إنها الذكرى، ذكرى ''لاعب النرد''، لكنها ليست ذكرى نهاية كما تعوّدنا، بل تلك المتعلقة بالبداية، بدايته في الحياة التي جاءها في مثل هذا الوقت من السنة، وما أجمل البدايات التي صادفت هذا الوقت، إنه اليوم العالمي للشجرة وعيد الأمهات، وبعدها اليوم العالمي للمسرح، وكلها بدايات لأشياء جميلة. ومحمود درويش الذي غادرنا في نهاية العشرية الماضية بكل ما للنهايات الشعرية والفلسفية وحتى السياسية من معنى، ها هو يعود إلينا من جديد في بداية هذا الربيع وقد اتخذ له مسافة من واقعنا حتى أصبحنا نقرأه بشكل جيد، ومن خلال هذه القراءة أدركنا أهميته القصوى في المشهد الشعري العربي على مدى تاريخه الطويل، وحتى في المشهد الإنساني. وقد ارتأينا من خلال نظرتين مختلفتين إعادة قراءته من جديد. يقول محمود درويش: ''سوف نلقن الأعداء درسا في الزراعة وانبثاق الماء من حجر. سنزرع طفلا في خوذة الجندي. نزرع حنطة في كل منحدر لأن القمح أكثر من حدود الإمبراطورية الحمقاء في كل العصور. سنقتفي عادات موتانا ونغسل فضة الأشجار من صدأ السنين. بلادنا هي أن تكون بلادنا. وبلادنا هي أن نكون بلادها هي أن نكون نباتاتها طيورها وجمادها وبلادنا ميلادنا أجدادنا أحفادنا) من قصيدة ''مأساة النرجس، ملهاة الفضة''. اللغة هي مسكن الكائن بالتعبير الهايدغري، والشعر هو لغة اللغة، هو اللغة في تكثفها وفي تطهرها من غبار وتلوث عبارات العبور العابر. وشعر محمود درويش المتبلور في سياقات تحوّل تاريخي وجمالي، يتموضع بما يتجاوز الشعري والجمالي، يتموضع بملابسات تمدد الإلغاء لهوية شعب، هو شعب الشاعر، فالتبس الشاعر وشعره بالشعب، وفي التباسه نحت في اللغة دوال حاكت ونسجت ما يلغي الإلغاء، فالموت هزمتها الفنون كما كتب. درويش ليس شاعرا عاديا، إنه استثنائي وفذ بشعرية التكوين التي انبثقت بعطائه، التكوين المنبعث ميلادا متجددا لكيان شعبه وتوهجا لقضية وطن. درويش لم يختف وراء القضية ليصنع هالة بل هو من صنع بتوهجه حضورا جعله أيقونة. انطلق من معاناة شعبه محولا الألم إلى ألم المخاض، وموّلدا بالكلمات لميلاد فينيقي متجدد، ومخترقا الليل بصباحات تتنفس تنفسا مضادا للغازات الخانقة. كتب بصدق الحس وبحمولة الثقافي المتحاور مع المختلف المتعدد وبرؤية فنان متصل منفصل بجدلية خلاقة. كتب بما حرر شعر القضية من وطأة العابر ووقع المنبرية وسطوة الخطابة وفيضان الوطنية وأثر الالتزام الأيديولوجي. كتب الإنساني بجمالية فائقة وبرؤية مفتوحة ولامتناهية، رؤية ما يكمن في دهاليز وأنفاق وسراديب، رؤية ما تحجبه الحجب ويغطيه صدأ الكلمات والأشياء. كتب شعرا تحوّل بيان هوية جعلت المجرم شارون يتحسر ويتقلب أمام شعر تسكنه الأرض وتحمل كلماته ريح وعبق الزيتون. درويش ليس شاعرا عاديا، إنه استثنائي بكل معنى الكلمة، شاعر توهج باللغة وتوهجت لغته لتنسكب حالة ذوبان في فيض انوجاد... لغة متحررة من القولبة التي تتزخرف بضجيج يخفي الفراغ، كانت المفردة في نص درويش مكثفة ومشحونة بحمولة الأرض والتاريخ والأسطورة، حمولة الألم والأمل، حمولة الإحساس والرؤية... كانت اللغة عارفة وعاشقة، كانت اللغة لغة الإنساني. كانت النصوص دينامية بتحولاتها وكانت حداثية في روحها ولم تكن حداثيتها برانية سطحية، لم تسجن بتقنويات صادرت الجمالي ولم ترتهن لشعرنة ألغت المعنى... كانت الكلمات مهووسة بأنطولوجي متكثف، أنطولوجي فلسطيني عربي إنساني. كانت النصوص مكتوبة ببصيرة الذي يرى، الرؤية التي جعلته كإدوارد سعيد يقف ضميرا حيا في حركة شعبه، حركة الكفاح من أجل العدالة. نصوص درويش هي بمثابة الصياغات للروح، صياغات تزيل الصدأ عن الفضة وتجدد حياة النرجس وتخصب شجر الزيتون لتقتبس من زيته ما يشحن نورا يشعل فوانيس الروح فتستيقظ الأعصاب في الكيان ليتحرك بسيرورة تضمن للكينونة صيرورتها. هو الشعر يقوم مع درويش بقامة الخلق والولادة والبعث... هو الشعر يتدفق حياة وعمارة وحبا ونورا، وهو درويش الشاعر الذي صاغ بالصوت والإيقاع وبالكلمات والمعاني ما يمثل علامات ثقافة تمتنع عن الزوال برحم مخصب بجينات العطاء. وهي الثقافة التي تبقي للفلسطيني هويته وتؤجج قضيته بكلمات تطارد المحتل في كل حالاته لتنتزع منه رغبته في فرض حقيقته، كلمات تصاحب الفلسطيني لتحرره من الاستكانة ولتحرره من وطأة العابر والعابرين. تمكن درويش بعبقرية فنية وبصيرة ورؤيوية من الفصل بين عطاء المبدع وبين أداء المناضل، بين الموقف الوجودي الإنساني المتجاوز للظرف وللموقع وبين موقف اللحظة والسياق. تمكن درويش من المزج بروعة بين الموقف والإبداع دون الخضوع لتقريرية المباشرة ولا لشفوية منبرية خطابية والخطابة كثيرا ما تقترن بالضجيج الذي هو دال مصاحب للصناديق الفارغة، كما يقول مثل فرنسي... الموقف لا يعني التضحية بالجماليات والجماليات لا تقترن بالعدمية ولا بالتنصل من الالتزامات التاريخية. في سيرة وعطاء درويش نقرأ ما يتصل بموضوع المثقف ودوره، الدور المتميز بخاصيات، منها إنتاج الرأسمال الرمزي بتعبير بيار بورديو، ومنها الدور الفاعل والمفعل من موقع ثقافي غير مقترن بتكتكات السياسي... درويش بلور ذلك بروعة، بلورة جعلت منه معلما من معالم ورموز يلتقي حولها المختلفون سياسيا وأيديولوجيا. لدرويش سيد الكلمات، بلاغة الصمت التي تمتص رحيق حدائقه الشعرية التي تمددت محوا مضادا لخرابات الفظاعة. لدرويش بلاغة الإنصات لموسيقى نصوصه التي ترحل بنا بعيدا عن العابر وتدخلنا مقام الحضرة الإنسانية. لدرويش بلاغة التذكر الذي يحمينا من النسيان القاتل. لدرويش بلاغة النسيان الفعال بعبارة الجبار نيتشه الذي يعقمنا من تذكر تصنيمي يجعل الأجداد يزدادون ضراوة بتعبير كاتب ياسين . لدرويش الزيتونة، زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية، منها يتزود ويوقد منها الكوكب المنير لدرب الإنسان الذي يصارع الصلب وينتصب حبا وجمالا.