العودة لمدينة الإسكندرية على ساحل البحر المتوسط (التي تبعد حوالي 225 كيلومتر من القاهرة) في هذا التوقيت الثوري المصري، يحتاج إلى محاولة ضبط الساعة على إيقاع التحولات السياسية والاقتصادية التي تشهدها البلاد منذ قيام ثورة الخامس والعشرين يناير (جانفي 2011)· ------------------------------------------------------------------------ حيث كل شيء يبدأ ويفضي إلى تفاصيل هذه الثورة التي وجدت في تلك المدينة الساحلية الموصوفة ب ''عروس البحر الأبيض المتوسط '' ملاذا وحضناً دافئاً لشرارتها التي انطلقت بميدان محرم بيك، وتصاعدت أمام ''قصر المنتزه'' الذي شهد أحداث دراماتيكية منذ ستة عقود مضت حينما تم ترحيل الملك فاروق منه عبر ثورة قادها الضباط الأحرار وأيدها الشعب المصري، باعتبارها أول ثورة تنهي عهد ''الملكية'' لبناء الجمهورية المصرية الأولى في ذات جويلية من عام ,1952 بقيادة القوات المسلحة المصرية وعلى رأسها اللواء أركان حرب محمد نجيب، أول رئيس لمصر ما بعد الملكية· وتعد الاسكندرية ثاني تجمع حضري، وأهم ميناء بحري لمصر في العصر الحديث، كما يرتبط اسمها وتاريخها الحافل بالأحداث بكونها العاصمة القديمة لمصر الفرعونية في الفترة من 332 ق م إلى 461 م حسبما تذكر المصادر التاريخية المصرية· حيث بدأ العمل على إنشائها على يد الإسكندر الأكبر سنة 332 ق م عن طريق ردم جزء من المياه بين جزيرة ممتدة أمام الساحل الرئيسي تدعى ''فاروس'' بها ميناء عتيق، وقرية صغيرة تدعى ''راكتوس'' أو ''راقودة'' تحيط بها قرى صغيرة أخرى تنتشر كذلك ما بين البحر وبحيرة مريوط، واتخذها الإسكندر الأكبر وخلفاؤه عاصمة لمصر لما يقارب ألف سنة، حتى الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص سنة .641 من هنا تستمد الإسكندرية أهميتها التاريخية كعاصمة سابقة وكمركز تجاري واقتصادي مهم في العصر الحديث باعتبارها أحد أهم الممرات المائية التي تربط بين ضفتي المتوسط (الجنوبية والشمالية)· إلا أن أهميتها لا تتوقف عند المحطات التاريخية فحسب بل تمتد إلى الحاضر والمستقبل، فهي تضم أكبر تجمع سكاني بعد القاهرة الحالية، وتمثل مظهرا مهما لروح مصر لجهة تعددها الإثني والطائفي والديمغرافي، حيث يفخر المصريون بعاصمتهم القديمة، التي حفلت بتواريخ التسامح الديني والعرقي الذي انصهر ليشكل خارطة جديدة لدولة تحتفي بالتعدد المثري للحياة العامة· الميناء شاهد على عصور الممالك على الشاطئ المتوسطي تقف لتستعيد ذاكرة الأيام والعصور التي تعاقبت على هذه المدينة المستلقية على أريكة البحر، دون أن تنال من بهائها ونقاء بحرها المسكون بالزرقة الآسرة، على الميناء التاريخي يمكنك ملاحظة معالم الإسكندرية الحديثة التي بناها ''محمد علي باشا '' بعد أن خضعت المدينة للحكم العثماني الذي امتد لباقي أراضي مصر، حيث شيد ''الباشا'' عام 1820م قناة المحمودية لربط الإسكندرية بنهر النيل مما كان له الفضل في إنعاش اقتصاد الإسكندرية، وقد صمم الميناء الغربي كي يكون هو الميناء الرسمي لمصر وتم بناء منارة حديثة، لا تزال تعانق أقدار الزمن وتؤرخ لعصور مضت تاركة وراءها ذاكرة حافلة بالأحداث· وغير بعيد عن الميناء التاريخي لا تزال منطقة المنشية تستضيف أطرزة فريدة من تصاميم المعمارالأوروبي، حيث شيد حكم محمد علي باشا عند رأس التين مقره المفضل الذي يزخر بتركيبة تمزج بين الطراز العثماني والأوروبي، لتكتسب المدينة شخصيتها المزدوجة، وتجذب في تلك الفترة المبكرة من تاريخها، العديد من الفرنسيين واليونان واليهود والشوام، بسبب الانتعاشة التي ميزتها، ولجهة جوها المتوسطي واحتفائها بهذا التعدد، لذلك لم يكن غريبا أن تكون هي مقر قناصل الدول الغربية، منذ ذلك العهد وحتى يومنا هذا·· مدينة متوسطية الإيقاع، مزدوجة الشخصية، آسرة المعنى· ''المنتزه'' قصر الحكام الذي لا يصمد أمام هبة الشعب لهذا القصر تواريخ في التنازع القائم بين الحكام والشعب، فهو نموذج صارخ لهذه العلاقة الملتبسة، التي تختزل الكثير من التفاصيل، فهذا القصر الذي تم إقرار بنائه على يد ''محمد علي باشا''، وأتمه الخديوي عباس حلمي عام ,1892 على مساحة شاسعة تتجاوز ال 370 فداناً، على هضبة مرتفعة تحوطها الحدائق والغابات في موقع فريد على شاطئ الإسكندرية ليكون مقرا صيفيا للأسرة الحاكمة لقضاء أشهر الصيف الحارة، بقي كذلك حتى نهاية حكم الحفيد فاروق الأول، هو ذاته الذي شهد نهاية حكم أسرة محمد علي وانتقال مصر للنمودج الجمهوري، بعد صيف حار من المواجهة مع ''القوات المسلحة المصرية'' التي انحازت لإرادة الشعب حين قررت أن تضع حداً لحكم أسرة محمد علي حاملة جملة من المطالب التي ظل يطالب بها المصريون لعقود طويلة من الزمن· فبينما كان ''فاروق الأول'' ملك مصر والسودان يرفل في هناء العيش ويعانق حرارة الصيف بالتنزه بين شرفات القصر وغاباته بمعية أفراد أسرته الملكية كان القدر يخطط له ما لم يكن في الحسبان عندما استقبل مبعوث ''الضباط الأحرار'' يحمل رسالة اللواء محمد نجيب الموجزة والملهمة: ''أنه نظرًا لما لاقته البلاد في العهد الأخير من فوضى شاملة عمت جميع المرافق نتيجة سوء تصرفكم وعبثكم بالدستور وامتهانكم لإرادة الشعب··· فقد فوضني الجيش الممثل لقوة الشعب أن أطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولي عهدكم الأمير أحمد فؤاد على أن يتم ذلك في موعد غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم السبت الموافق 26 يوليو 1952 ·· والجيش يحمل جلالتكم كل ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج''· كانت تلك الرسالة خاتمة تراجيديا لحكم ملك استمر لاكثر من 16 عاماً، ولم يكن من فاروق إلا قبول الإنذار بالتنازل وتعيين ابنه قبل أن يتم عزله هو الآخر وقيام جمهورية مصر العربية! لا يزال القصر شاهداً ملكاً لتلك الواقعة، لذلك لم يكن أمام ''الجيش الذي تسلم امور الحكم (كما هو الحال الآن تماماً) إلا أن ينهي كل رموز الفساد من خلال فتح القصر لأفراد الشعب يكتشفون أسراره ويفكون طلاسم فترة عاشوا خلالها رعية لهذا القصر الذي مثل سداً منيعا أمام أحلامهم وتطالعاتهم المشروعة· ولأن التاريخ غالبا ما يعيد نفسه، عاد القصر بكل رمزيته وتواريخه السوداء، عندما اعتقد ''مبارك'' أن بإمكانه أن يعيد ''التاريخ'' لكن بنتائج مختلفة، فعاش سنوات طويلة يرفل على حدائق القصر مع أسرته ''الجملوكية '' قبل أن تأتي ساعة الحسم، فيشهد القصر من جديد تفاصيل لا تختلف كثيرا عن تراجيديا 23 يوليو / جويلية ,1952 ليستعيد المصريين من جديد ''قصر المنتزه'' الذي أضحى مفتوحاً أمام الزوار والسائحين الباحثين عن تفاصيل فترة حكم، لا تختلف كثيرا عن أسلاف ''الباشا محمد علي''! فيما يقبع ''مبارك'' وأبنائه خلف القضبان في إعادة دراماتيكية للتاريخ، فلا هو نفذ بجلده نحو الموانئ الأوروبية كما فعل ''فاروق'' وأسرته الملكية، ولا نجح في ضبط الأمور كما فعل دوما أمام تطلعات الشعب، ليصبح القصر شاهداً جديداً / قديما، على انهيار أنظمة الحكام المستبديين أمام هبات الشعب، سيما عندما تتحالف ''القوات المسلحة'' مع تطلعات الشعب وأحلامه· الشهداء ·· خير خلف لم تعد صور ''مبارك'' تعتلي بنايات الإسكندرية، بل اصبح اسم الرجل وأسماء حرمه وأبنائه أثراً بعد عين في شوارع الإسكندرية، فالمؤسسات التي كانت تحمل اسمه استعوضت بما هو أبهى وأنقى من أسماء الشهداء الذين سقطوا خلال الثورة الشعبية التي أطاحت بحكمه· ''ميدان الشهداء'' هو المسمى الجديد لميدان كان يحمل اسم ''مبارك'' بينما نفضت المؤسسات التي حملت اسم حرمه يديها من العهد السابق، وأضحت تحمل أسماء منتقاة من أولئك الشباب الذين رحلوا في عمر الورود، تحت رصاص الأمن المركزي وأجهزة البوليس ''المباركي'' في سبيل ''فجر جديد'' لوطنهم· هنا بوسط الإسكندرية جداريات متقنة تفنن مبدعوها في استعادة ملامح ''سالي زهران'' الشابة العشرينية التي قضت نحبها في ميدان التحرير بمعية رفاقها الذين اصطفوا مبتسمين ليؤرخوا لعهد جديد، أحمد إيهاب الزوج الذي لم يمض على دخوله عش الزوجية بضعة أشهر، وحسين طه، طالب كلية الحقوق الذي صدق وعد المناهج الدراسية بدولة تحتكم للرأي الآخر، ومحمد محروس مهندس الديكور الذي أراد أن يرى وطنا بحجم الصورة التي تسكن خياله المبدع، وأحمد بسيوني الفنان التشكيلي الذي طالما مثل بلاده بلوحات مبدعة عن حلم ظل يراوده تماماً كاللوحة ! ·· وحدهم الشهداء هم الذين يحتلون كل المساحات المفترضة لآل مبارك ورموز نظامهم البائد!· أما المكاتب والمؤسسات التي ظلت ترفع صور الرئيس المخلوع فقد استبدلت الصورة بآية قرآنية ملهمة هي ((إن ينصركم الله فلا غالب لكم))، وهي آية تنتصب الآن في معظم مؤسسات الإسكندرية من محطة القطار إلى الموانئ والمكاتب الرسمية للوزارات· البحر بيضحك ليه؟ على شاطئ ''سيدي بشر'' بوسط البلد وقفت أداعب رماله وأكحل عيناي ببهاء الصورة، مجموعة من الأسر المصرية المصطافة تنتشر في ذلك الشاطئ العام بشكل يوحي بعودة الروح للمدينة الساحلية بعد أشهر من الأحداث، الكل مندمج بين قراءة الصحف التي تحمل أخباراً عن آخر تفاصيل الثورة، وبين مداعب للبحر ومستمتع بمياهه النقية· لا أدري ما الذي دفعني لاستعادة أغنية ''الشيخ إمام'' التي مطلعها ''البحر بيضحك ليه'' ظننت أن البحر يضحك لي أو مني ·· فرحت أحاول استعادة كلمات الأغنية قبل أن يأتيني الجواب بصوت ''إمام'' وهو يختزل الزمن الاستبدادي ''البحر غضبان ما بيضحكش، أصل الحكاية ماتضحكش، البحر جرحه ما بيدبلش، وجرحنا ولا عمره دبل''·· يا له من مبدع ·· مرة أخرى أستعيد المطلع / السؤال: ''البحر بيضحك ليه وأنا نازلة أدلع أملا القلل'' قبل أن يأتيني صوت إمام ''قللنا فخارها قناوي، وتقول حكاوي وغناوي، يا قلة الذل أنا ناوي، ما أشرب ولو في الميه عسل'' وكأنها النبوءة تتحقق على شاطئ الإسكندرية لم يعد أحد اليوم تستهويه غواية شرب مياه ملوثة بالذل، حتى لو كانت بطعم العسل! تتقافز صور كثيرة في المخيلة عن أولئك المبدعين ''الإسكندرانية''، الذين غيروا وجه مصر والعالم بإبداعهم ''سيد درويش، بيرم التونسي، توفيق الحكيم، يوسف شاهين، عمر الشريف، محمود محمد شاكر، عبد الهادي الجزار، إدوارد الخراط، جورج موستاكي، وآخرون·· مكتبة الإسكندرية ·· مساحة الإشعاع والتنوير لا يمكن الحديث عن هذه المدينة دون التعريج على ''مكتبة الإسكندرية'' التي شيدها بطليموس الأول، ويقال أنه تم تأسيسها على يد الإسكندر الأكبر قبل ثلاثة وعشرين قرناً، فيما تؤكد معظم المصادر التاريخية أن ديمتريوس الفاليري اليوناني هو من جمع نواة المكتبة، وهو يوناني عمل كمستشار لبطليموس الأول، حيث نظم المكتبة ووضع تخطيطا معماريا وموضوعيا بحيث تكون معبرةً عن رصيد الفكر اليوناني وعلوم العصر· وعند التجول في ردهات المكتبة توقفت مع ''إيهاب محمد '' أحد الموظفيين الحالمين بغد أكثر إشراقا لهذه التحفة المعمارية والثقافية التي تفخر بها الإسكندرية، وعند السؤال عن الأهمية التاريخية لهذه المكتبة سيما وأن هناك اختلاف حول تاريخ إنشائها من قبل اليونانيين ينبري ''إيهاب'' ليؤكد لي أن السبب الأول يتمثل في أنها ''أقدم مكتبة حكومية عامة في العالم القديم''، مستطرداً بأنها ''ليست أول مكتبات العالم'' كما يقول البعض ومؤكداً ''أن مكتبات المعابد الفرعونية كانت معروفة عند قدماء المصريين ولكنها كانت خاصة بالكهنة فقط '' في إشارة إلى أن المصريين القدماء عرفوا المكتبات قبل أن يشيد اليونان هذه المكتبة! يعود إيهاب وهو يعرض لي مقتطفات من بحثه الذي ضمنه في عدد من المواقع الإلكترونية بما فيها ''وكيبيديا'' التي تحتفي بأبحاثه حول المكتبة ليقول أن أهم ما يميز مكتبة الإسكندرية أنها ''حوت كتبا وعلوم الحضارتين الفرعونية والإغريقية وبها حدث المزج العلمي والالتقاء الثقافي الفكري بعلوم الشرق وعلوم الغرب فهي نموذج للعولمة الثقافية القديمة''· ويرجع ''إيهاب'' عظمتها أيضا إلى عظمة القائمين عليها حيث يفرض قانون المكتبة ''على كل عالم يدرس بها أن يدع بها نسخة من مؤلفاته ولأنها أيضا كانت في معقل العلم ومعقل البردي وأدوات الكتابة مصر حيث جمع بها ما كان في مكتبات المعابد المصرية وما حوت من علم'' وأخيرا يقول محدثي ''أن علماءها تحرروا من طابو السياسة والدين والجنس والعرق والتفرقة، فالعلم فيها كان من أجل البشرية''· ثم يعرض المكتسبات التي أنجزتها المكتبة حتى في عهودها الحديثة، مشيرا إلى مؤتمر الإصلاح العربي الذي انعقد في المكتبة في عز نظام مبارك والذي طالب بالاصلاح وأمه نخبة من العرب والغربيين وضعوا بنوداً ووسائل لتجاوز الانهيار الذي ظلت تعيشه الدول العربية نتيجة انعدام الديمقراطية و''تراجع دور العلم''· ويضيف إيهاب بحماس ''لو كان هؤلاء الزعماء استمعوا لصوت العقل الذي انعقد في المكتبة لما كان هذا مصيرهم'' في إشارة إلى الحكام العرب المخلوعين وأولئك الذين ينتظرون دورهم في الخلع والإبعاد· وعن العهد الحديث أيضاً يضيف إيهاب أن المكتبة بطرازها الجديد تمثل تحفة معمارية وثقافية فريدة، مؤكداً أنها تشكل تواصلاً ثقافيا وعلميا لدورها السابق، ويذكر ''أن التجديد وإعادة البناء تم عام 2002 بدعم من منظمة اليونسكو'' حيث تم تدشين المكتبة الجديدة وتقع كلتا المكتبتين التاريخية والحديثة متحاذيتين بوسط الإسكندرية في مواجهة الشاطئ· وجبة بطعم التاريخ والثقافة غير بعيد عن المكتبة الحديثة وتحديدا في ''محطة الرمل'' بوسط الإسكندرية تمنح البنايات الأوروبية الطراز الإسكندرية طابعها المتوسطي، نظافة الشوارع واصطفاف المقاهي والمطاعم التي تقدم وجبات شبه أوروبية، هي الأخرى تجعلك تشعر بأنك لست بعيداً عن الضفة الشمالية للبحر· كل شيء يوحي بهذا القرب الجغرافي والثقافي وحتى المجتمعي حيث يعد سكان الإسكندرية نموذجاً لانصهار الثقافات الأوروبية والعربية والعثمانية، وبين شوارع هذه المحطة التي تستضيف أهم القنصليات الأوروبية، تتعثر بمجموعة من المقاهي والمطاعم ذات الطابع الشرقي العربي· هنا مطعم ''الخواجة محمد أحمد الشهير'' أدلف نحوه لتناول وجبة الفطور الصباحي، لأكتشف أنه أحد معالم الإسكندرية التي تفخر بجودة المأكولات التي يقدمها منذ زمن بعيد، أطلب ''قائمة الطلبات'' فتصيبني الدهشة، أنا أقرأ على قصاصة ''المينيو'' توقيعات أدباء كبار أمثال نجيب محفوظ الذي كتب ''استمتعت بالوجبة التي ستبقى عالقة في لساني وخيالي ·· شكرا للخواجة محمد أحمد''، قبل أن يختم بتوقيعه الشهير·· يا له من موقع يمثل أثراً تاريخيا فريداً·· في الزاوية الأخرى من المينيو أجد توقيع الممثل القاهري الكبير فؤاد المهندس متضمناً تعليقاً لا يخلو من الدعابة ''الفوول يجنن''، أقلب الصفحات لأجد توقيع الملكة صوفيا ملكة إسبانيا التي تناولت وجبة العشاء بالموقع في الثاني نوفمبر 1989! والمفارقة أن هذا المطعم الشعبي ذو الطراز الفاخر لا يختلف في أسعاره بشيء عن المطاعم الشعبية الأخرى فلا الفاتورة تصيبك بالدوار، ولا المكان يشعرك بالغربة ووحشة الطبقية· تناولت وجبة خفيفة متكونة من ''فول وفلافل وحمص شامي'' لتصيبني الدهشة أن الفاتورة لا تتعدى العشر جنيهات مصرية (حوالي دولارين فقط !)· غادرت الموقع وأنا أتمنى لصاحب المطعم القبض على كل تفصيلة من تفاصيل المطعم وإبقائه كما هو، داعياً له مخلصاً أن لا تصيبه لعنة الماركات فيستبدل المكان بآخر يحمل ''ماركة غربية مسجلة'' أو يصيبه الغرور والجشع فيستبدل الأسعار بفواتير تصيبك بالدوار!· قهوة السلطان حسين ·· الأفندية دون طرابيش للتاريخ حضوره الطاغي في طقس الإسكندرية لذلك لم يكن غريبا أن تشعر وأنت تتجول في طرقاتها إنك زائر مفترض لتواريخ متعاقبة، فعلى شارع مواز لذلك الذي تناولت فيه وجبة الفطور أتعثر مرة أخرى بمقهى شعبي ذو طراز مماليكي ينتصب على ناصية تطل على شوارع أربعة· أسرتني إطلالته الجميلة وروائح الشيشة المنبعثة من المكان، فرحت أدلف نحوه بخطا سريعة، كل شيء يوحي وكأنك في زمن الملكية، لون الأخشاب التي تستبدل الحوائط، واللوحات التي تزين المكان بطرازها العتيق والفاخر، حتى الرواد أغلبهم في عقودهم السادسة أو السابعة، هدوء يلف المكان فلا ضجيج ولا موسيقى تنبعث من الشاشات· كل شيء يوحي بأنك بالفعل قد عدت مراحلاً للخلف لتعيش اللحظة الهاربة من بهو الذاكرة، والتي لا ترتبط في المخيلة إلا في المسلسلات التاريخية عن عهد الملكية، الفارق الوحيد أن أولئك الأفندية الذين يملأون المقاعد ويتبادلون الحوار همساً لا يرتدون ''الطرابيش''· أمعن في قراءة اللافتة فأجدها ''قهوة السلطان حسين'' بجانب صورة شمسية لرجل ذو شارب كث وطربوش يبدو أنه أحمر اللون بالرغم من أن الصورة من نوعية الأبيض والأسود، لأتخيل أنه السلطان حسين ذاته ·· طلبت شيشة بنكهة التفاح وقهوة تركية المذاق ورحت أقلب صفحات الجرائد ·· الوسيلة الوحيدة التي ستعيدني حتما إلى العصر الذي نعيش فيه بعيدا عن عصور ''الطرابيش''· اسكندرية ليه؟ وأنا أرتب حقائبي للعودة إلى القاهرة، تلقيت مكالمة هاتفية من صديق يعتقد أنني لا زلت في القاهرة، وحين أخبرته عن تواجدي في الإسكندرية راح يسألني ''ليه هو انت لسه مصيف'' أجبته بعبارة مختصرة: ألم تشاهد فيلم العظيم شاهين ''اسكندرية ليه'' فهذا الفيلم السؤال كفيلاً بالإجابة أن الإسكندرية ليست مدينة الاصطياف فحسب بل هي مدينة كل العصور والمواسم ·· وعد آخر بالعودة ·· دون السؤال: اسكندرية ليه ؟!·