منا يذكر اليوم أديبنا الجميل الطويل، عمار بلحسن، الذي كان يكتب قصة قصيرة بامتياز؟.. أي رصيد أضافه لدنيا الأدب الجزائري المعاصر؟.. وماذا عن جهوده المثمرة في مجال البحث العلمي الجامعي؟.. لعلها تساؤلات مشروعة مثيرة للجدل، تطرح من جديد ضمن ملف اليوم وسجل الغد. ماذا أقول عن العلاقة المتينة التي جمعتني مع الأديب بلحسن طوال عشرين سنة (73 - 93)؟ ماذا أحكي عن تجربتنا معا في الكتابة والصحافة، ونشاطاتنا ضمن إتحاد الكتاب الجزائريين والملتقيات الأدبية والثقافية؟ هل من حقي أن أتساءل عن كتاباته المتناثرة وأوراقه الملونة المنسية؟ سأحاول أن أتحدث عن اللحظات الهاربة من وجه الزمن الجميل، وأكتب بالاختصار المفيد عن بلحسن الذي نعرفه ولا نعرفه، من خلال المحطات الموالية: 1- في إتحاد الكتاب عرفت عمار بلحسن أول مرة من خلال قصصه القصيرة وكتاباته الأدبية التي كان يبعث بها إلى ملحق الشعب الثقافي خلال سنتي 72 و73 وكنت وقتئذ ضمن هيئة التحرير، كنت أشعر بأن ما يكتبه عمار أكبر من حجمه وأصغر من قامته الفارعة. ثم التقينا بصدر وهران في ربيع 74 وتوالت جلساتنا الأدبية والحميمية، إلى أن شرعنا في التحضير الجدي لتأسيس أول مكتب جهوي لإتحاد الكتاب الجزائريين. وتوجت هذه الجهود المتواصلة بتنصيب مكتب الإتحاد بصفة رسمية يوم 20 نوفمبر 1975 من طرف كل من الأستاذين: الدكتور عبد الله ركيبي والدكتور عبد الله شريط، وليضم المكتب الأسماء الموالية: عبد الله المالك مرتاض، يحيى بوعزيز، بلقاسم بن عبد الله وعمار بلحسن. وباشرنا العمل الجماعي سويا لإثراء المشهد الأدبي والثقافي بالغرب الجزائري، من خلال تنظيم المحاضرات والندوات والأمسيات الشعرية والقصصية، لتتوج بإقامة أول ملتقى للنقد الأدبيبوهران في أواخر ماي 83 بمشاركة نخبة من المختصين. كان عمار يومئذ نموذج المثقف الشاب العملي، يتحرك بفعالية وسط ورشة ثقافية، يتدخل أثناء الندوات والملتقيات، يبدي رأيه الصريح دون تعصب، ويناقش ببرودة أعصاب، و''يٌنكت'' كثيرا في الجلسات الحميمية بين الأصدقاء المقربين. 2 - في الملتقيات والمهرجانات شارك عمار في معظم الملتقيات والمهرجانات الأدبية التي أقيمت داخل الوطن، في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات حول المحاور التالية: النقد الأدبي (وهران) والقصة القصيرة (سعيدة) والرواية (قسنطينة) والأدب والثورة (سكيكدة). كما ساهم بمداخلاته ومناقشاته في بعض الملتقيات المتخصصة خارج الوطن مثل: الأدب الثوري (ليبيا 1981)، أدب وتراث المغرب العربي (فرنسا 1981) بناء الدولة في المجتمعات العربية (الولاياتالمتحدةالأمريكية 1958)، مهرجان المربد الشعري (العراق 1988). وأتذكر جيدا نشاطاته الفعالة في معظم تلك الفعاليات، فقد كان يجاهر برأيه ويدافع عن أفكاره بأسلوبه الدقيق المركز مما يجعل الآخرين يحترمون رأيه وإن اختلفوا معه. 3- نشاطاته الإعلامية ظل الجانب الصحفي مهمشا في أعمال عمار بلحسن، رغم أنه اشتغل سنتين بوكالة الأنباء الجزائرية APSبوهران (76 - 77)، وبجريدة الجمهورية (1978)، كما راسل بعض المجلات الثقافية العربية مثل: الأقلام (بغداد)، المنتدى (دبي)، فصول (القاهرة) وظل مداوما على الكتابة المستمرة بملحق النادي الأدبي لجريدة الجمهورية من 79 إلى 86 يكتب عن أعلام ورموز الأدب العالمي، وعن تضاريس الثقافة والهم العربي. وما زلت أذكر جيدا مقالته المتميزة بأقصر عنوان ''ك...'' وقد نشرت بالعدد 396 من ملحق النادي الأدبي بتاريخ 18 نوفمبر 1985 ومما جاء فيها: ''كفلسطيني شتته الأمم، ويبحث في جغرافية العالم عن بقعة وجواز سفر.. كغابة تنزع أشجارها بين لهب حريق.. كروح هائمة تبحث عن جسد.. كلغة عادية تحلق عاليا نحو قصيدة.. كنغمة تعاني الوصول نحو سمفونية.. كقطعة حجر تبحث عن يد فنية.. كورقة تعشق قلما وتتوق لحبر ودواة..'' 4- في الجو العائلي ظل عمار وفيا مخلصا لأسرته الكريمة، يدخل المنزل لتواجهه ابتسامة زوجته المحبوبة فاطمة، وبشاشة ابنته الكبرى سناء، وبراءة الصغرى نسمة وفضوليات ابنه الذكي أنيس. كنت أزوره من حين إلى حين، لأجده يقضي معظم وقته بين مداعبة الأبناء وقراءة الكتب والمجلات والجرائد، ومتابعة المفيد من الحصص الإذاعية والتلفزيونية، والاستماع إلى الموسيقى، وكتابة القصص والمقالات والدراسات. وكان يرتاح كثيرا لزيارة الأحباء المقربين من أهل الأدب والثقافة، ليتبادل معهم فاكهة الكلام. وغالبا ما كان يصحب أسرته في عطلة الصيف إلى الشاط للاستمتاع بروعة البحر. 5- أوراقه المنسية خلال لقاءاتي العديدة معه، وحواراتي الإذاعية ببرنامج دنيا الأدب، وقد نشرت بعضها بجريدة الجمهورية، ظل يشكو من ضيق الوقت أمام الطموحات الكبيرة، ويعاني ككل المثقفين الجزائريين من سلحفاة النشر. فأوراقه المكتوبة متناثرة هنا وهناك. وما طبع له هو جزء من كثير مما هو مخطوط، لا يزال يبحث عن الأيادي البيضاء الكريمة لتنتشله من الإهمال والضياع. فقد خلف المرحوم وراءه سيناريو وثائقيا تلفزيونيا عن الشهيد أحمد زبانا الذي دشن المقصلة الاستعمارية الفرنسية في 19 جوان ,56 كما ترك عدة بحوث ودراسات حول المحاور التالية: الدولة والثقافة في الجزائر - الرواية والتاريخ في الجزائر، الأدب الوطني في الجزائر، بالإضافة إلى مقالاته العديدة بالنادي الأدبي، وبعض المجلات الثقافية. لقد رحل عنا عمار بلحسن في 29 أوت 1993 في ظرف نشكو فيه من الفقر الإبداعي والنقدي والتهميش والإجحاف - كما كتبت وقتئذ بعد يومين من وفاته بجريدة الجمهورية - آه يا عمار كم كنت شامخا وحدك، قبالة الداء والإحباط وفوضى الأشياء، فمن أين تأتي الدهشة الجديدة؟ آه يا عمار رحلت في عنفوان الشباب (53 93) غير أن أعمالك تظل باقية راسخة بيننا، تضيء الطريق، وتقاوم البرودة واللامبالاة. .. والآن، وبعد أزيد من 18 سنة على رحيله، يعود التساؤل الجوهري ليطرح من جديد: أي رصيد مفيد أضافه لأدبنا الجزائري المعاصر ولثقافتنا الوطنية؟