الحديث عن عمار بلحسن هو حديث عن صفحات من تاريخ التفكير والسؤال والإبداع في الجزائر.. سيرة عمار القصيرة زمنيا تتكثف تاريخيا بحمولة امتصت ما كان يعبق به المحيط الجامعي والثقافي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وبالتالي فهي سيرة جيل يمثل الجيل الجسر بين جيل عايش زمن النضال الوطني من أجل التحرر وجيل عايش خيبات وانكسارات مشروع الدولة الوطنية، بين جيل حمل هاجس الوطنية وجيل حمل هاجس المواطنة التي هي تفعيل للوطنية. وجيل عمار هو الجيل الذي واجه تحدي مغامرةالتأسيس أدبيا ومعرفيا وفكريا. خلفيات السيرة الذاتية عمار كالكثير من أدبائنا، ولد وترعرع في الريف وقضى بداية طفولته في عهد الثورة، وتيتم بعد استشهاد والده، وانتقل إلى المدينة طالبا، وكان من حظه أن دخل جامعة وهران في فترة كانت تلك الجامعة تستقطب أسماء مهمة، وكانت المدينة تعرف ديناميكية ثقافية نوعية. وتابعالدراسة في علم الاجتماع، وكانت آنذاك في الجامعة نخبة السوسيولوجيين كالمرحوم جغلول، فأتاحت له دراسة علم الاجتماع تملك عدة وآليات معرفية عمقت رؤيته للواقع وفتحت أمامه آفاقا جعلت نضجه يتحقق ويتبلور بالكتابات التي صاغها وباستثماره للمعرفة السوسيولوجية في الدراسات الأدبية، فالتفت في أطروحته للأديب الكبير محمد ديب، وتميز عمار باجتهاده المشهود له به، إذ تعمق في استدراك تخلفه في الفرنسية حتى تمكن منها. وإضافة للدراسة اشتغل بالصحافة بكل ما تمثله من خبرات وتجارب. كما انخرط في الحراك الثقافي، انخراطا فاعلا. السياق وجدل الأنساق عمار برز في سياق مشحون بأحلام المد الوطني اليساري، مد تغذى من إرث الثورة التحريرية والتبس بأطروحات مشروع الدولة الوطنية في عهد بومدين وشحن بما كان يعرفه العالم آنذاك من تدافعات بين المعسكرين. وفي السياق المذكور، كان عمار طالبافي قسم علم الاجتماعبجامعة وهران، وهو القسم الذي ضم نخبة السوسيولوجيين الجزائريين آنذاك، ضم أسماء لها بصماتها ليس على المستوى الأكاديمي فحسب، وإنما أساسا على مستوى الممارسة، المستوى المبلور للطرح الغرامشي عن المثقف العضوي، أسماء كجغلول وهواري عدي ونذير معروف وجمال العايدي وأمحمد جليد... وفي مناخ كهذا اكتسب عمار ما طبع مساره بالنزعة التي حررته من التموضع في الكهف الذي تحدث عنه الفلاسفة، وهو ما نعته أركون ب ''السياج الدوغمائي المغلق''. والدرس السوسيولوجي أمد عمار بالنزعة النقدية وبآليات قراءة المجتمع، وهو ما عكسته الكتابات التي نشرها. وفي السبعينيات كانت الأحلام الكبيرة تشحن الشباب وتغذي تطلعاتهم. وكان النقاش عبر المنابر التي كانت موجودة كالثورة الإفريقية والمجاهد الأسبوعي والجزائر الأحداث والوحدة وآمال والثقافة والأصالة والجيش والشعب الثقافي والنادي الأدبي لجريدة الجمهورية. ومن خلال الملتقيات التي كانت تعرفها مدننا كملتقى القصة بسعيدة وملتقى النقد بوهران. ومن خلال ما كانت تعرفه بعض الفضاءات الثقافية، ومن خلال مقاهي كانت ملتقى لقاء المثقفين، عمار عايش النقاش والجدل كتجربة النقاشات حول الميثاق الوطني متميزة بطرحها رغم طبيعة النظام والتوجهات آنذاك، ما هو كائن من اتجاهات في البلاد.. وفي أواخر ذلك العقد عرفت الساحة نقاشا مهما حول اللغة العربية والمنظومة التربوية، نقاشا رد به الدكتور شريط على لشرف.. وتواصل النقاش في الثمانينيات التي عرفت أحداثا ذات طابع مؤثر، من الربيع القبائلي في مطلعها إلى إقرار التعددية في أواخرها، مرورا بما تبلور من الراديكالية الإسلامية، وما قام من جدل حول المسألة الثقافية وقانون الأسرة وحول مراجعة الميثاق الوطني وما أثير آنذاك من طروحات كتلك التي تضمنها مقال لنورالدين بوكروح ب ''الجزائر الأحداث'' حول اشتراكية الرضاعة.. وبروز ما شكل مؤشرات مرهصة لتبلور ديناميكية واعدة، تبلور بالتشكلات التي عرفتها الساحة عبر فضاءات النقاش والفضاء العمومي كما بيّن هابرماس هو محور الديمقراطية، فضاءات أشرف عليها مثقفون بأتم معنى وصف مثقف كالمرحوم مصطفى كاتب بإشرافه على مصلحة النشاط الثقافي بوزارة التعليم العالي والمرحوم علولة في مسرح وهران والمرحوم كاتب ياسين في العاصمة وسيدي بلعباس والمرحوم جغلول في الكريديش بوهران وكمكتبة الاجتهاد بالعاصمة.. وما كان ينشر من نقاشات وملفات في صحف كالملحق الأدبي لجريدتي الجمهورية والنصر وكأسبوعيات الجزائر الأحداث والثورة الإفريقية والوحدة والمجاهد الأسبوعي وكالتحوّل اللافت في مسار إعلامنا بظهور المساء وآفاق في منتصف الثمانينيات ثم المسار المغاربي كتجربة لا يمكن تجاوزها في هذا السياق. وكان عمار فاعلا في ذلك السياق بكتاباته وإسهاماته، ومنها نشره لكتاب ''أنتلجنسيا أم مثقفون؟'' وهو كتاب جمع فيه بعض النقاشات التي نشرت لمثقفين تفاعلا مع حوار أجراه محمد بلحي مع جغلول واقترن بنقاشات عرفتها البلاد إثر طرح ملف السياسة الثقافية للنقاش في إطار إحدى دورات اللجنة المركزية للحزب الحاكم. وكان الطرح مقترنا بالوضع المشحون بالبلاد مع طفو المطلب الهوياتي وأحداث القبائل وبداية المواجهة مع التيار الإسلامي الراديكالي والتراجع عن الخط البومديني.. وبدأت كتابات عمار تعرف نضجا مطردا وتذهب نحو المزيد من التحرر من سطوة النسق، تحررا في الاشتغال السوسيولوجي وفي الاشتغال الأدبي، وذلك توجه بدأ في الثمانينيات مع مجموعة من الأسماء التي حملت إرهاصات التجربة التي شكلت منعطفا حاسما في مسار الكتابة الأدبية الجزائرية.. عمار واصل نشاطه المكثف وأعد برفقة زميله حمزة الزاوي ملحقا مهما بجريدة الجمهورية، ملحقا حمل اسم ''أوراق معاصرة''، وهو الملحق الذي فجرت فيه قضية ما عرف ب ''بوجدرة بنيس'' وكان التوقيع لصديق عمار المرحوم بختي بن عودة.. وكانت وهران في تلك الفترة تعرف ديناميكية نوعية، ديناميكية فعل ثقافي تم به تجاوز حالة الانشطار الثقافي بين المعربين والفرانكفونيين من خلال مبادرات كمجلة صدرت بتأطير أسماء كالشاعر محمد سحابة، مجلة شنت عليها جريدة الشعب آنذلك حملة بدعوى ارتباطها بالمركز الثقافي الفرنسي.. ومع ما أعقب أحداث أكتوبر بدأ النقاش يتكثف وبدأت المجابهات تحتد على السطح، وبدأ عمار ينضج أكثر وتعمّق اشتغاله السوسيولوجي فكرّس الجهد في حقل سوسيولوجية الأدب وكانت أطروحة الماجستير عن محمد ديب من أهم إنجازاته في هذا المحور، وتعاطى مع الإشكالات التي فرضت نفسها بحكم الحيثيات والتحديات كتموضع الديني سوسيولوجيا والديمقراطية والتوترات والانقسامات الثقافية وعلاقة السياسي بالثقافي... إلخ. وكانت الالتباسات تتضاعف مع وتيرة الأحداث، وهو ما جعل التحولات التي تتابعت بجذرية وشراسة تدخلنا في متاهات، فكفت النقاشات الفكرية والثقافية لتهيمن السياسة باتجاهاتها المتناقضة ويتحوّل المثقف في ظل تغييب كل مقومات قيام الأنتلجنسيا، وفي ظل تغييب معنى المثقف كمنتج للرأسمال الرمزي بتعبير بيار بورديوإلى وضع الاتباع لا الإبداع، التسليم لا النقد، إلى وضع الصدى، إلى الصورة التي رسمها المفكر التونسي سليم دولة للمثقف في تونس، قال: ''فهو يساري مثلا على صعيد الشعارات التي يرفعها، سلفي السلوك يميني الطموحات أسطوري / خرافي النظرة إلى العالم.. والقائمة طويلة. يكره المثقف السلطة ويغازلها، يكره الاستبداد والإلغاء ويمارسه، يكره الأمريكان ويتشبه بطريقتهم في الحياة...''. عمار واصل من زاويته الاشتغالات التي دشنها جغلول حول المقاربة السوسيولوجية للتاريخ الوطني بإعادة المساءلة واستنطاق الأدبيات المنتجة وبلورة تمثلها، تمثلا يتيح فهم الحراك الاجتماعي واستيعاب ما يبدد الحواجز التي كثفت الانشطار وأفقدت التجارب دينامية التراكم المنتج بحوارية نقدية تؤسس للوعي المتعافي من الزيف والمغالطات والعقد. والعودة إلى النصوص التي نشرت لعمار في مجلة المستقبل العربي وفي منابر وطنية تفصح عن معالم إرهاصات تبلور عطاء باحث رحل في سن النبوة. وفي بداية دخول البلد المحنة رحل عنا عمار بعد معاناة مع مرض السرطان، ورغم المعاناة الرهيبة واجه المرحوم زحف الموت بالكتابة، مؤكدا ما قاله درويش: ''هزمتك يا موت الفنون جميعها''. كتب ''كشف الغمة'' متأملا الحالة وكتب ''يوميات الوجع'' كاتبا الكلمات بإيقاع الألم وبشفافية الروح في تجليات الألم. التوقيع المتميز للقاص عمار في حوار أجراه الصحفي اللبناني أحمد فرحات في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، قال عمار بلحسن: ''إنني أحاول تأسيس القصة الموقف، الموقف من الوقائع المتحركة والحياة في شبكة تعقيداتها المتغازرة التي تجابهنا بقسوة لا ترحم، كل يوم، بل كل لحظة. وأمر الكتابة إزاء ذلك يتطلب استخدام أساليب وأدوات فنية مختلفة، تفترضها بالضرورة مرحلة ''المطابقات الجديدة''. وهذه الأدوات التعبيرية المختلفة، ينبغي أن تفهم نصوصها ''المعقدة'' و''الغامضة'' كما يشاع اليوم بدءا من غموض الموقف الحياتي وتعقده.. على اعتبار أن الواقع يعكس مراياه.. وما أصعب وأعقد مرايا واقعنا.'' ويقول: ''ثمة تعانق أحاول أن أبينه بين الجوهر الفني للإنسان، والجوهر التاريخي الاجتماعي الذي يحيط به، وهو ما ينتج عنه كحصيلة أخيرة ما نسميه وحدة الخاص بالعام والعكس. إذن، ككاتب والحال هذه، ينبغي عليك أن تظل مسكونا بالجدل، والتحدي والضرب في المجهول، فحركة الوعي الفني لا تنفصل في مادتها عن مادة حركة الوعي السياسي.. كلاهما متلازم ويفضي إلى الجديد الإبداعي الكاشف. ويفترض بالكاتب الجيد استخدام الزمن ككتلة واحدة. فالتاريخ مثلا يساهم أحيانا في منحك أجواء أسطورية تساهم في تعزيز مضامينك وأساليبك التعبيرية، خصوصا عندما يظهر أن ثمة معادلا موضوعيا لمعاني هذه الأساطير في حياتنا الراهنة. ثم إنني من الذين ينحازون إلى خلق الأجواء الشعرية في الرواية أو القصة. فالشعر يمنح عملك القصصي أبعادا أكثر غنى وسحرا، كما يجعل القارئ في حال من الانشداد جميلة ولا حصر لدهشتها الممتدة''.. بهذه العبارات يقدم لنا عمار أدبه وتجربته. لا يمكن لمتحدث عن أدبنا الجزائري وخصوصا عن المدونة القصصية تجاوز إسم عمار بلحسن.. عمار لم يكن مجرد قاصٍ عادي، كان تجربة مشحونة بكل مؤشرات التحقق الفاتح أو المحقق لفتوحات في النص القصصي. بتتابع عطائه تراكم نضجه، ولكن حكم القدر برحيله عن عالمنا وهو في محطة بلغ فيها مؤشر التجلي. عمار كان ناحتا لمفردات متوهجة بقبسات تمكن من اقتباسها من رحم الحرائق، مفردات بأصوات التربة التي انغرس في صميمها، مفردات فوانيس تخترق لتغص وتحلق، ناسجة النص الذي يقول الوجع والألم، يقول الحنين ويبثه بفيضان أحاسيس هي التي يكون بها الواحد إنسانا، يقول الهاجس الذي يسكن الذات ويشعل الحرائق ويحرك التوتر والقلق، يقول الطموح والحلم، يقول الحياة.. نص عمار بكل مستويات التعاطي التي يتيحها لنا التعاطي النقدي، هو نص لا يمكننا استيعابه تماما والتمكن من النظرة إليه دون وضعه في سياقات إنتاجه وملابسات تداوله ومكونات منتجه. فسوسيو تاريخيا برز عمار في مرحلة استكمال التأسيس التي سبق لبعض رموز من سبقوا جيله السبق إليها من رضا حوحو إلى وطار وبن هدوقة، ولم يكن المبدع بالعربية خصوصا يمتلك الريبرتوار الذي يتيح له الارتكاز، وبالتالي كان اشتغال عمار وزملاء مرحلته منخرط في ما يشبه ورشة تجريب. وكانت المرحلة متميزة بهيمنة الأيديولوجي والتسييس المكتسح مما جعل النظرة السائدة للأدبي والجمالي نظرة وظيفية وديداكتيكية، وكانت البلد حديثة الانعتاق من الاستعمار بما يعنيه ذلك من تأثيرات ورواسب.. وفلسفيا جماليا كانت الأطروحة السائدة هي المرتكزة على الماركسية أي الواقعية الاشتراكية والمادية الجدلية. ما الذي يبقى من المغامرة رحل عمار الجسد ليمتد في النص نابضا بحياة الدال والهاجس والروح، والمغامرة التي تملكت عمار تمددت لتتملك من سكنتهم حرقة الأسئلة بتعبير العلبي وسكنتهم روح الانفلات والسفر عبر الأقاصي لتقصي المقصي وتمثله بتفكيك لتركيب يقدم ما يقود لما هو حقيقي والحقيقي يظل منفلتا عن التحقق التام، لأن في التمام الانتهاء.. روح عمار كروح صديقه بختي وكروح من يصفهم البعض بجيل اليتم الذي انطلقت أصواته منفردة ومضادة سردا وشعرا واشتغالا معرفيا ومساءلات فكرية.. وعشنا رعب سنوات الانفلات في تسعينيات القرن الماضي، وما عشناه بالربط مع ما سبقه لم يقض على المغامرة بل دفع نحو مضاعفة التعلق بها، لأن ما عشناه يستدعي كما كتب مرة الكاتب أحميدة عياشي ''الرأسملة''. عمار كتب عن كشف الغمة مستعيرا بدقة عنوان المقريزي ، ومهمة المثقف هي دائما كشف الغمة، كشفها لتحقيق الفرج والانفراج، لأن الفرج يبدأ بتملك ما عبر عنه القرآن الكريم بالأسماء التي لما عرفها آدم جاء الأمر الإلهي للملائكة بالسجود له، الفرج يبدأ بالكلمات فاللغة هي المسكن كما عبر هايدغر.