اكتشفت اليوم أنني وصلت الأربعين من العمر·· وأنني قبل عشرين سنة كنت في العشرين·· وكنت مفعما بالأحلام الكبيرة·· أحلام تغيير العالم·· كانت الجزائر قد تحررت وقتها من سلطة الأفلان وكانت الحياة كلها متأهبة للجديد·· ثم ودون أن ننتبه جاء المد الأصولي الكاسح وحدث الذي حدث· كنا وقتها نكتب الرسائل في الليل لحبيباتنا·· رسائل الشوق والعشق والغرام واللهفة لأجل رؤيتها في الصباح تنزل من حافلة الجامعة وتخطو بمشية الغزالة·· كان القلب يخفق بشدة لرؤيتها تتبختر بقدمها التي تنهب الأرض وتنهب القلب المسبح باسمها أناء الليل وأطراف النهار·· لم يكن وقتها لا بورطابل ولا أنترنيت·· كنا أسرى أدونيس ومحمود درويش وآرثر رامبو وبودلير وكفافي وماركيز ولوركا· نقرأ ونقرأ ونناقش في غرف الأحياء الجامعية الحداثة وما بعدها وما قبلها والبنيوية والأسلوبية·· ونستسلم قبل النوم لصورة الحبيبة وهي تتراقص في شاشة الذاكرة· كنا آخر الرومانسيين الحالمين·· وخضنا حروب الشعر وحروب المدن·· وبدأنا ننشر خربشاتنا في الجرائد وبدأ الكبار يقعدون لنا·· جيل الثمانينيات·· جيل اليتم·· وبقينا إلى اليوم في نظرهم شبابا ونحن في بدايات الكهولة·· في الأربعين من عمري الفيزيائي أجدني لا أعرف الأطفال الذين كبروا في غفلة مني وأصبحوا شبابا·· لا أعرف فيما يفكرون وكيف يحلمون·· عملنا معهم قطيعة رهيبة·· الأولاد كبروا في مناخ آخر·· واهتماماتهم غير اهتماماتنا لما كنا في عمرهم· نعم أعترف أننا كنا رومانسيين وأننا كنا نبكي على الأطلال وما زلنا وأن كل الوعي الذي ادعيناه كان زائفا مثلما هي الإيديولوجيا وعي زائف بتعبير كارل ماركس·· وأننا لم نفهم حركية التاريخ وأننا كنا أنانيين وأننا اعتقدنا أننا نملك الحقيقة وأننا· نحن الذين سوف نغير الجزائر·· ولكننا لم نفعل شيئا· في الأربعين انظر إلى أولادي وأخاف منهم وعليهم·· لقد تركناهم وحدهم في المهب الكبير لعالم يتغير بسرعة عجيبة·· تركناهم وحيدين منذ أن زرعناهم في رحم أمهاتهم·· ومدرسة بن بوزيد تثقل ظهورهم كل صباح بالمحافظ الثقيلة والدروس الجافة وإضرابات المدرسين وأخبار المظاهرات في الشاشات الفضائية حتى فرص مشاهدة توم وجيري وفلفول الذي يحب الفول أصبحت قليلة·· واللعب في أحياء الأوبيجيي الرديئة هو ملاذهم·· ابني علولة يهترف في الليل بعضوه التناسلي وبالعنف· في الأربعين أجدني مثل أولادي صغيرا وضائعا في المهب الكبير لعالم يتغير بسرعة الضوء·