لكل مدينة من القاهرةوالسويسوأسوانوأسيوط وأخرى، ألقابا طالما ارتبطت بمناجم ثرواتها السطحية والباطنية في مجالات مختلفة، فمن مدينة ''ميامي المصرية'' التي تطلق على الإسكندرية، إلى المدينة الذهبية التي تطلق على أسوان، مرورا بالسويس مدينة التاريخ واقتصاد مصر··· كلها مدن لم تشفع لها الألقاب أمام تآكل واهتراء الأوضاع الإجتماعية للمصريين، الذين أصبحوا يصيحون فيها ''يا مبارك مثل الزين·· السعودية في انتظارك''· عبد اللطيف بلقايم تواصلت لليوم الثالث على التوالي المظاهرات الغاضبة في مصر ومعظم محافظاتها، وأطلق على اليوم الثالث المصادف للجمعة بيوم المليون مصري في جمعة الغضب والحريةب، الذي جاء غضبه على مناطق كانت إلى غاية قبيل نهاية الأسبوع الماضي، مدنا تعتبر مؤشرا على التقدم الاقتصادي المصري. وتبدو الإحتجاجات التي اشتعلت نيرانها في كل من القاهرة بأحيائها الداخلية الشهيرة ومحافظات الصعيد والإسكندرية وأسيوط ودمياط ومدينة 6 أكتوبر، وفي محافظة المنيا وفي بور سعيد وفي أسوان وفي الأقصر والزقازيق، وسوهاج، وبني سويف، وطنطا، تبدو أنها احتجاجات اجتماعية قبل أن تكون سياسية، مقارنة بالانتماء الاجتماعي للشرائح التي نزلت إلى الشارع. تعتبر القاهرة نموذجا مصغرا عن ''جمهورية مصر العربية'' بنسبة سكانية تمثل قرابة ال 20 بالمائة من إجمالي السكان، أي في حدود 19 مليون شخص، وتحتضن -حسب مراجع أخرى- ربع إجمالي المصريين، بتوزيع يقدر ب 15 ألف في الكيلومتر المربع الواحد، ربع البارومتر الرئيسي في معرفة المنحنى السياسي والاجتماعي الذي تأخذه الاحتجاجات، وهي المرجعة النهائية. وبالرغم من كونها المدينة الأكبر، إلا أنها أصغر محافظات مصر بالمفهوم الإداري للمحافظة، إذ تعتبر ما تسمى بالقاهرة الكبرى الكيان الإداري شبه الرسمي لضمه، بالإضافة إلى محافظة القاهرة، مدينة الجيزة وبعضا من ضواحيها وشبرا الخيمة من محافظة القليوبية، بالإضافة إلى محافظتي حلوان والسادس أكتوبر، وهي كلها مناطق سادتها الاحتجاجات لكونها تحتضن أهم جيوب الفقر في عاصمة اأحفاد الفراعنةب، خاصة منطقة شبرا المعروفة بخطورتها بسبب الانحرافات وارتفاع مستويات الجريمة فيها، على خلفية انعدام مخططات التكافل الاجتماعي من طرف الدولة. وتأتي في المرتبة الثانية منطقة أسيوط وضواحيها، التي كانت طيلة سنوات تتصدر تقارير المنظمات الإنسانية التي تندد بكثرة جيوب الفقر فيها. وتعتبر أسيوط أيضا - حسب منظمة اليونيسيف - أكبر المناطق العربية وليس المصرية فقط، التي تعرف درجة خطيرة من ظاهرة عمالة الأطفال، والتسرب المدرسي في سن مبكرة. لكن بعد أن قامت السلطات المصرية بإنشاء جامعة أسيوط وبناء عدد من المنشآت التربوية بدأت نسبة الأمية تعود إلى الخلف، بعد أن كانت المدينة مضربا للمثل في الأمية في مصر قاطبة. وبالرغم من كل محاولات الحكومة رصد برامج إنمائية للمنطقة، إلا أن درجة السأم واليأس الذي استولى على أذهان قاطنيها، كان أكبر من أن يتم التأثير عليه بمجرد الإعلان عن برامج محدودة للتنمية المحلية. كانت مدينة السويس أبعد ما تكون عن إمكانية نشوب الاحتجاجات فيها من خلال تحاليل العارفين بالملف مصري، كونها مدينة من أهم شرايين الاقتصاد المصري، التي يُفترض أن تكون مصاصة لما حولها من ظواهر اجتماعية نابعة عن الفقر والبطالة، إذ هي أكبر المدن المصرية المحتلة لواجهة البحر الأحمر، وهي أيضا مدينة كبيرة في التاريخ السياسي والمصري كونها ملحقة في ذاكرة المصريين بانتصارات وانكسارات تاريخية كبرى، فضلا عن أنها مدينة االقنالب كما تدعى الرابطة بين البحر الأحمر السويس والبحر الأبيض المتوسط. وتستمد السويس نهضتها من مينائها المسمى ابور توفيقب ومن ''القنال'' ومن مبنى إصلاح السفن ومن سياحتها أيضا، إلا أن وصول الفقر إلى غالبية سكانها على ظهر كل تلك المنشآت كانت كافية لتكون شعلة لهيب إضافية على الزيت المسكوب في كامل ربوع مصر. الإسكندرية.. أو اميامي مصرب كما يُطلق عليها نسبة إلى مدينة البحر والأحلام، الأمريكية، هي الأخرى انخرطت بمعظم أولادها في الغضب الشعبي في مصر، ولم تلتحق به في جمعة الأمس فقط بل كانت من أولى المدن التي عرفت التردي الإجتماعي، وهي المدينة التي تحتوي على أكبر ميناء مصري تمر به 80 بالمائة من صادرات وواردات هذا البلاد. الإسكندرية هي العاصمة الأولى تاريخيا لمصر، والثانية حاليا، بالإضافة إلى كونها منطقة أثرية بامتياز واحتوائها على أهم مكتبة عربية الحاوية 80 مليون كتاب. لكن الأربعة ملايين نسمة الذين يعيشون بالأساس من الأنشطة التجارية والزراعية والصناعية، يبدون غير راضين بالأوضاع، وهو المؤشر الذي يجعل الحركة الاحتجاجية تصطبغ بالمطلب السياسي، كونها أيضا تحتضن اجتماعيا في أحيائها الراقية معظم الإقامات المزدوجة لرموز النظام المصري وأنظمة أخرى. أسوان يسميها المصريون القدامى مدينة الذهب، لكنها في عهد مبارك أصبحت مدينة الغضب. فبربع مليونها من الساكنة، تحوّلت المدينة إلى أهم المدن المصرية احتجاجا على نظام مبارك القائم. فبمتاحفها ومواقعها الأثرية التي تعتبر مصدر رزق أساسي لساكنيها، كانت في مقدمة المدن الثائرة بالرغم من تسجيلها أعلى مستوريات الزيارات السياحية سنويا في مصر . مؤشرات مصرية -- تبلغ مساحة مصر حوالي مليون كيلومتر مربع، 96 % من مساحتها صحراء و4 % من مساحتها صالحة للزراعة -- عدد سكان مصر أكثر من 77 مليون نسمة -- حسب تقرير الأممالمتحدة 40 مليون مصري منهم تقريبا النصف يعيشون تحت خط الفقر بأقل من دولارين في اليوم حسب أرقام الأممالمتحدة· ---------------------------------------------------------------------------------- أمريكا·· ثورة الياسمين وبلاد النيل كان يمكن أن تسير الأمور في تونس على غير ما سارت عليه لولا أن الشارع استبق المشروع الفرنسي الذي أعلنت عنه وزيرة الخارجية، ميشال آليو ماري، والمتمثل في مساعدة نظام بن علي على قمع التونسيين· لم تكن الوزيرة، بالتأكيد، تعبر عن موقفها الخاص، بقدر ما تعكس مقدار ما تمثله تونس بن علي من رهان لفرنسا· وكانت فرنسا في ذلك تواجه، إلى جانب الغضب الجماهيري، مشروعا آخر عبرت عنه، هذه المرة، قوة أكبر منها: الولاياتالمتحدةالأمريكية· واختلاف الرهانات، بين مصر وتونس، هو مفتاحنا في فهم الفرق بين موقف البيت الأبيض في حالة ثورة الياسمين، وفي حالة انتفاضة بلاد النيل· الرهان الأمريكي في تونس يشبه الحرية التي تعطى لبعض مراكز البحث في علوم مختلفة، على شرط أن تبقى نتائجها حبيسة المخابر دون السعي لتطبيقها على مختلف مجالات الحياة· فالأمريكيون في حاجة إلى معرفة مدى تعطش الشعوب العربية إلى الديمقراطية، ومدى قدرة هذه الشعوب على تطبيقها، وفهم ردود الأفعال اتجاههم، وأخيرا قدرة الثورة على تصدير نفسها إلى بقية البلاد العربية· وهي تجربة يسمح بها في تونس، هذا البلد الصغير المسالم والبعيد عن تهديد المصالح الأمريكية الكبرى· إن معرفة هذه الأشياء توفر عليهم الكثير من الوقت والوسائل في مناطق أخرى حيث تطرح رهانات من نوع المشكلات التي تطرحها ثورة شعبية في مصر أو العربية السعودية· ومن السذاجة الاعتقاد بأن الأمريكيين يجهلون هشاشة الاستقرار الاجتماعي في مصر، ويجهلون، معه، خارطة القوى المعارضة للسلطة، ولا الكيفية التي يتعامل بها معها نظام حسني مبارك· كما أنهم لا يجهلون خطورة التوريث في بلد عرف النقاش السياسي الحر منذ أكثر من قرن من الزمان، وفي بلد عرف الصحافة قبل الكثير من البلدان الأوروبية، وربما حتى قبل الولاياتالمتحدة نفسها· ولا يجهل الأمريكيون أن نجاح التوريث السوري تجربة فريدة من الصعب تكرارها في البلاد العربية الأخرى، وبخاصة في مصر· الحقيقة أن مراكز البحث الأمريكية، والتي تعمل لحساب الحكومة بالتحديد، اهتمت بالموضوع المصري منذ سنوات طويلة، وعبر الكثيرون من المحللين الأمريكيين عن قلقهم، أولا، وعن حيرتهم إزاء تطور الأحداث· ويبدو أنهم كانوا في حاجة إلى عملية مخبرية محدودة، من نوع ما جرى في تونس، لتعينهم على إيجاد الحلول المناسبة في الوقت المناسب· ولا تعبر مختلف التصريحات الرسمية الأمريكية، من هيلاري كلينتون إلى باراك أوباما، عن تناقض في المواقف بقدر ما تعكس تطور الموقف الرسمي بالتوازي مع تطور الأحداث في الشارع المصري منذ يوم 25 جانفي· في البداية أكدت كاتبة الدولة للخارجية عن ثقتها في استقرار الحكومة المصرية· وذلك طبيعي تجاه نظام حليف دافع بقوة عن الوجود الأمريكي في المنطقة وتحمل ما تحمل داخل البلاد العربية· ولنلاحظ أن كلينتون لم تلتزم بشيء ولا اقترحت أية مساعدة، كما فعلت نظيرتها الفرنسية مع الحكومة التونسية· إنه تصريح من قبيل الواجب وأضعف الإيمان، وبعكس ما فهمه الكثيرون فيه شيء من الحذر· ومع تطور الأحداث تبين للأمريكيين أن التجربة التونسية لم تكن بالبساطة التي يظنون، وأن نتائج المخبر التونسي أفلتت من أعين الرقابة، ووصلت فعلا إلى ضفاف النيل· ويجب أن نلاحظ أن عدد الضحايا، الذين سقطوا في مصر، في يومين أكبر من عدد الضحايا التونسيين في الأسبوع الأول لثورة الشارع، على الرغم من الاختلاف النسبي بين البلدين في فلسفة القمع· وعندما وصلت الأمور إلى هذا الحد عادت هيلاري كلينتون لتقول: إن على الحكومة المصرية أن تعيد فتح وسائط الاتصال والحوار، كالشبكات الإجتماعية عبر شبكة الأنترنيت، إلى جانب تصريحات أخرى لمسؤولين أمريكيين يرثون فيها سقوط ضحايا وينادون مختلف الأطراف إلى ضبط النفس·· إلخ.· وفي الأخير جاءت تصريحات باراك أوباما تدعو الرئيس حسني مبارك إلى الاستماع إلى صوت الشارع والمبادرة بالإصلاح السياسي والاقتصادي، واعتبار ما يجري فرصة للحكومة لتعديل سياستها·· ولنلاحظ أن مختلف هذه التصريحات، الأمريكية والأوروبية أيضا، لا تساند الشارع ولكنها تحذر النظام، معبرة عن قلقها من نجاح الشارع المصري كما نجح الشارع التونسي· ولكن ثقتها في استقرار النظام لم تتزعزع· ذلك أن سقوط النظام المصري يمثل أكبر كارثة سياسية يمكن للغرب أن يتصورها، وهو الذي يعلم مقدار التأثير المصري في العالم العربي من المحيط إلى الخليج· وهو يعلم أن سقوط النظام المصري، إثر ثورة شعبية، يعني ببساطة انتشار الفتيل في باقي البلدان العربية كالنار في الهشيم· وسيكون السباق حادا والصراع رهيبا بين الشارع المصري ومختلف المخططات التي تكون الولاياتالمتحدة، في هذه اللحظة، بصدد نسجها واقتراحها على حسني مبارك للخروج من الأزمة· ولكن هناك مشكلة وهي أن مبارك يمكنه أن يفاجئهم بنوع من الاستقلالية كما فعل ذلك خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة وهو يرفض، من ناحية، مراقبين دوليين، وهو يندد، من ناحية ثانية، بمحاولة التدخل في شؤونه الداخلية· ومن هنا فعلى الأمريكيين أن يحسبوا هذا الحساب أيضا· فمن مظاهر تلك الاستقلالية نتائج الانتخابات التشريعية والإصرار على فوز الحزب الحاكم بالأغلبية الساحقة، وإقصاء المعارضة، إقصاء يكاد يكون كليا· وهي استقلالية من قبيل الأخطاء التي تقع فيها جميع الأنظمة الشمولية المرتشية في العالم، وهي أخطاء لا نعتقد أنها ترتكب بمباركة الحليف الأكبر: واشنطن· و من مظاهر ''هذه الاستقلالية'' أيضا، الأخبار التي تناقلتها وكالات الأنباء، صبيحة أمس، عن وضع رهن الإقامة الجبرية المعارض محمد البردعي، الذي وصل إلى القاهرة يوم الخميس مصرحا أنه جاء ليشارك في مظاهرات جمعة الغضب، وأنه مستعد لقيادة المرحلة الانتقالية بعد رحيل حسني مبارك· يمكن أن يكون محمد البردعي إحدى الورقات الأمريكية· وقد قيل ذلك كثيرا منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه الأخير نشاطه السياسي كمعارض لبقاء حسني مبارك في السلطة، وستكشف لنا الأيام القادمة مدى صحة ذلك، وسنعرفه من خلال تصرف الأمريكيين بعد عملية وضعه رهن الإقامة الجبرية هذه، تماما كما سنعرف ما تجود به المخابر الأمريكية من مخططات، وسنرى، بالخصوص، الطرق التي ستلجأ لها الولاياتالمتحدة لمنع وصول الثوار إلى القصر الرئاسي·