... أيها الضاج في صمت العالم والجسد والطبيعة ما إن تناولت القلم لأكتب ما تيسر من رثاء ضد ذكراك، حتى وقفت الكلمة التأبينية التي قالها فيك صديقك الحميم الطاهر وطار كدعوة ''ضد رثاءك'' شاهدة على قصور أي مقال، ومهما قلت لن أوفيك حقك وبذكر صديقك، وهو في لحده تكون الفاجعة فاجعتان. اليوم أروح أبحث بين كتبي لأجد ما أسميته حقا تأبينية ميت لميت تصور ذلك يا خويا عمار.. فإذا بمجلة التبيين لسنة 1993 بين يدي، موشّحة بالسواد ومزدانة بصورة خاصتك مطبوعة على الغلاف كل بالأبيض والأسود ظهرت بشاربك العريض ونظارتك السميكة رفيقة إبداعك وشاهدة على كل حرف كتبته وقرأته، إنك لما تقرأ الكلمات التي كتبها صديقك سي الطاهر الذي يرقد، اليوم، مثلك تحت التراب البارد ستدرك حجم الخسارة التي تلاحقنا اليوم بفقدكما، وفي ذكراك يا خويا عمار لا أجد سوى تلك الكلمات الصادقة التي قال عنها صديقك إنها ''ضد الرثاء'' أرادك حيا إلى الأبد بعدما صفعه غيابك ونهشه اليتم في فقده أخ في النضال وصديق عزيز وكاتب مرموق. تلك الوقفة التأبينية كانت بحق شهادة كشفت اللثام عن جانب طريف في حياتك دون أن تفقد شخصيتك فيمن حولك مهذبا في غير ميوعة، مؤدبا في غير ضعف، متواضعا في غير خنوع حساسا في غير تقزز، وطنيا غير ضيق الأفق. قرأت ''ضد الرثاء'' كما لو كنت أقرأ ''مانفيستو'' شديد اللهجة ضد الحالة المزرية التي وصل إليها الكاتب والشاعر والروائي والمفكر والناقد.. في الجزائر بعد أن يخفت نوره ويأخذ في الذوبان بسبب المرض أو الحاجة أو التهميش، يبدأ الواحد منهم يرحل في صمت إلى النهاية المؤسفة سواء بالموت الطبيعي أو الانتحار كما كان ديدن البعض ممن لم نسمع دبيب خطاهم نحو النهاية. ''ضد الرثاء'' بمثابة خطاب مباشر ونقد لاذع ضد تهميش الإنسان بصورة عامة وسحق العبقرية وإقصاء الإبداع وكسر شوكة الأقلام المديدة. عرفت يا خويا عمار أنك عانيت في آخر أيامك.. لم يرحموا مرضك وباعوا واشتروا فيك بعملة كانت آلامك، هؤلاء قال عنهم الطاهر وطار: ''... حتى أولئك الذين رجوتهم أن يستقبلوك في المطار، ليسهلوا عليك عملية العودة إلى بيتك وأنت تمسك ببطنك الذي فتحته مباضع الجراحين محنيا تلك القامة الفارهة، فلم يوفوا بوعدهم حتى أولئك الذين قلت فيهم إنهم يتاجرون بآلامي''. تتلاحق ذكريات وفاته سنة تلو السنة (19 سنة) وكأن عمار أو أعمر لم يكن بيننا، كأنه لم يحي ولم يحب ولم يكتب ولم يصادق، لكنك يا خويا عمار: ''لم تمت فقد خلّفت سناء وأنيس ونسمة ومجموعة محترمة من الإبداعات والبحوث جاد بها عمرك القصير الذي لم يتجاوز الأربعين''.