يطرح مهرجان الإنتاج المسرحي النسوي، الذي تحتضنه عنابة لأول مرة، إشكالية الخشبة والمرأة، والعلاقة التي بنتها هذه الأخيرة مع أبي الفنون، بصفته فنا تعبيريا يتطلب دراية لأصوله وميلا فطريا تدفعه الموهبة لممارسته. واختلط في ذهن بعض الممثلات وحتى لدى عامة الجمهور الحاضر في العروض، الفرق بين المسرح المناضل من أجل تحقيق مطالب المرأة ورغباتها الخاصة وبين المسرح الذي يحمل همّ المرأة بصفتها عضو في المجتمع، وقدرتها على نقل جزء من الهمّ الجماعي على لسانه ما دامت عنصرا يلقي المجتمع على عاتقه عبئا ثقيلا. المخرجة فوزية آيت الحاج: العربي زكال أول من تطاول عليّ أتذكر يوم قررت دراسة المسرح، عارض والدي بشدة خياري، كنت في الثانوية، في زمن كان الأولياء يتمنون رؤية أبنائهم إما أطباء أو مهندسين أو طيارين أو محامين، كان حلمهم أن يساهم الجيل الجديد في بناء الجزائر المستقلة حديثا، التي وجدت نفسها تفتقد لإطارات وخبرات. من هذا المنطلق رفض أبي دخولي للمعهد العالي لفنون العرض ببرج الكيفان. لم يكن رجلا أميا، كان شاعرا ينظم قصائده باللغة الأمازيغية. إلا أن إصراري فاق كل معارضة، فأنا كبرت في مدرسة الأخوات البيض، اللائي تعلمت منهن قيمة الفن الرابع، ومثّلت المسرح الكلاسيكي في ثانوية بيار بور سنة 1958، كنا نمثل لشكسبير وموليير بقاعة سان جورج بحسين داي. نجحت في الدراسة، وانتقلت إلى الجامعة، ولم أنقطع عن الخشبة، من خلال جمعيات فنية، إلى أن سمعت بإرسال بعثة للدراسة بالإتحاد السوفيتي سابقا، وحصلت على منحة، وسافرت وأقمت هناك سنوات. عندما عدت إلى الجزائر، كان زياني شريف عياد مديرا للمسرح الوطني، اقترحت إخراج مسرحية ''وفاة البائع المتجول''، واحتجت إلى مجموعة من الممثلين والممثلات، على غرار دوجة، وهيبة، كلثوم، سيد علي كويرات، العربي زكال، إضافة إلى قصدرلي، نادية طالبي، بوعلام بناني... كانت أسماء مهمّشة. أتذكر أول رجل تطاول عليّ بصفتي مخرجة، كان المرحوم العربي زكال، الذي لم يستسغ وجودي كمديرة للممثلين، وراح يستفزني بقراءة الجريدة بدل الإصغاء لي وأنا أقرأ عليهم نص المسرحية. آلمني السلوك آنذاك، لكن فيما بعد علمت أن العربي -رحمه الله- كان منزعجا مني لأني أخذت زوجته وهيبة ممثلة، وهو كان يفضّل أن تبقى في البيت. لا أنسى الظروف الصعبة التي مررت بها آنذاك، استغرق العمل تسعة أشهر كاملة، كدت أن أنسحب في أي لحظة لولا تشجيع المرحومة كلثوم، كان الأمر قاسيا جدا، لأن المحيط كان ينظر باستصغار لأني امرأة متعلمة في الخارج، وجئت لأمارس المسرح في جو مختلف.. بعد العرض الأول، الأقلام الصحفية الرجالية كانت قاسية عليّ، حطمت معنوياتي. أما اليوم، فأشعر بثقة لا حدود لها، تجربتي مهما كانت جميلة أو سيئة، أفادتني وأصبحت تشكل محورا في شخصيتي الفنية. الممثلة وهيبة زكال: رجال في حياتي: والدي.. التوري والعربي زكال جئت من عائلة متواضعة جدا، والدي لم يكن متعلما ولا مثقفا، لكنه كان متفتحا ومتنورا، عندما رغبت في ممارسة المسرح، تحاورت معه بهدوء، لم نتصادم، ولم نتخاصم أيضا، سرعان ما اقتنع برغبتي، فأصبح أول من يحضر عروضي ويجلس في الصفوف الأولى يتابع عملي، لهذا السبب لم يجد أعمامي وأخوالي، سبيلا لمنعي، بل باتوا بدورهم فخورين بي. مراحل كثيرة مررت بها في حياتي الفنية، بدأت الفن مع محي الدين بشطارزي، الذي كان في بحث مستمر عن وجوه نسائية لأعماله، فتقدمت إليه وامتحن قدراتي في النطق باللغة العربية الفصحى، جربني واستمع جيدا إليّ، وأعجب بمخارج حروفي ولغتي.. كان ذلك في .1950 أيامها كلثوم كانت المفضّلة لديه، كان يوزعها في كل أعماله، وكانت هي تعشق المسرح، فقد عوضتها الخشبة عن آلامها، وساعدتها على تجاوز مشاكلها الخاصة.. لم تفارق الخشبة يوما.. كنت منافستها، لكن صداقتنا كانت أقوى واستمرت إلى ما بعد .62 في الثورة كان عملنا ضئيلا، عانينا الجوع والفقر، لم أكن أملك مسكنا، فأقمت عند الفنانة نورية، التي لم تغلق بابها في وجهي، حتى عندما استفدت من مسكن في ديار المحصون، كنت أغلقه لأذهب عند نورية. في 1957، قررت جبهة التحرير الوطني، تلحين النشيد الوطني، فطلبت من زوجي الأول محمد التوري تلحينه، وكنت واحدة من الأصوات التي اختارها المرحوم لأداء النشيد: عبد الرحمن رواس، طه العامري، محمد كشرود، سعيد كشرود، قدور سرارجي، إضافة إلى أربع نساء هن هجيرة بالي، أميرة كشرود، وأنا.. لم تكن لنا علاقة بالغناء، في السبعينيات (70-77)، وصلت لمرحلة عسيرة، كرهت المسرح، بل ''كرّهوني'' في الفن، بعد الحصار الممارس عليّ، والتهميش الذي طالني لسنوات، لم أحظ بأي دور، حتى بلغ الأمر بأحد الزملاء أنه سخر مني يوما في بهو المسرح الوطني، حين رآني أقرأ لوح تعلق فيه قوائم الممثلين وأعمالهم. شعرت بالهوان، لهذا ابتعدت عن المسرح والتمثيل، ولهذا أيضا لم أكن أنزعج عندما كان المرحوم زوجي العربي زكال، يعترض عن بعض الأدوار، كان يخاف عليّ ويحرص على راحتي. الممثلة فطومة بوعماري (أوصليحة): عائلتي قصّت شعري كاملا بسبب الغناء أحببت التمثيل منذ الصغر، لكني بدأت بالغناء، ليكون السبيل الأقصر الموصل إلى الخشبة.. أعتقد أنني أول من غنت الشعبي في الجزائر، في أغنية ''يوم الجمعة راح طيري''. كنت أكذب على أمي لأذهب إلى الحفلات، في السر ذاع صيتي، إلى أن نلت فرصة الظهور على شاشة التلفزيون، لم نكن نملك جهازا ساعتها، لكن شاء القدر، أن اجتمعت عائلتي عند الجارة، وفي لحظة غير متوقعة أظهر أمامهم تقدمني المذيعة.. عدت إلى البيت ووجدت الأمور هادئة، لم أعرف ما العمل، خفت، لكن لم أتوقع أن الكل شاهدني.. عقوبتي كانت قاسية، لقد قصوا شعري كليا.. (تضحك) أيام بعد ذلك دعيت لإحياء حفل في مسرح الهواء الطلق، لم أفوت الفرصة وصعدت على الخشبة وتحايلت على شعري لإخفاء عيوبه.. بدأت المنوعات مع حداد الجيلالي، ثم مسرحية ''الدنيا ظلامت لي والحياة مرار''، أخرجها مصطفى كاتب، وقد لاحظ شخصيتي واقترح تجريب حظي في أعمال لاحقة، وهكذا وزعني في مسرحية ''جنة الغولة'' رفقة رويشد. الممثلة فتيحة بربار: الفن لا يتعارض مع الأخلاق والشرف بالنسبة لي نجحت في إقناع العائلة، بأهمية الفن وبكونه لا يتعارض مع الأخلاق ولا مع الشرف، المهم أن تحافظ المرأة على سمعتها وسمعة أهلها، وأن لا تتخطى الحدود الموجبة.. دخلت معهد الموسيقى مع قصدرلي، كان بحاجة إلى ممثلة في مسرحية ''المرأة العالمة''. كان لي الحظ وعملت مع كبار الفنانين، وعمالقة الخشبة، ساعدوني وتعلمت منهم.. التخوف الذي لم يفارق والدتي كان عدم زواجي، كانت تخشى أن لا أوفق في تأسيس أسرة.. لكن الحظ حالفني وارتبطت برجل يقدر الفن. العشرية السوداء كانت مرحلة مؤلمة في حياتي، لا زلت أحتفظ بصور المنفى القصري، وأنا في الخمسين من عمري، لم أكن أتصور أن أهاجر البلد جراء نزعة قاتلة. لولا مساعدة مديرة مسرح الشمس بباريس، التي آوتنا ورافقتنا لإنتاج مسرحية عن المهاجرين. المؤلفة نجاة طيبوني: عرقلتني النساء وليس العائلة أحببت الكتابة منذ الصغر، أرى فيها وسيلة جميلة للتعبير عن الذات، أشعر دوما بالحاجة إلى الكتابة منذ أيام الثانوية، حيث كنت أؤدي بعض الأدوار. بعد دراسة جامعية، تخصص حقوق، عملت في الصحافة المكتوبة، وفي المؤسسة الوطنية للإنتاج السمعي البصري، حيث التقيت بصونيا ومصطفى عياد، يحضران لمسرحية ''الحضرية والحوات''، كانا يفكران في ملامح الشخصيتين، واقتحمت عليهما جلستهما، وساعدتهما، بعد موافقة صونيا عليّ، وشاءت الظروف أن انشغل عياد بمرض والده رويشد الذي كان في مرحلة متقدمة من المرض، فوجدت نفسي أؤلف ما تبقى من المسرحية. في حقيقة الأمر، لم تعترضني مشاكل من نوع ما سبق ذكره من قبل الأوائل، لكن أعتقد أن أكبر مثبط للعزائم، في مساري المتواضع، ليس العائلة بل هن النساء.