هذه وقفات وقفتها مع الإسلام السياسي ممارسة ومخالطة ومطالعة، حاولت تلخيصها في هذه المقالات وإن كان فيها بعض التكرار فلتأكيد الأفكار والنظر لها في كل مرة من زاوية مختلفة، حسب ما يقتضيه المقال. إذا طرح سؤال ما هي أسس نظام الحكم في الإسلام؟ فسوف تكون الإجابة أن أهم الأسس هي الاختيار، البيعة، الشورى ..مسؤولية الحاكم أمام الأمة، حق كل فرد من الرعية أن ينصح الحاكم ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر .لكن هل هذه الأسس لها سند شرعي واضح في القران والسنة الصحيحة، الذي لا يقبل تأويل، جاءت في نص واحد قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، أم أنها مجموعة من هنا وهناك، إن اتفق على أساس واحد منها اختلف في أسس؟ يجمع علماء السنة على أن نظام الحكم في الإسلام لم يعالج ويفصل فيه من عند الله عزوجل أو الرسول ''صلى الله عليه وآله وسلم'' على أهميته، رغم أنه تم الفصل في قضايا ذات شأن أقل بالنسبة للمجتمع المسلم على تنوعها البيع، الربا، الزواج، السرقة، الخمر، التبني، الشهادة..'' وحتى في الآداب'' التحية، عدم رفع الصوت..'' كما فصّل الرسول'' صلى الله عليه وآله وسلم '' ما جمل مما سبق من أحكام وتوسع حتى إلى آداب قضاء الحاجة، حيث لم يترك الإسلام من الأمور كبيرها وصغيرها إلا وعالجه في مجتمع المدينة'' اللعب مع الأطفال، الصدقة..، رغم هذا لم يتكلم الله عزوجل ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في نظام الحكم، لا في أسسه ولا في هياكله ولا مواصفات من يتولاه، كما فصل في الصلاة والصوم والحج من أركان وشروط ومبطلات.. والعلماء الذين ألفوا كتب السياسة الشرعية وضعوا تلك الأسس باعتبارها تصرفات قام بها من تولى أمر المسلمين من باب تقرير حالة، واقع فارض نفسه كظاهرة تاريخية وإن نسبها للإسلام، ليس لأن الإسلام مصدرها الشرعية الدينية بل كتصرف بشري صادر عن فرد أو مجموعة، مسلم يحتمل الصواب والخطاء ,حتى لو كان صائب في مرحلة زمانية أو بقعة مكانية، والفتوى تختلف باختلاف الزمان والمكان فصبغ بالصبغة الإسلامية التي تنمي الديمومة والشمولية والتأبيد .وبذلك تلقف علماؤنا تلك الأفعال والتصرفات في مجال الإمارة، ثم بحثوا لها عن سند شرعي يؤيد تلك الإتجاهات من آية وحديث، حتى ولو كانت الاتجاهات مختلفة، إن لم نقل متناقضة، وربما لو قام بها أحد غير الخلفاء الراشدون لاتهم بمخالفة السنة والتبديع في الدين .لو أخذنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مات ولم يوص وإن استنتج العلماء من بعده بعد استنطاق النصوص وتأويل الأحاديث بأنه لمّح -والتلميح لا يغني عن التصريح حين أمر ''أبا بكر رضي الله عنه'' ليصلي بالناس، فتحدث علماؤنا عن الإمامة الصغرى والكبرى، رغم أنه لا يوجد في المسألة قياس، فقد تتوفر في شخص ما مواصفات إمامة الناس في الصلاة من حفظ القرآن وصوت حسن وورع وتقوى، لكنه لا يملك ''كاريزما'' قيادية. فالعبادة خلاف القيادة والإمامة غير السياسة .والأنصار كادوا أن ينصبوا سعد بن عبادة خليفة للرسول ''صلى الله عليه وآله وسلم'' في اجتماعهم بالسقيفة لولا تدخل نفر من الصحابة، وقد أقر ''عمر بن الخطاب رضي الله عنه'' أن تنصيب أبا بكر رضي الله عنه كخليفة كان فلتة، فجأة دون أن ننسى أن بنو هاشم قرابة الرسول ''صلى الله عليه وآله وسلم'' كانوا منشغلين في تجهيز الرسول ''صلى الله عليه وآله وسلم'' لدفنه، ولو كانوا حاضرين للسقيفة لكان هناك مجرى آخر للحدث.. وابا بكر ''رضي الله عنه'' حين علم أنه يحتضر أوصى في كتاب لعمر بن الخطاب ''رضي الله عنه'' بالخلافة من بعده,رغم أن الرسول ''صلى الله عليه وآله وسلم'' لم يوص في كتاب أو لنقل رفض بعض الصحابة آتيانه بكتاب يكتب فيه وصيته التي إن عملوا بها لن يضلوا بعده، والضلالة هنا ليست بالمعنى الديني، لأن الدين اكتمل والقرآن ختم، بل الضلالة السياسية التي كانت من إفرزاتها الفتنة الكبرى .بينما ''عمر بن الخطاب'' اختار ستة ليختاروا واحد منهم، فكل حاكم من أوائل ثلاثة حكام متعاقبين على الدولة الإسلامية كانت لكل واحد منهم طريقة مختلفة عن الحاكم الذي سبقه إن لم نقل متناقضة.. فإن كان نظام الحكم في الإسلام من الشرع فالواجب إتباع سنة الرسول ''صلى الله عليه وآله وسلم'' وما خالفها كان بدعة، سواء كانت طريقة أبو بكر''رضي الله عنه؛ أو طريقة عمر بن الخطاب ''رضي الله عنه''، وإن لم يكن نظام الحكم في الإسلام من الشرع بل من مقتضيات الواقع وافرزاته الإجتماعية، فمن الإجحاف حصر طريقة اختيار الحاكم في ثلاث طرق وإصباغها الصبغة الشرعية، رغم أنها تصرفات تاريخية وليدة ضرورة اجتماعية معينة .أما بالنسبة للبيعة فالرسول ''صلى الله عليه وآله وسلم'' تم مبايعته بصفته صاحب رسالة سماوية، لا صاحب برنامج رئاسي، وبالتالي هو وضع خاص باعتباره صاحب دولة دينية قامت بقدومه إلى المدينة وانتهت بوفاته . والبيعة هل تكون عامة أم خاصة؟ وهل تبدأ من النخبة لتتوسع إلى العامة كتحصيل حاصل، وهل المهم فيها بيعة أهل العاصمة السياسية ''المدينة؛ أم بيعت الأمصار؟ فإذا تم بيعت العاصمة السياسية ورفضت الشام كعاصمة اقتصادية وواليها البيعة هل نكون أمام حالة إعلان تمرد؟ وما حكم من رفض البيعة ومات ''سعد بن معاذة رضي الله عنه''، وهو لم يبايع خليفتين ''ابو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما'' وهو من كبار رجال الدولة وليس من عامة الناس، وقد سمع هو أيضا الحديث المروي عن الرسول ''صلى الله عليه وآله وسلم'' :''من مات ولم يبايع مات ميتة جاهلية'' .وربما هذا هو سبب مقتله، حين يخبرنا مؤرخونا أن الجن قتلته لأنه ''بال واقفا''، أما الشورى فهل هي ملزمة أم اختيارية، وهل موجهة للعامة أم للخاصة؟ الخليفة أبو بكر ''رضي الله عنه'' لم يلتزم بما أشار عليه كبار الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ''رضي الله عنه'' في عدم مقاتلة ممتنعي الزكاة لأنهم يشهدون بالشهادتين ولا يحل دمهم إلا بمفارقتها ''الردة''، أصرّ أبو بكر ''رضي الله عنه؛ على رأيه ونفذه دون وجود سند شرعي لهدر دمهم، ولو كان هناك سند شرعي لما احتاج إلى المشاورة لأنه لا يخشى في الله لومة لائم .وإن كان امتناعهم له صبغة سياسية كمعارضة لعدم بيعتهم أو إشراكهم في أمر الاستخلاف أو لأنهم يرون هناك الأفضل من أبي بكر ''رضي الله عنه'' ليكون خليفة رسول الله ''صلى الله عليه وآله وسلم''. كانت محاربة أبو بكر ''رضي الله عنه'' للممتنعين لحماية للدولة لا لحماية الدين، لأجل كسر شوكتهم وبعث رسالة واضحة، أن من يفكر في الخروج عن الدولة الوليدة يكون مصيره القتل، حتى لا يكون هناك تمرد شامل في كافة الأقاليم وتجهض الدولة الفتية، وبالتالي من السياسة أخذ الأمر بكل عزم في إطار صلاحياته، لأن الاستشارة تكون في الأمور العادية لا الظروف للبلاد كالطوارئ، وحالة الحرب، حيث تعلن الأحكام العرفية، وبالتالي فإن الاستشارة كانت على سبيل الاستئناس .ومعنى هذا أن تصرف الخليفة لم يكن نابع من أساس ديني، بل من أساس بشري اقتضته الظروف الجديدة ومصالح الدولة الفتية .كما أن البيعة عقد رضائي بين طرفين، المترشح للخلافة والجموع المبايعة، تنصبه حاكما عليها لخدمتها ورعاية شؤونها وسياسة مصالحها ومادام هو ملتزم بالتزاماته، تلتزم هي بالسمع والطاعة وإذا أخل بأحد شروط العقد والعقد شريعة المتعاقدين فهي حل من العقد ولا سمع له ولا طاعة، والحاكمية للأمة .كان الحاكم يتصرف في المال العام على أنه مال خاص وفي مناصب الدولة على أنها ملكية عائلية، ثم يجيب الجموع التي تطالبه بالعدل والإنصاف في تقسيم الثروات وتوزيع المناصب ثم طالبته بالتنحية بعدها أطبقت عليه الحصار وهددته بالقتل إن لم يتنح، يجيبها بأن الخلافة لباس ألبسه إياه الله ولا يحق له ولا لغيره نزعه عنه، وليس عقد رضائي تم بين الطرفين ''الخليفة والأمة'' فيقتل الخليفة ويترك دون دفن لمدة ثلاثة أيام ليدفن في غير مقبرة المسلمين دون غسل واختلف في الصلاة عليه ودفن خفية تحت جنح الظلام. هذه بعض الأمثلة القليلة مستقاة من زمن الخلافة الراشدة القريبة العهد من النبوة في وسط رجال عاصروا الرسول ''صلى الله عليه وآله وسلم'' وكانوا من كبار رجالات الدولة المحمدية ليكونوا بعده خلفاء له في تسييرها. مما سبق يتبين أن الدولة في الإسلام لم تكون وليدة نص ديني ولا مسيّجة بسياج شرعي، كما يدعي تيار الإسلام السياسي، بل هي وليدة ظروف تاريخية معينة، حددت معالمها نتيجة تراكمات بشرية في سياق التجربة وإن حاول علماؤنا إضفاء الصبغة الدينية على هذه التصرفات حتى لا تناقش أخطاؤهم مع الإقرار بعدم معصوميتهم، ليكون ذلك مغنما لمن جاء بعدهم في إطار الملك الغضوض، وأن الدولة في الإسلام هي ظاهرة تاريخية لا دولة دينية. للمواضيع هوامش