناسبة الانتخابات العامة القادمة أو انعقادها بالفعل، وظهور نتائجها بالفعل بما يسمح بالحكم على أداء الزعامات والهيئات القيادية بصورة موضوعية. والشيء الملاحظ في الحالة الجزائرية، لم تعمل آليات منهجية للإصلاح الداخلي للأحزاب، لأن الدولة تبنت ثلاثة أحزاب ونظرت لبقية الأحزاب كخصوم تحدد هي إمكانية وحجم تمثيلها عن طريق سيطرتها التامة على العملية الانتخابية وفقا لمقبولية تصرفات وسياسات الزعامات القائمة، فتعطي هذا وتمنع عن ذاك بقدر ما ترضى عن هذه أو تلك من الزعامات. ورغم أن فرصة إصلاح الأحزاب من الداخل تبدو ضئيلة للغاية في غياب إصلاح سياسي ودستوري عميق يؤسس للانتقال الديمقراطي، فليس أمامنا من سبيل سوى العمل بكل قوة على دفع حركة الإصلاح الداخلي استعدادا لإنجاز هذا الإصلاح، وثمة ثلاثة مستويات للإصلاح الداخلي للأحزاب، الأول هو المستوى الغني ونقصد به تحسين الأداء التنظيمي للأحزاب بصورة منهجية، فتمتع الأحزاب بقدرات كبيرة في المنافسة الإنتخابية يتوقف إلى حد ما على تنوع بنيتها التنظيمية وأحكامها وقدرتها على إنتاج بدائل للسياسات القائمة وترويج هذه البدائل بين الجماهير، وتختلف مدارس التنظيم تبعا للتقاليد التاريخية للأحزاب والإيديولوجيات، غير أن جميع الأحزاب العصرية صارت تملك بنيات تخصصية غالبا ما تكون مشابهة لبنية الحكومة، ولو بقدر من المرونة، فتكون هناك أقسام متخصصة في الموضوعات الإقتصادية وقضايا التنمية البشرية من تعليم وصحة وثقافة وتدريب ورياضة... وغيرها، وكذا الموضوعات النوعية ذات الصلة بإدارة المرافق العامة الكبرى، فضلا عن السياسة الخارجية. ويسهم هذا التخصص في تربية أجيال من الكوادر الحزبية التي تعرف هذه القضايا بدقة، وقد تسمح لها حتى حكومة حزب منافس بالمشاركة في إدارة ملفات معينة في كل من هذه المجالات ومن اللافت للنظر أن بعض أهم أحزاب المعارضة الجزائرية لم تطور بنية من هذا النوع. المستوي الثاني يتعلق بالتسلسل القيادي وأسلوب صنع القرار والحياة الداخلية للحزب عموما. ومن اللافت للنظر أن قليلا من الأحزاب الجزائرية يعرف فكرة الانتخابات من القاعدة للقمة وبعضها أسس هيكله التنظيمي على أساس تقليد تاريخي قديم لم يعد له ما يبرره، فلا يعرف أكثر من مستوى واحد للقيادة تحت مستوى الزعيم وتقوم غالبية الأحزاب على تمكين الزعيم من أن يحكم حزبه حكما مطلقا مشابها للحكم المطلق في الدولة ذاتها، وتحتاج كل الأحزاب الجزائرية إلى ترقية هياكلها التنظيمية وإلى قدر معقول من الإدارة أو القيادة الجماعية وإلى تمكين المؤتمر العام أو الجمعيات العمومية من ممارسة وظيفة السلطة العليا سواء فيما يتعلق يوضع السياسات أو اختيار الهيئات القيادية بما في ذلك زعيم الحزب اختيارا حرا مباشرا. أما المستوى الثالث، فيتعلق بالعمل الجماهيري، وهنا يبدو أن النموذج الذي ساد نظرية العمل الجماهيري في الجزائري هو أسلوب الخدمات الشخصية أو الخدمات العامة المباشرة والبسيطة، وقد فرض هذا النموذج نفسه لأن القاعدة الذهبية التي قامت عليها الانتخابات العامة في الجزائر هي قاعدة الأصوات مقابل الخدمات، والواقع أن هذا المفهوم يخلط تماما بين الأحزاب والجمعيات الوطنية على تقديم الخدمات مثل التوسط لتعيين أبناء الدائرة الانتخابية أو نقلهم من موقع إلى آخر وتدبير فصول محو الأمية والتقوية مرورا بالمشروعات البسيطة مثل المنظومات الطلابية، هذا مع تحويل الأحزاب من منابر فكرية وإيديولوجية في الواقع إلى جمعيات وطنية. إن هذا الخلط يقود إلى نتيجة أسوأ، فمهما توفرت الموارد للأحزاب فإن تقديم الخدمات المباشرة سيكون دائما بيد الدولة والقطاع الرأسمالي، والأهم هو أن أسلوب تقديم الخدمات كأسلوب للوصول إلى البرلمان يدمر مبدأ حكم القانون حيث يفترض أن يتم تقديم الخدمات بناء على قاعدة موضوعية وليس قاعدة الواسطة، كما أنه يدمر النائب البرلماني الذي يقضي وقته كله في المرور على الوزارات والمرافق، وينسى أو يتنازل بالضرورة عن مسؤوليته التشريعية والرقابية. ففي المجتمعات الديمقراطية تقوم الجمعيات المدنية بتقديم الخدمات وفقا لمدارس مختلفة تتفق بشكل عام مع المدارس الفكرية التي نشأت عليها الأحزاب، ولذلك تستمد الأحزاب جزءا من قوتها من تأييد قطاعات مختلفة من المجتمع المدني. أما السياسة الجماهيرية، فتقوم على قاعدة مختلفة تماما وهي تنظيم القوى الجماهرية المختلفة مثل العمال والطلاب والفلاحين وأهالي الأحياء والقرى والنساء... وغيرهم للنضال من أجل مصالحها السياسية والمدنية، وتقوم الأحزاب بهذا الدور خلال هياكل أو أقسام ومنظمات نوعية تترجم فلسفة الحزب وقيمه السياسية، فالأحزاب في النهاية تعكس مصالح اجتماعية ما وتمارس هذا الدور عبر إيديولوجيات محددة. أما أرقى السياسات الجماهيرية فهي تقوم على الترويج للسياسات البديلة التي وضعتها بين الجماهير. ومن الواضح أن هذا المستوى هو عقدة العقد في الأداء السياسي والانتخابي للأحزاب الجزائرية، لأنه الأكثر صلة بالإصلاح الديمقراطي أو غيابه. وبوسع بعض الأحزاب الجزائرية أن تقوم بإصلاحات أساسية في بنيتها التنظيمية في غضون مدى زمني قصير، ولكنها قد لا تستطيع وضع سياسة جماهيرية إلا بعد إنجاز إصلاحات دستورية وسياسية كبيرة تضمن الانتقال الديمقراطي. أما ما يجب على جميع الأحزاب أن تقوم به على الفور، فهو تحقيق إصلاحات ديمقراطية في الحياة الداخلية والتسلسل القيادي، وربما تكون البداية السليمة لخوض الانتخابات المقبلة هو أن تقوم الأحزاب القادرة على عقد مؤتمراتها العامة على وجه السرعة لوضع البرامج أو تجديدها وانتخاب الهيئات وانتخاب الهيئات العليا التي تقودها خلال مرحلة الانتخابات المقبلة. أما الأحزاب غير القادرة فلتفكر في الاندماج في الأحزاب الأقرب لها عقائديا وسياسيا.