بعد ثلاث سنوات ثرية قضيتها في الإذاعة، وجدت نفسي في مسرح العاصمة، أنا الذي لم أتلق أي تعليم أكاديمي الذي طالما حلمت بالغناء، فإذا بي أجد نفسي إلى جانب أسماء كبيرة، عمالقة، أساطير حركة المسرح الجزائري· لم أعد مجرد صوت، أنا ممثل يؤدي أمام جمهور حقيقي· بالرغم من السنوات الثلاث التي اشتغلت فيها دون هوادة، وبالرغم من 600 مسرحية التي أديتها في الإذاعة، لم أستشعر معنى أن تكون ممثلا إلا عند وقوفي في العرض الأول لمسرحية ''أمباسا'' أمام الجمهور· لم يكن هذا الأخير يعرفني، كنت بالنسبة له ''اللاخمي'' الشخصية التي كنت أؤديها على الركح، شخصية متهورة تسجل دخولها من خلال النزول من فتحة المدفأة صارخا: ''تاكلوا وحدكم''· لم يكن في القاعة من بين الحضور أي من معارفي ولا عائلتي، التي كانت تتابع مسيرتي في الإذاعة، التعليق الوحيد الذي كان يتردد: ''أحسنت''، لم تكن تدور بيننا نقاشات حول نشاطي، بالنسبة لهم كان عملا مثله مثل أي عمل آخر· كنت أدرك أن المتواجدين في القاعة من المتعودين على المسرح الوطني الجزائري، لم أكن أعرف حينها ولم أرغب في معرفة ما إذا كان من بين الحضور عدد من الشخصيات الرسمية، بالنسبة لي كان كل الجمهور الحاضر رسميا· كنت أقف للمرة الأولى على ركح المسرح أمام العربي زكال، سيد أحمد أفومي، وهيبة، حاج سماعيل··· قمنا بتأدية العرض أربع عشرة مرة في كل من عنابة، قسنطينة، سيدي بلعباس··· العرض الأخير كان في تونس· في نهاية العرض كان العديد من المتفرجين يتقدمون نحوي من أجل تشجيعي والثناء على أدائي، كان معظمهم يجمعون على قدرتي في تأدية الدور باقتدار· مع آخر عرض الذي كان في تونس بدأت أستمتع بدلا من التعلم، الاستمتاع بدخول الركح والوقوف أمام الجمهور، أصبحت أكثر راحة وانطلاقا· في الوقت ذاته أدركت حينها أن اللعب فوق خشبة المسرح ممتع وسهل، اكتشفت أن عدة عناصر الخارجة عن إرادتنا تدخل في الاعتبار على غرار تشكيلة الجمهور وطبيعته· قد يعتقد البعض أننا نتحكم في الأداء، لكن يحدث أن ينسى الممثل النص، ما يجعل تجربة كل عرض قصة خاصة في حد ذاتها، لا يمكن أن يتشابه أي عرض مع آخر· فيما يخصني، كنت بانتظار التقييم، تقييم ياسين· لم أعد أذكر بعد كم من عرض تقدم ليحدثني، لكني أذكر جيدا كلماته: ''ما تقوم به جيد''، كانت تلك الكلمات كافية بالنسبة لي· كنت في 27 من العمر أقوم بعمل أعشقه يمنحني راتبا أكثر من اللائق بالنسبة لتلك الفترة 900 دينار، إذ لم يكن إيجار شقة في العاصمة يتجاوز 110 دينار، رغيف الخبر لم يكن يتجاوز ستة سنتيم وسعر تذكرة الحافلة 8 سنتيم· لم يفقدني هذا الوضع المهني والمادي الجيد الصواب، فقد كنت أمنح راتبي لوالدي· كان الراتب يسلم لنا في أظرفة من طرف المغني بوطيبة، رحمة الله عليه، الذي كان يشغل منصب منسق عام بالمسرح الوطني الجزائري· كنت واحدا من ذاك الجيل·