قد يبدو هذا العنوان غريبا نوعا ما، لكنه ليس أغرب من حالنا وحال الوطن العربي برمته خلال القرون الأخيرة، مذ توقف إنتاج الفكر النزيه والروحانيات مع بعض الأقطاب، وفسح المجال للجهل والسطو والعنف والتأويل الذي لا يستند إلى أية كفاءات علمية، بالنظر إلى محو العقل والبحث، إضافة إلى تدهور القراءة وحلول الإسناد والنزعات الشفهية محل التجربة العينية... ثم سيطرة الأموال. أكاد أجزم أن كل ما عشناه في الجزائر، من الاستقلال إلى الآن لا علاقة له بطبيعة الإنسان الجزائري، وينسحب ذلك على أغلب المجتمعات العربية. لا أتصور على سبيل التمثيل، أن تستورد النخبة أجهزة مفهومية وأيديولوجيات مكتملة وثقافات مخصوصة لتقنين مجتمع وفق قياسات لا تنسجم وتاريخه. في حين أن الأمة بحاجة إلى حياة كريمة. وهذي إحدى مشكلات الاستيراد الذي لا يتأسس على مراعاة الخصوصية. هناك نقل لحمولات جاهزة شبيهة بالمواد الاستهلاكية ذات الاحتياجات المحدودة، ومعنى ذلك أن ما ينقل أحيانا قد يخدم أقلية، دون مراعاة ما تحتاج إليه الأمة في سياقات متحولة باستمرار، إذ أن ما يعنيها اليوم قد يتعارض ومتطلباتها غدا. وتلك سنة الحياة. أما الأمة فليست لوبيات. ليست مخابر للجرذان. إننا إذ ننقل، بغير اجتهاد، وبلا تمحيص، وبلا منفعة، إنما ننقل أنظمة الآخرين ومجتمعاتهم ونفسياتهم وطقوسهم ورغباتهم التي شكلتها سيرورة ما، لكن هذه السيرورة ليست بالضرورة سيرورتنا، إن لم تكن منافية لأبسط مكوناتها التي ترتبط أساسا بإحالات متجذرة في الوعي والذاكرة. أتحدث عن الذاكرة بمفهومها الواسع: الدلالي والفلسفي واللغوي والعرقي والاقتصادي والجمالي والسردي. كأننا نريد أن نكون آخرين. وكأننا نريد إسناد تعاستنا لعناصر مجردة لا دخل لها في بؤسنا. ولأن المقام لا يتسع لتقديم النماذج الكافية الشافية، فإني أشير مثلا إلى فكرة الماركسية، دون معاداتها، مثلها مثل الاشتراكية والسلفية. يخيّل إليّ وأنا أعيد قراءة كتبنا وتأمل ممارساتنا أننا تعاملنا مع هذه الإيديولوجية كحفظة وأذناب سيئين للغاية، كأن ماركس ولينين وإنجلز وتروتسكي ولدوا في أحد أريافنا النائية، أو في إحدى الصحاري العربية. ومن الناي والجِمال والرمال وأغاني التيندي استنبطوا الماركسية، ثم الماركسية اللينينية، دون خلفيات ودون مسببات ودون نضج المحيط الخارجي المؤهل لذلك، أي دون أي اعتبار للنمو الحلقي وللعلاقات السببية. وعليكم أن تتصوروا كيف ستصبح جدتي ماركسية وهي لا تعرف سوى رائحة الزعتر والماعز والكوخ الطيني والضيعة التي بها خمّ للدجاج وبعض شجر العنب والتين والزيتون والجوز الهندي، وكيف ستكون علاقة البنية الفوقية والبنية التحتية والكولخوز والتروتسكية بفستانها الممزق الأغبر وبمسبحتها؟ هذا وجه جزئي من وجوه العبث الأعظم الذي ميّز مجتمعنا، وما يزال. لقد ولدت جدتي مسلمة، محاطة بتقاليد راسخة في النسغ والخلايا الأولى، وكل ما حولها علامات دالة على خالقها، بما في ذلك بعض العلامات التي من صميم الوثنية والأساطير القديمة التي تناقلتها الألسن عبر الأجيال. كانت جدتي ستعتبر ماركس مثل جحا، أو وليا من أولياء الله الصالحين في أحسن الأحوال. لكنها لن تفهم أبدا تلك المصطلحات المعقدة التي جيء بها من شتى العلوم والمعارف لصناعة أيديولوجية ضرورية بالنسبة إلى أقوام في سياقات حصرية نافعة، وقابلة للمراجعة والتجاوز. وليست أصناما كأصنام يثرب. ما حصل أننا نقلنا أصناما كافية لإعاقة الفكر نهائيا، وقد حدث ذلك بعنف، بقهر الذاكرة والسنن والمجتمع والحياة. كان ذلك اعتداء حقيقيا على الطبيعة البشرية وعلى المسار المنطقي للأشياء. لم تكن هناك مقدمات للموضوع الانفصالي، الغريب عن النواميس والوعي القائم. وقد لا تكون المشكلة في الإيديولوجية ذاتها، بقدر ما هي مشكلة كامنة في الأشخاص، في الأنظمة وفي مدارك النخبة واستراتيجياتها المتطرفة، كأي تطرف آخر، مهما كان نوعه، يمينيا أو يساريا، قديما أو حديثا. إنني أرى في الحراك العربي الحالي ما يشبه الفترات السابقة، ولا يمكن أن نستثني حقبة ما قبل الحراك، ولا أدري تحديدا كيف لم يستفد الإسلاميون والإسلامويون والسلفيون من فجوات غيرهم: سواء كانوا من اليمين أو من الشمال، شيوعيين كانوا أو اشتراكيين أو ملحدين أو بورجوازيين، ماعدا إن كان العنف الذي حدث، والذي سيحدث، مقصدا من المقاصد القاعدية التي يراد تحيينها بكل الأشكال الماكيافيلية، الدنيئة منها والنزيهة، والتي لا تعي كوعها من بوعها. لا يمكن تبرير الأساليب المتعالية على المجتمع، المبالغة في المغالاة السلبية إلا بالمصلحة المباشرة أو بقلة المعرفة. أتذكر بكثير من الخجل المرّ، كما يقول الشاعر يافتوشنكو، ما ذكره لي الطاهر وطار ذات يوم عن أحد قادة الشيوعية. كان لا يقرأ أبدا، وكل ما حفظه كان من أحاديث الحانات والمقاهي، دون الحديث عن الاستيعاب والتبصر والمساءلة، وتلك مسائل أخرى مؤجلة. عندما أفكر اليوم في جدتي، في ظل النزعات والنزاعات الجديدة التي يراد فرضها عليها بين عشية وضحاها: طريقة الوضوء، اللباس، الحجاب، البرقع، كيفية الصلاة، الحلال الجديد، الحرام المعاصر، التفكيكية، الفتاوى، الفتاوى المضادة، المرجعيات، المرجعيات المقلوبة، الفقه، التأويلات، المعاني، الحداثة الغربية، الاجتهادات، المقدس، المدنس، الإلحاد، الكفر، الزندقة، الإرهاب، الطاغوت، وكل تلك المسائل والألفاظ، أقول لا بدّ أنها ستقع في حيص بيص، أو سيختلط عليها الحابل بالنابل وتضيع بين هذا وذاك ثم تفرط في دنياها وآخرتها. لا يبدو لي الحراك العربي لينا، ولا أخاله من الياسمين كما هو متداول، لأن الانتقال لم يتأسس أصلا على وسائل إقناعية قوامها العقل، بقدر ما تأسس على الخرق وتصفية الحسابات. أما تلك المصطلحات والألفاظ والمفاهيم والأناشيد فليست إلاّ مطية، جعجعة منطلقها الحلق، لكنها لا تنبع من القلب والروح. ثمة سطو معلن على مراكز القرار دون أدنى فكرة عن التسيير وروح المسؤولية الحقة ومبدأ التدرج، ويجب التأكيد على التدرج لأنه جوهري في أي نمو وفي أي تغيير. إننا إذ نفرض بالقوة، ما نراه عين الصواب، إنما نعمل على تكريس التفرقة والفتنة عن طريق استيراد منظومات فكرية أو دينية غامضة، أو ليست أصيلة، وذاك ما يحصل في الغالب عندما تكون هناك بسطة في العمى وسعة في الصخب. هل يجب التنبيه إلى الجانب البيداغوجي في التعليم والتحصيل؟ مع ربطه بالمحيط؟ بهوية الشعب وحاله وطموحاته الفعلية؟ ثم إن كل البدائل مقاربات قد تجاور الحقيقة وقد تجانبها، إن نحن آمنا بوجود حقائق ثابتة، غير قابلة للتحول بتغير تموقع الرائي والثقافة التي يتكئ عليها. وهذي القناعة منبوذة في أغلب الأنظمة العربية، ولا تستسيغها النخبة كذلك، ولا القاعدة، إما لأنها غير مؤهلة معرفيا وأخلاقيا، وإما لأنها لا تخدمها، ومن هنا تبوأ العنف والإقصاء، حتى في المسائل التي لا تحتاج إلى جدل، ولا إلى عدوانية تنفي الآخرين من حيث إنهم مختلفون ظرفيا، لأننا لا يمكن أن نتحدث عن خلاف دائم عندما تتدخل المصالح وتأتي التحالفات العجيبة. هنا تنتهي المبادئ وتتقهقر التعاليم المستوردة. إن هذا العنف الذي تكرسه المراحل المختلفة يجعل المواطن العربي ضحية النظام القائم وضحية المعارضة المدججة بالقوالب وأجهزة القتل. نظام مستبد أيديولوجيا وسلطويا، ومعارضة مستبدة بترسانة من التفكيرات الجاهزة التي يجب تطبيقها فورا. هل عرفتم الآن لماذا أصبحت جدتي ماركسية سلفية؟ لأن هذا يطاردها بالرصاص والسجون والآخر يترصدها بالخنجر، لكنها ماتت قبل أن تعرف معنى الماركسية ومعنى السلفية. كانت تعرف جني الزيتون وغرس البطاطس وغسل الملابس في الوادي، وكانت تصلي قبل أن تولد، قبل أن يولد هؤلاء. لقد كانت سعيدة ومحظوظة في كوخها وضيعتها، ولم تسمع خطابا واحدا طيلة حياتها لأنها لم تملك مذياعا أو تلفازا. تلك الماركسية السلفية كم أغبطها. كانت صديقة التراب. وكان التراب يمدها بالقمح والفول والنعناع والماء دون أن يعرف تلك المصطلحات العظيمة التي لا تنبت سوى المشقة والدم، أما لو عاشت إلى هذا الوقت لأصبحت سلفية وستالينية وتروتسكية وإرهابية وطاغوتا وحداثية وأفغانية رغما عنها. ذاك واقعنا، كما هو. وهؤلاء هم نحن، في أبهى صور الابتذال والطمع والجهل والرياء. وإلا ما معنى تنصيب حكومات لا يعرف وزراؤها لغة أمتهم، أو يتحاشون استعمالها في المحافل الدولية؟ وما معنى أن يعترف وزراء ورؤساء بفشلهم الذريع ولا يستقيلون. وما معنى آلاف المليارات المختلسة دون محاكمة. وما هو راتب المسؤول الكبير ليستحوذ على نصف البلد ويمنح النصف الآخر للأتباع والمريدين؟ ألهذا علاقة بالماركسية والفكر السلفي؟ وهل قرأتم ذلك في كتب ماركس و ابن تيمية؟ كل ذلك منتوج التزوير والعنف والعنف المضاد ومنطق «معزة ولو طارت». لا يمكن أن نغرس الياسمين في الملح، كما لا يمكن أن نغرس الملح في مزهريات وننتظر قدوم الربيع. لن تنفعنا دراسات محمد أركون والجابري والغزالي وابن رشد وابن خلدون والكواكبي ومحمد عبدو في غياب الأخلاق السياسية والدينية. ذاك ما ينقصنا الآن، في هذه الفترة الحرجة. إننا بحاجة ماسة إلى أخلاق، وتلك أفضل أيديولوجية في الوقت الراهن. يجب الكف عن سرقة الشعوب باسم ماركس وابن تيمية، وباسم مرجعيات بريئة من السطو على مؤهلات الآخرين وكفاءاتهم، أولئك الذين تتخذونهم هزؤا. إننا نقتل الحياة عندما نختزل الأفكار والدين والأيديولوجيات والمرجعيات في الأموال والمناصب. وذاك ما نريد تحيينه في نهاية الأمر، سواء عن علم أو عن جهل. وتلك مأساتنا، سلطة ومعارضة، ثم.. اللعنة على كل الأيديولوجيات التي تخبئ اللصوص والقتلة والفساد ومشاريع أكلة لحوم البشر. اللعنة عليها قاطبة. لقد ماتت جدتي فقيرة بفضل أفكاركم، وستموت الأجيال القادمة أشد بؤسا بفضل أفكاركم التي لا روح لها ولا أخلاق. الأفكار التي يراد فرضها بين عشية وضحاها، وفي غير سياق ملائم. الأفكار التي بأنياب وأمعاء. الأفكار التي تلتهم الفضيلة البشرية.