في المدونة المسرحية الجزائرية تشغل تجربة الراحل علولة موقعا متميزا، التجربة التي تبلورت خصوصا في ثلاثية الحلقة ''القوال، اللثام، الأجواد''، وهي تجربةتتصل بسيرورة المسرح الجزائري منذ نشأته التي ارتبطت بمعركة إثبات الذات وارتبطت بالنضال الوطني، والسيرورة التاريخية أثرت على صيرورة مسرح يتثاقف بالتواصل مع التجارب المختلفة، وفي الوقت ذاته يتشكل بما ينبض به المجتمع. تجربة علولة جاءت في سياق هاجس الخصوصية وهاجس إعادة تمثل التراث لتشكيله جماليا، تجربة مهدت لها خطوات كالتي قام بها ولد عبد الرحمن كاكي، تجربة تندرج في سياق تجارب عرفتها بلدان عربية مع أسماء كالصديقي في المغرب وعزالدين المدني في تونس وألفريد فرج ويوسف إدريس في مصر وسعد الله ونوس في سوريا والعساف وشدراوي في لبنان.. تجارب الاشتغال على التراث الشفوي، على ما يعرف بالحكواتي وعلى ما نادى إليه يوسف إدريس من مسرح السامر. وخصوصية تجربة علولة أنه كان يشتغل برؤية الورشة، فعلولة كان يرسكل نفسه باستمرار، تكون وهضم قواعد المسرح وتحاور إبداعيا مع تياراته ومع مسرح بريخت خصوصا والخصوصية مرتبطة بما كان يكتنف السياق أنذاك من ملابسات.. والتكوين العصامي، تعزز بالتكوين عبر التمرس بالتجارب التي باشرها، وتواصل الاشتغال بنقاشاتتصل النهار بالليل، فعقب العروض المسرحية كان علولة، كما ذكر لي الممثلان عبد القادر بلقايد وإبراهيم حشماوي، يجمع زملاءه المسرحيين والمثقفين في المقهى لمواصلة النقاش حول العرض. وكان النقاش يستمر بمشاركة أسماء من أبرزها الراحل جليد رفيق علولة في النضال الثقافي والأيديولوجي. وكان علولة رجل الميدان، ينزل فيدخل المقاهي حاملا دفترا يدون فيه كل ما يلتقطه من عبارات وإشارات، وكان يشتغل على مسرحياته بتحضير دقيق فمن أجل صياغة رائعته الأجواد جالس حارس بالحديقة العمومية وتابع ما يجري في مصلحة الاستعجالات بمستشفى وهران. في تجربة علولةتحضر الحوارية المثمرة إنتاجا، حوارية تبلورت بشكل خلاق بالعلاقة المتميزة التي ربطت المسرحي علولة بالسوسيولوجي المعتم بالمسرح جليد الباحث والمناضل النقابي والحزبي وجليد من الأسماء المهمة والمؤثرةولكنها غائبة عن التناول والتداول، غيابا مرتبطا بالتنميط الذي كرس الاختزال والاجترار، اختزال في محاور محددة وفي رموز محصورة، واجترار لنفس العبارات التي ضاعفت الهوة الفاصلة بين الأجيال والتاريخ فظل إشكال المرجعية مطروحا بمضاعفات، اتخذت وتتخذ أبعادا كارثية.جليد المتعدد في تجلياته وعطائه والمبلور لما طرحه غرامشي عن المثقف العضوي. جليد اسم يحيل لحقول متعددة، تعددا تكاملا في عطائه، فهو السوسيولوجي، المسرحي، الشاعر، النقابي، المناضل الحزبياليساري الملتزم بقناعاته والمجسد للبراكسيس في مساره. جليد من طينة الذين أخلصوا لقناعاتهم وعاشوا بصدق فجسدوا المجرد وارتفعوا بالمجسد إلى مستوى المجرد.. جليد كان مناضلا، وكان نضاله مفعما بروح الإنسان وبروح الفنان فكان النضال المعقم والمحصن من التحجر ومن التقولب الذي يفقد النضال معناه. عقب وفاة جليد تكلم صديقه الراحل علولة بإيجازمجيبا عن أسئلة عبد الكريم سكار من التلفزة، إجابات نقلتها ''صوت الشعب'' لسان الباكس، فقال: ''كان باحثا، وفي نفس الوقت صديق الأسرة المسرحية لأنه كان باحثا جامعيا في المسرح، وكان لي زميلا وربما أكبر من زميل في مدينة وهران، حيث كنا نبحث معا في التراث، وكان دائما يتابعالعروض معنا في المسرح وينقد العمل سواء من ناحية التأليف أو التمثيل ويزودنا دائما بنقد جديد ودقيق، لقد فقدنا صديقا وباحثا عظيما، كان مكرسا حياته وطاقاته في النضال اليومي من أجل العدالة الاجتماعية ضد الإهانة والحقرة والظلم ''صوت الشعب العدد.''175 وفي مرضه وعلى تخوم الموت كتب المرحوم عمار بلحسن تحت عنوان ''وردة لروح الصديق جليد امحمد، شاعر ورسام وصديق''، قائلا: ''أعرف أنك كنت تغوص في ذلك الملكوت كمن يصلي عشرة أوقات، نضال، نقاش، سجائر، مسرح، تنظيرات وقليل من الإبداع، تكلمت لي يوما دون أن تنتهي من رواية''، مذكرات حمأ في مدينة وهران ''أين هي أيها الشاعر الطاعن في التدخين والمرض؟ ملفوفة في لفات أو دفاتر؟ كنت هشا وأعطيت كثيرا غرفت وعزفت من شرايينك وعضلاتك وصحتك طاقة لبلدك وشباب مدينتك وتلاميذك وطلبتك وعانيت نفيا من الدكاترة الدكتاتوريين، أحببت الكادحين والعمال وحتى هند تشقق الرؤيا والقناعات، بقيت بروليتاري الروح حتى في قيامة فناء بروليتارياالعالم، لم تكن تدري أن المرض يتقدم، يكتسح ويلغم المناطق المنزوعة السلاح''. المرحوم جليد اهتم كثيرا بالمسرح وتخصص سوسيولوجيا فيه، فكتب أطروحة ماجستير ناقشها بألمانيا وسعى إلى إتمام الاشتغال بأطروحة دكتوراه ولقد قال علولة: ''كان يحضر دكتوراه دولة حول النزعات الفنية والجمالية في التراث الشعبي، وكان بصدد تقديمها في ألمانيا ولقد قدم ماجستير ودكتوراه الطور الثالث عن النشاط المسرحي من سنة1945 إلى,1983 ودرس برامج الفرق الهاوية والمحترفة واستغرق هذا العمل العظيم عشر سنوات من عمره ودرس خلالها4000 فرقة، والفترة الأخيرة كنا نخرج معا لاستجواب المداحين والشعراء وكنا مهتمين جدا بذلك وندرس كذلك الحلقة والمسرح التقليدي، وكان هذا في إطار دراسة أوسع كانت الحلقة تهمنا بصفة خاصة''. تعرضت عائلة جليد لفجائع ما تعرضت له من استهداف آلة الموت الإرهابية لعناصر منها في الشلف. جليد كان مناضلا نقابيا مرافعا عن الكادحين ومنغمسا في بوتقتهم، منصهرا انصهارا صوفيا في يسارية قحة، يسارية لم تتبدد بتدفق الأمواج، عاش متصلا، يحيا قناعاته ومبادئه.. ومن الشارع كان يمتص التفاصيل، وكان مثله صديقه علولة يتغذى من الهامش ليشكل اللوحات التي أبهرت وأحدثت التحول على الركح، فكان جلول الفهايمي عصارة ما تم امتصاصه. وبعدة الباحث نزل إلى الميدان وغاص في الخزان ليستخرج مع علولة ما يمد التجربة المسرحية بالمدد، المدد الذي ارتقى باللغة فبلور ركحيا لغة مسرحية جزائرية رفيعة بقدر بساطتها وثرية ثراء موروث التراث الشفوي، المدد الذي أبدعه علولة كانخراط في اشتغال بدأه ولد عبد الرحمن كاكي، الاشتغال المتثاقف مع تجارب مسرحية مختلفة والموظف لها في الاشتغال على ما يتصل بالخصوصيات الثقافية للمجتمع، ما يتصل بالتراث الشفوي وتقاليد العروض التي تعرفها المجتمعات باختلاف في ما بينها حسب الخصوصيات الأنثربولوجية.. جليد وعلولة، يشتركان في تجسيدهما لمعنى المثقف كصاحب دور، كمنتج قيمة مضافة، كمنتج رأسمال رمزي بتعبير بيار بورديو.. كلاهما تجاوز القطيعة مع العمق، تجاوز حالة ما وصفه الكاتب الصحفي المصري إبراهيم منصور بالازدواج الثقافي أي وجود قطيعة بين نمطين ثقافيين، ثقافة تتبناها المؤسسة الرسمية وثقافة يتبناها الشعب. كلاهما عبد القادر وامحمد انخرط في بوتقة البسطاء وعاشا معاناتهم.. جليد انصهر مع نقابيي البلدية وأمثالهم، وعلولة ناضل من أجل حقوق الانسان ونشط في دعم الأطفال المصابين بالسرطان.. كان النضال الحقيقي يتبلور معهما وكانت اليسارية تتأكد فعليا، كان البراكسيس يتجلى بممارسة مثلت التطهير المتواصل تحقيقا للإنساني. جليد وعلولة بلورا الحوارية كجسر لتحقيق العطاء، حوارية بافتقادها يفتقد نبض الكيان سلامته.. حوارية كانت تجمع المتعدد، جمع تلاقح مخصب. اتجه جليد وعلولة إلى العمق، إلى المدونة التراثية الشفوية الخصبة، المدونة التي حملت جينات الشخصية الوطنية بكل خصائصها الأنثربولوجية، المدونة التي بتواصلها كانت مصدر القوة التي حمت من الذوبان فكان المداح والقوال والشاعر الشعبي هم حراس الهوية وأجراسها التي كلما رنت أبقت على الوصل.