إن القراءة القانونية تقول إن الدستور عادة ما يتكون من أبواب محددة يهدف منها إلى وضع مجموعة من القواعد كحظوظ عامة رئيسية لتبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها مع تبيان ركائزها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وتكوينها وتوزيع السلطة بينها بشكل يبين اختصاص كل منها بسلطات محددة وعلاقتها مع بعضها البعض، بالإضافة إلى أنها تتكفل ببيان حقوق الأفراد الأساسية ومقومات الدولة ومواردها المالية وكيفية تصريفها، وما إلى ذلك من أمور اجتماعية واقتصادية... وغيرها. وقد يحتوي النظام الأساسي للحكم على هذه الأبواب، إلا أن الباب الثاني المتعلق بنظام الحكم عانى من ثغرات قانونية وتحديدا في المادة الخامسة من دستور المملكة العربية السعودية تنص على أن ''يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمان الفيصل آل سعود وأبناء الأبناء ويبايع الإصلاح منهم للحكم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله''، حيث لم توضح الآلية التي يمكن من خلالها مبايعة الإصلاح من الأسرة المالكة. لذا، ومن زاوية قانونية، فإن نظام البيعة جاء كلائحة أو مذكرة تفسيرية توضيحية لها طبيعة الالزام لباب نظام الحكم المتضمن أربع مواد في النظام الأساسي للحكم، هذا في وقت تأتي فيه الدساتير شاملة ولها أطر عامة. وليس من طبيعة الدساتير أن تتطرق للتفاصيل، إذ توكل ذلك لمذكرات تفسيرية أو لوائح تنفيذية تلحق بالدستور تشرح المعنى العام الوارد في مواد الدستور، وهو ما لم يتوافر في النظام الأساسي للحكم، ما أوجد ثغرات قانونية. فالبيعة والتوريث المحكوم بالكفاية والصلاح كمافيهم موجودة من زمن غير أن الجديد يكمن في الآلية الدستورية التي كفلت للهيئة حق التصويت، وتكون قراراتها بالأغلبية، فضلا عن رزمة المواد القانونية التي جاءت كآلية محددة لكيفية التعامل مع كافة الحالات الناشئة والمتوقعةو ومن هنا كانت خطوة الملك الدستورية، حيث عندما تولى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله سدة الحكم في المملكة العربية السعودية استشعر مسؤولياته واستشرف المستقبل البعيد للمملكة العربية السعودية، فأقدم على تطوير نظام الحكم مراعيا الاستحقاقات القادمة والمتغيرات الراهنة داخليا وإقليميا ودوليا ، وهذا يعني في ما يعني غلق الثغرات، وما قد ينشأ من ظروف واحتمالات تهدد بفراغ دستوري قد ينشأ من غياب الملك أو ولي العهد أو كليهما معا، ما يعني ترسيخ مؤسسة الحكم واستمراريتها بفاعلية لتحقيق مصالح الوطن وحماية الوحدة الوطنية من التفكك والتمزق والانقسام، ولذا ما يمكن قوله عن خطوة الملك الدستورية المتمثلة في إعلان نظام البيعة ولائحته التنفيذية وبدون تضخيم أو تهويل، إنها تمثل أهم قرار تاريخي للدولة السعودية الثالثة الحديثة بعد قرار الملك المؤسس بتوحيدها، وسيذكر التاريخ للملك الحالي ما أنجزه في بلده جاعلا منها دولة مؤسسات لا أشخاص وفق رؤية الحقوقيين والقانونيين. واللافت أن نظام البيعة ولائحته التنفيذية جاء في وقت لا يعاني فيه البلد من أزمات سياسية أو أنه تحت ضغوط بإتجاه اتخاذ هكذا خطوة، وكان بإمكان الملك التغاضي في الدخول في طرح هذا الملف الشائك والحساس وتركه للأجيال القادمة، ولكن هنا تبرز حنكة الزعماء الخالدين وقدرتهم على اتخاذ القرارات الحاسمة طالما أنها تنصب في ضرورات الدولة والمجتمع، فالتوافقات القائمة لن تكون بالضرورة مجدية في المستقبل، كما كانت في الماضي القريب رغم أهميتها كموروث اجتماعي، ولكن تركيبة الحياة باتت معقدة ومتشابكة ونحن لا نعيش بمعزل عن الآخرين، والأمر يتعلق بمستقبل أجيال واستقرار وطن، ولذا من الأهمية بمكان أن تكون دولة قانون لا سيما عندما يتعلق الأمر بالحكم ومصلحة البلاد والعباد. ولعل هذا ما يفسر إيجاد دولة المؤسسات بالارتهان إلى القوانين والأنظمة التي تهيئ بآليتها الصالح الأكفأ والأقدر لتولي سدة الحكم، وهي مقومات وقواعد أساسها وأسسها الملك المؤسس، وإن لم تكن مكتوبة ليأتي الملك الحالي ويجعل من الترشيح ومبدأ التصويت وقبول القرار بالأغلبية قانونا يحتكم إليه عند الحاجة ليبلور معنى الاستقرار السياسي على أرض صلبة ويقويه مهما كانت شدة العواصف والرياح التي ربما تهب في يوم ما. على أنه ما يلفت الانتباه هو ما تضمنته اللائحة التنفيذية التي جاء بها في عام 2007 التي جاء في 18 مادة، فنصت على مواد هامة، حيث وضحت الآلية التي يعين فيها الملك أحد أبناء كل متوفي أو معتذر أو عاجز بموجب تقرير طبي من أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود في هيئة البيعة، كما أنه في المادة الثالثة من هذه اللائحة قد حددت مدة العضوية في الهيئة بأربع سنوات غير قابلة للتجديد، وكان الاستثناء للتجديد أن يتفق إخوة العضو على ذلك بعد موافقة الملك، وهذه المادة لا تنطبق على أبناء المؤسس الأعضاء وإنما على أبناء المتوفين أو العاجزين أو المعتذرين رغم أنه يفترض أنهم كلهم أعضاء في الهيئة إلا أبناء الهيئة كأعضاء. كما أن هذه اللائحة التي جاء بها الملك عبد الله أعطت له الحق وخيارات في ما يتعلق بمسألة تعيين أبناء المتوفين أو العاجزين أو المعتذرين، وأعطى له النظام الاختيار في نهاية المطاف في من يراه الأصلح منهم لعضوية الهيئة. وهذه مسألة شكلت إشكالية خاصة في المستقبل إذا لم يتم حسمها دستوريا من طرف الملك. والآلية تكمن في أن الملك يطلب من أبناء المتوفين أو العاحزين ترشيح إثنين على الأقل ليختار منهما واحدا لعضوية الهيئة، وهذا يتعارض مع ما طرحه البعض من أنه يمكن أن يختار أبناء أحد المتوفين أخا لهم كمرشح وحيد، وهذا لا يمكن قبوله قانونيا لأن اللائحة ألزمتهم بترشيح إثنين على الأقل وللملك الاختيار منهما، ولا أذهب بعيدا في هذا المجال لأقول بأن دستور المملكة العربية السعودية يرتكز على الكتاب والسنة كمصدرين أساسيين، فإنه من الطبيعي أن يستند نظام الحكم على البيعة التي لها مرجعية في التشريع الإسلامي، وهي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم، وهي عقد يتكون من ثلاثة أطراف هي الحاكم والأمة والشريعة، كما أن للبيعة نوعان، أولية وعامة، فالأولية يقوم بها أهل الحل والعقد وبموجبها ينعقد الحكم للشخص المبايع، وهذا يعني أن هيئة البيعة تمثل بيعة الانعقاد لمجموعة من أهل الحل والعقد من أبناء المؤسس وأبناء الأبناء. أما البيعة العامة فهي بيعة للعامة من الأمة، فهي بيعة على السمع والطاعة. والفرق بين أعضاء هيئة البيعة وأعضاء مجلس العائلة. فالأولى تمثل مؤسسة الحكم ودورها دستوري كونها من صميم النظام وتمثل ذرية المؤسس الملك بن عبد العزيز بن عبد الرحمان من الأبناء واختيارهم بقوة النظام، وهي معنية بالسلطة، ولذا فعضويتهم ملزمة. أما مجلس العائلة فإنه يضم ممثلين لجميع شرائح الأسرة المالكة (آل سعود) ويتم تعيينهم من قبل الملك ودورها ينصب على شؤون الأسرة وقضاياها الداخلية، أي أن دور هذا المجلس اجتماعي وليس له دور سياسي بالنسبة لسريان القانون من حيث الزمان. كما أن نظام الهيئة الذي أعلنه الملك عبد الله لا ينطبق على الملك وولي العهد الحاليين بل يطبق على الوقائع المستقبلية وتحديدا عندما تحين مبايعة الملك. وفي الأخير، يمكن القول إن ما أقدم عليه الملك عبد الله هو خطوة دستورية لترسيخ مشروعه الإصلاحي في مؤسسة دولته وتطوير أجهزتها الحكومية، وهذا لتحقيق معادلة تكمن في الاستفادة من التراكمات المجتمعة وتوفير القنوات المناسبة لترسيخ الوحدة الوطنية والاعتزاز بقدرات أبناء الوطن ومكتسباتهم، والبدء بمراجعة الأوراق ووضع الخطط الجادة لمعرفة الخلل قبل معالجته. ولذا، فإن نقد الذات والمصارحة والتهيؤ للمستقبل هي نهج الملك عبد الله لا سيما أنه وطد دعائم الاستقرار السياسي في بلده.