هذه الجلسات محاولة للصلح مع تاريخنا ببياضه وسواده، لأنه ممتد في حاضرنا، ولن نخرج من كبوة حاضرنا حتى نعترف بأخطاء ماضينا. أولا، يجب أن نفرق بين الدين الإسلامي والتاريخ الإسلامي، فدين الإسلام مصدره السماء، لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، وتاريخ الإسلام مصدره البشر بعقولهم وعواطفهم، بنجاحاتهم وإخفاقاتهم، بمحاسنهم وعيوبهم، لذلك جاء تاريخنا كغيره من تواريخ الأمم، فيه صفحات بيضاء مشرقة وصفحات سوداء كالحة. وفي هذه الجلسات التي سنجلسها مع تاريخنا السياسي ليس من أجل تسويد صفحات بيضاء أو تبييض صفحات سوداء ولا لتقبير تاريخنا والبحث عن تاريخ لغيرنا محاولة لإيجاد رابطة انتساب. هذه الجلسات محاولة للصلح مع تاريخنا ببياضه وسواده، لأنه ممتد في حاضرنا، ولن نخرج من كبوة حاضرنا حتى نعترف بأخطاء ماضينا. الجلسة الأولى: الشورى قد يعتقد البعض، إن لم نقل الأغلب، أن الإسلام نقيض الجاهلية، جاء كقطيعة لها، وهذا الكلام -وإن صح في العقيدة- فإنه في جانب آخر لا يصح، فالإسلام جاء معدلا لبعض العادات الجاهلية أو محوّلا لنيتها أو متمما لها أو مؤكدا أو سكت عنها، وهذا الأمر ليس في مجال الأخلاق فقط من كرم وجود وإغاثة وإجارة، ولا في المعاملات فقط، مثل البيع، بل تعدى إلى بعض الشعائر التعبدية مثل شعيرة الصفا والمروة اللتين تحرجا من تأديتهما المسلمون في أول حج لهم على أساس أنهما شعيرتين كانتا تمارسان في الجاهلية، فنزل القرآن ينفي التحرج ليؤكد أنهما شعيرتان إسلاميتان وقبلهما كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتكف في رمضان قبل نزول الوحي في غار ثور دون نسيان تعظيم البيت الحرام والبلد الحرام والحج والعمرة وتقديس شهر رمضان وتحريم الأشهر الحرم وتعظيم النبيين إبراهيم وإسماعيل كأمثلة عن مسائل إسلامية لها جذور في الحياة الجاهلية، والتي يهمنا منها هنا مسألة الشورى باعتبارها قضية أخذت حيزا جدليا ارتبط بالاضطراب السياسي في الإسلام عبر التاريخ والتي هي في الأساس وليدة نظام جاهلي ذي تركيبة قبلية، أخذها الإسلام كما هي دون تحويل أو تحوير، ''فقد جرى التقليد في قبائل الجزيرة العربية أن رئيس القبيلة يُختار غالبا من أهل العصبة أو النفوذ، ويكون أكبر أفراد القبيلة سنا وشجاعة وتجربة وأكثرهم مالا وكرما ...ويتولى انتخاب رئيس القبيلة مجلس القبيلة، ويتكون من المتنفذين ومن رؤساء الأسر في القبيلة وكل من بلغ الأربعين من أفراد القبيلة ويتمتع العضو بحرية تامة والتحدث في اجتماعات المجلس''. 1 والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حين جاءته وفود القبائل بعد أن تم الفتح وحل النصر ودخلت الناس في دين الله أفواجا، لم يغير رؤساء القبائل وتركهم في مناصبهم ماداموا أعلنوا إسلامهم ودخلوا تحت سلطان الدولة المحمدية، الأمر الوحيد الذي قام به هو إرسال بعثة دينية ليفقهوهم دينهم الجديد، وترك لهم حرية تسيير أمورهم السياسية في قبائلهم بالطريقة التي ألفها العرب ودرجوا عليها. وحين نزلت الآية الكريمة: ''وشاورهم في الأمر'' (آل عمران / 159) فهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن جاء بعده من الخلفاء، أن مشورة الرئيس لمجلسه الشوري الذي كان يضم المبشرين بالجنة وعددهم عشرة وكلهم من قريش، كما يقتضيه العرف الجاهلي القبلي، لأن مجلس الشورى من قبيلة الرئيس الذي تمت صبغته بصبغة دينية في محاولة لإضفاء الشرعية عليه بحديث ''الأئمة من قريش'' رغم أن الخليفة الأول ومعه الثاني لم يحتجا به في منازعة الأنصار في أمر الخلافة في سقيفة بني ساعدة، التي اجتمع فيها الأنصار لبحث مسألة الخلافة والظفر بها كما كان الأمر في الجاهلية في مكة فيما يعرف بدار الندوة، ''كان الملأ من قريش يجتمعون فيها للتشاور في كافة الأمور، وكان لا يعقد لواء في الحرب إلا فيها ولا تخرج قافلة في التجارة إلا منها ولا يعقد نكاح (زواج) إلا فيها... بل إن رؤساء القبائل من غير قريش كانوا يجتمعون فيها للتشاور والتداول في الأمور التي تهمهم ومن ثم كانت تسمى نادي العرب''. 2 وحتى لما خلص الأمر للقرشيين بعد أن وعد أبو بكر وعمر بن الخطاب الأنصار بأن من القرشيين الأمراء ومن الأنصار الوزراء، كان هذا الكلام مجرد وعد سياسي لم يجسد بعد استتباب أمر الخلافة للقرشيين، ولم يكن من الأنصار لا أمراء ولا وزراء ولا ولاة ولا قادة جيوش، لأن تلك المناصب جميعها مازالت تمنح وفق العرف القبلي الجاهلي حتى في عهد الخلافة الراشدة إلى أفراد قبيلة الرئيس التي هي قريش، ولا يستطيع الرئيس مهما أوتي من ورع وتقوى أن يكسر العرف الجاهلي القبلي مادام لا يتعارض مع العقيدة حتى وصل بالفقهاء بجعل العرف مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي ومشاورة الرئيس لمجلسه الشوري سواء في الجاهلية أو الإسلام لم تتغير، فقد كانت ومازالت غير ملزمة تؤخذ على سبيل الاستئناس لا الإلزام، لذلك لم يلتزم أبو بكر بطلب مجلسه الشوري في عدم إرسال جيش أسامة وفي مقاتلة مانعي الزكاة، وكذلك فعل عمر بن الخطاب في عدم توزيع أرض السواد على الجيش الفاتح، كما نص على ذلك القرآن والسنة العملية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعارضة كبار الصحابة ومستشاريه، هذا بالنسبة لمشاورة الحاكم لمجلسه الشوري. أما عند غياب الحاكم، فالمجلس يتشاور بين أعضائه كما قال تعالى: ''وأمرهم شورى بينهم'' (الشورى / 38)، فالشورى كما فهمها المسلمون الأوائل الذين عاشوا شطرا من حياتهم في الجاهلية وتشبعوا بتقاليدها وورثوا أعرافها، فهموا الآية بأن الشورى ليست لعامة المسلمين، بل هي حكر فقط على كبار الصحابة وقادتهم ممن لديهم الشرعية التاريخية متمثلة في السبق لاعتناق الإسلام والشرعية الثورية متجسدة في شهود معارك الإسلام الكبرى الفاصلة (بدر وأُحد) أو ما يعرف اليوم بالنخبة، وبالتالي يستثنى عموم الأمة من المشورة في اختيار الحاكم الجديد وتقتصر مهمتهم فقط على البيعة العامة بعد أن يبايع أعضاء المجلس الشوري الخليفة الذي تم اختياره من طرفهم في بيعة خاصة ويمنع على العامة الاعتراض أو رفض البيعة، ومن اعترض فهو يعتبر منشقا على الجماعة، خارج عنها، مكسرا لعصا الطاعة. إن المجلس الشوري في تنظيمه وهيكلته وتحديد مهامه ودوره الاستشاري على سبيل الاستئناس وليد طبيعة قبلية للعرب في العصر الجاهلي الذي أبقى عليه الإسلام كما هو وإن أضفى عليه الصبغة الدينية حتى لا يتحرج المسلمون منه، تحرجهم من السعي بين الصفا والمروة، وإن اختفى المجلس الشوري بعد ذلك حين تحوّلت الحياة السياسية من قبلية إلى مركزية في عهد الدولة الأموية أو لنقل لم يعد أهله من أصحاب الشرعية التاريخية والشرعية الثورية بل أصبحوا من أصحاب الشرعية القهرية البوليسية. 1- الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية لخليل عبد الكريم ط 1 سنة 1990 دار سينا القاهرة ص 108 نقلا عن كتاب دراسات في النظم العربية الإسلامية لتوفيق سلطان اليوزبكي ص 30 ط3 سنة 2.1988 ن م صفحة 124