في هذا الحوار الشيق الذي جمع ''الأثر'' بالشاعر عبد الحميد شكيل، نلقي الضوء على العملية الإبداعية في مختلف أطوارها من المخاض إلى التشريح، وهنا نعرج على حالة النقد الأدبي اليوم والنقاش الدائر حول ما بات يعرف بالنثيرة.. وغيرها من دهاليز عالم الأدب البهيجة والعميقة.. تابعوا. الكتابة هي حالة مخاض بين الوعي واللاوعي، ما مدى تحقق هذه المقولة على الفعل الإبداعي؟ الكتابة - في مظانها النقدية والعرفانية- اجتراح بنيوي منجز للحظة عرفانية متورّمة، ومأزومة، متساوقة تحفز في لا وعي الذّات، تأسيسا لما سيكون وعيَا متحقّقاً، محاطا بتمخّضات رجراجة، تتأَبّى على الوصف، والتّصنيف، الذي - عادة - ما يكون مفصولا عن مفاهيمية الكتابة وشرطيتها، وهي تتأسّس، وتنبني في المخيال، عابرة برازخ المعنى، وتوترات الذّات وهي تكتبُ وجدها، وتشظّيها، وبرقها الهاب من تخوم الذاكرة المنصهرة في مرجل الأنوات، وهي تسعى في مدَى بروجها البعيدة، مؤشّرة أفقها، وأقنومها الخاص، الذي يهزّ دينامية اللّحظة الإبداعية، ويدفع بها إلى مجرى الذات، وحركية الواقع، وترسّم المعنى، وهي تعيد لحظة وعيها الباهت، قصد تعويم قيم: الحق، والعدل، والسمو التي هي ركائز البناء للفعل الإبداعي، وهو ينسَلّ من قماط الأشياء، والموجودات، سابحا في ملكوته العلوي السّادر. هل تخضع التجربة الإبداعية للقوانين الصارمة التي تحاصرها بها نظرية الأدب؟ العملية الإبداعية الحقّة -حتما - لا تخضع للقوانين في أشكالها المختلف، لأنها جنوحُ صارم نحو النّمطيةّ الذّاتية، وتوشيتها، وهي تسعى صوب بيت المعنى، وتجليّات المنظور الإبداعي، الذي لا يجبُ أن يكون محاصرَا، ولا مُقَنَّنَا بمسطرة، وتعسّف النظريات النقدية والأدبية، لأنه ببساطة يعافُ، ويأبى أن يكون في وضع الرّهينة، على اعتبار أن العمل الإبداعي هو صياغة جمالية عارفة لتحوّلات الذّات، ومجرياتها الزّمكانية المتماوجة، التي تبدعُ لونها، وشكلها، وقوانينها التي تشتغل عليها تلك النظريات، والمقولات، التي كثيرا ما تجانب الحق، وتأتي على بهائية العملية الإبداعية برمتها. إن التجربة الإبداعية التي تضع في أفقها التَّصوري تلك النظريات، وهي تتأسّسُ، وتنكتبُ - يقينا - ستسقط على مشارف البرزخ الأوّل، أعني برزخ البهوت، والاصفرار، والضّمور الحتمي. يعدّ بعض النقاد أن النّثيرة ما هي إلاّ شكل من أشكال الانقياد الأعمى وراء الآخر، كيف نفسّر ذلك لدى الشاعر المثقف المطلع، والشاعر الذي لا يكاد يدرك أن هذا الآخر هو ذات مغايرة له مهما بلغت شدّة قرابتهما؟ النّاقد هو تابع بامتياز، وعليه - شخصيا - لا أرتاح كثيرا لبعض الآراء، التي يطلقها بعض النقاد لوصف أيّ ظاهرة، أو حركة إبداعية، أو كتابية جديدة، ومغايرة، غير متجانسة مع رؤاهم، وتصوّراتهم التي - غالبا - ما تكون غير ملّمة بالتحوّلات، والتجارب التي تظهر هنا أو هناك. المبدع الحقيقي عليه أن لا يكون تابعَا، ولا منقادَا يترسم نفس الخطوات، ويقتفي ذات الأثر، المبدع الأصيل هو من يصدر في - عمليته الإبداعية - عن وعي طالع من تربة خصبة، مشبعة بالقناعات، وممهورة باليقينات الأكيدة، التي تجعل من العمل الإبداعي صوتَا جميلا، ونشيدَا متفرّدَا، له سمته، ولغته، ومناخه... هذا لا يعني أن الشاعر يجب أن يعيش بمعزل عما تفرزه الحياة الثقافية، والإبداعية، التي تظهر هنا أو هناك... لا أرى أن ''النثيرة'' شكل من أشكال الانقياد الأعمى (هكذا) تحديدا عندي، لأن ذهابي نحو أرض النثيرة جاء بعد سنوات من الكتابة، والتجريب، والاجتراح، لأني أرى أن هذه النثيرة هي فسحة جمالية إبداعية شاملة، يمكنها أن تستوعب الكثير من الرّؤى، والأشكال، والمضامين، لأنها - ببساطة - انفتاح معرفي على ظلال، وأكوان، عرفانية غير محدودة، وفي نفس الوقت غير متاحة للجميع... الآخر هو أنا، في تحوّلاتي، وإشراقاتي، وهواجسي، وكوابيسي، وإحباطاتي التي تقرّبني، وتُبعدني من لحظة الإبداع ومناحيه علينا أن لا نكون أصداء، ومناطق خاوية لمقولات نقدية، كثيرا ما تعمل على قهر المعنى الإبداعي، وخنقه، وقهره، بعيدا عن منظومة ''حقوق الإبداع وحرية المبدع''. هل هناك عناصر تحرصون على حضورها في نصوصكم؟ ما أحرص عليه في نصوصي، وكتاباتي هو الصّدق مع الذّات، والموضوع، أعني أن أكون في تواشج، وتناغم حميم، ولصيق بالذّات، وهواجسها، وتحوّلاتها، ومقولها العارف، وهو ينكتبُ، ويلوح، معَوّلا على تأسيس المعنى اللّغوي، والإبداعي في تراتبيتهما الفيزيقية الهاجسة، وهي تترحّل في أقاليم مسكونة بالصدّق، والأريحّية، وانبثاقية النص، وهو يهجسُ، ويُبرق في لغط الواقع، ومحدّداته الذّاتية، واللغوية، التي هي النّسغ، والسّمت الذي يبهج النّص، ويذهب به بعيدا، قصد الاكتناه، والإكتناز، والتجاوز المبدع، إلى ما سيكون إبداعَا، مشمولا بالثيمات، والأيقونات التي تؤثث أرض المعنى، وسموات القول الصائت، وهو يلملم حضوره، ونثاره، ونوره لتحديد، وتجديد بنيويات النص، الذي من خلاله نكتبُ عناصر الذات الحالمة، وهي تنقال في أفضية القحط اللاّغط بأهازيج ستظل تصدحُ في أنحاء الغابة، ونحن نتقصّد المعنى الجميل، ونطلبه عنصرَا دالاّ، وهالاّ، لترميم الخروقات، والتجاوزات التي تمكنّنا من القول المليح، والمعنى الفصيح، في أزمنة الذّل، والخيبة، والاجتثاث، والموت... هذه العناصر، والعلامات التي أسعى لجعلها تدور، وتمور في أرض النص، ومجالاته التي لا تُعَدُّ، ولا تُحَدُّ. ما مدى تقبلكم للرفض الصّارح الذي يقابل به كتاب قصيدة النثر - بغض النظر عن الأسماء- الدّخول إلى عوالم الكتابة، ومجاهيلها، يشبه الدخول إلى أرض المعركة، لا تعرف متى؟ وكيف يُصَوّبُ نحوك... أعني أن الكتابة في ذاتها، ومعناها هي قبول، ورفض، ذلك هو الميسم الذي يسم الكتابة، والإبداع، منذ البدء وإلى النهاية... ذلك جبلة الإنسان، وطبعه، وعليه فإن الرّفض الذي تقولون بأنه ''صارخ'' هو علاقة صحية، مقبولة في ظل التعاطي مع الكتابة في تمظهراتها، وأشكالها وأجناسها... كل حركة إبداعية، أو فكرية، أو إجتماعية...إلخ تقابل -عادة- بالرّفض، وعدم القبول، لأن ذلك من سمات الحياة، وحتميات المعطى، والأمثلة في التاريخ كثيرة. ولسنا في حاجة لتحديد أمكنتها، وأزمنتها، لكن الحِراك الإبداعي الحي هو الذي يحدد صوابية هذا الرفض الصارخ أو خطأه... قصيدة النثر في الوطن العربي اليوم صارت مَعْلَمَا قائما بذاته، لا يحتاج إلى دعاة لتمرير شرعيته الإبداعية، وسماته الإبلاغية. لكن بعض الأصوات التي ترّبت على عتاقة، وقدامة متجاوزة، لا تحب الإنصياع إلى منطق التاريخ، وحتميته، ومنطقه... من جهتي ليس في نيتي أبدا أن أفرض نصي على أحد، على أساس أن النّص الذي يحتاج إلى أعوان للدفاع عنه، والتبشِير به - حتما - سيكون مآله الزوال، والموت الأكيد. الناقد متلق إيجابي للنص، للعمل الأدبي ذاك أنه لا يكتفي بالاجترار التأثري للعمل بقدر ما يساهم في بناء فجوات النص بشكل تكاملي غير مخل، من هذه الفاعلية النقدية، هل لاقت نصوصكم الصّدى الذي ترضون عنه؟ أين هو ذلكم الناقد الإيجابي الذي نتحدث عنه، هناك تقصيرا ملحوظا من النقاد الجزائريين فيما يتعلق بالتعاطي النقدي مع النص الإبداعي الجزائري عموما. ربما يعود ذلك لعوامل نفسية ذاتية، لأن الكثير من النقاد عندنا ينظرون إلى النص الإبداعي الجزائري نظرة مشوبة بعدم القبول والرّضا... بعضهم يرى إلى هذا النص على أنه غير جدير بالدّرس، وبعضهم يذهب إلى افتعال عوامل، وتعلاَّت أخرى لا تصمد أمام الواقع، والمعطى. هذا - طبعا - يحيلنا إلى إشكالية متواترة - وتكاد تكون مكرّسة - تتمثل في النظرة الدّونية لكل ما هو إنتاج وطني سواء في الإبداع، أو الكتابة، أو الصناعة وهلم جرا. ذلك في نظري يرتبط - كما أشرت - بحالة نفسية، جلّ النقاد عندنا يتجهون إلى دراسة النص غير الجزائري، ظنا منهم أن ذلك سيزيد من قيمتهم العلمية والمعرفية، وبعضهم ألف كتبا عن تجارب غير جزائرية لمنفعة شخصية، ومآرب ذاتية باهتة هذه الحالة القائمة يجب تناولها بالدرس والتشريح. وعليه فإن تناول نصوصي، ونصوص زملائي يدخل تحت هذه الإشكالية القاتمة التي ستزيد في ضبابية الحركة الإبداعية وتعميتها. وهنا يجب الإشادة بالتوجه الجديد للجامعة الجزائرية التي آثرت - أخيرا - الالتفات إلى دراسة وتحليل المدوّنة الإبداعية الجزائرية، وأرى أن هذا وحده لا يكفي وآمل أن يكون أوّل القطر. إلى أي مدى يجب التماهي في وضع الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر، وهل النثيرة أثبتت الاعتداء المخل بنواميس الجنس الأدبي، هل يمكن اعتبارها جنس أدبي ثالث، هل هي كتابة خنثى ألغت حدود الجنس الصّافي لتعيش متطفلة على طودي الأدب (النثر والشعر)؟ باعتقادي أنه من الصعب وضع حدود فاصلة بين الشعر والنثر، الفنون الإبداعية تتماس، وتأخذ من بعضها البعض، الحدود الفاصلة حالة قائمة في تصوّراتنا فقط، الشعر والنثر من الأجناس الأدبية العابرة، ومن الإجحاف وضعها تحت مظلة الانضباط الصّارم.. الكتابة في حدودها الأخرى أقاليم، وبلدان مفتوحة الحدود، لا يحتاج الشعر إلى إذن، أو تصريح مرور للعبور إلى أرض النثر، والعكس صحيح.. نحن كثيرا ما نجتهد في وضع تصورات، واختلاق مبررات، وتبيئة مفاهيم، ما كان لها أن توجد - أصلا - لو تَمَّ النظر إلى جوهر القضية من زاوية عقلانية، عرفانية، تأخذ في خطيتها مفهومي الانفعال والتفاعل بين النصوص والأنواع. أرى أن النثيرة هي تجربة في الكتابة، والقول، كبقية التجارب الإبداعية، والكتابية الموجودة، ستحفر مجراها، في سياق التطور، والرقي، وعطى الحياة، الذي يبدع شكله، ومحددات وجوده، ورواقه الذي يتحرك فيه تأكيدَا لوجوده، وحماية لنموه المطرّد. أعتبر النثيرة جنسا أدبيا قائما بذاته تسلّل الكثير من ''الحراة'' إلى أرض النثيرة أفسد بهجتها، وأبهت حلاوتها.. لكن النواميس ستأخذ نموها الطبيعي. ليس هناك جنسا أدبيا صافيا بالمفهومين العلمي والأدبي، النثيرة ليست جنسا متطفلا على الشعر والنثر، بل هي طفرة معرفية، أدبية، جمالية تعمل على الدخول في مدارها الخاص والمتميز الذي يحدد لها الصفات، والمورّثات الجينية الخاصة، هذا يحتاج إلى جهود متكاملة لترسيخ بُناها، وتأكيد كارزميتها التي ستضمن لها الحياة، والتواجد المبدع، بعيدَا عن الغوغائية النقدية غير العارفة التي كثيرَا ما تعمل على خلط الأوراق، وتبهيت الإشراق. ما مدى ارتباطكم بالموروث الشعري وتملككم له، وتملكه لكم؟ الموروث الشعري جينات لا يمكن التخلص منها، ارتباطي بالتراث في شقه الشعري هو ارتباط وجداني لصيق، لا يمكن الفكاك منه، أجمل قراءاتي ما يكون في التراث خاصة المضيء الذي يحرضنا على الذّهاب البعيد، والعنيد في القول والمساءلة. الارتباط بالتراث هو ارتباط بالأرض، وبالتاريخ، والمشترك. لا يمكنني أن أخرج من جلدي، أو أقطع يدي، لكن لا يجب عليّ، ولست ملزمَا أن أعيش طوال حياتي في جلباب التراث وحيّز متنه، علينا أن نمر من خلال رائع التراث، إلى ما سيكون تراثا.. أنا أعيش التراث كفسحة جميلة داخل بستان، وليس كإقامة داخل قلعة محاصرة، ومحكومة بالقهر، والموت، والجمود، والكسل المقيت.