ينتقل عمي الصالح بطل الفيلم، من العاصمة إلى مداشر في البويرة وقسنطينة وتبسة والواد، يركب عربته القديمة موديل 1979، ويمضي دون كلل أو ملل، يستقبل استقبال الأبطال أينما حل وارتحل، بطل فعلي في أعين سكان بعض المناطق التي لا تصلها سيارات الدفع الرباعي لمسؤولي قطاع الثقافة، وتصلها عربة عمي الصالح الذي يعرفه الجميع، كونه أصبح أكبر موزع للسينما والبهجة هناك. لا تعيق أعطاب العربة المتكررة عمل عمي الصالح، يقابلها بالاستغفار والمسارعة إلى إيجاد حلول، عوض التباكي على الحال، يطل من نافذته الصغيرة على الجموع المتابعة باهتمام لأفلامه، ويشعر بأنه يملك الدنيا. السينما في الجزائر... واقع مظلم يطرح الفيلم واقعا سينمائيا مظلما في الجزائر، حين توصد أبواب قاعات العرض في أوجه محبي الأفلام، ليجد الكثيرون أنفسهم في انتظار تلك الزيارة التي يقوم بها عمي الصالح من أجل منحهم “ترف" مشاهدة أفلام قديمة، تعتبر من كلاسيكيات السينما الجزائرية، والعربية والعالمية. لا يهم أين يعرض عمي الصالح فيلمه، يكفيه حائط فقط لينقل إلى الجمهور دهشة السينما، لا يهم أن يكون هذا الحائط تابعا لمركز البريد في واد سوف، المقابل تماما لدار الثقافة الموصدة أبوابها في وجوه الجميع. عمي الصالح يغسل وجهه في عربته، وأمام المرآة المكسورة المعلقة عليها، يحتفظ بأفيش لمهرجان سينما الهواء الطلق، مهرجان لم يقدم الكثير لعمي الصالح، الذي يعاني مشاكل مادية تظهر عبر أكله وملبسه البسيط، وسجائره الرخيصة التي تسبب له مشاكل صحية تظهر عبر سعاله الدائم. سخرية من ثقافة الخمس نجوم لا يشترط عمي الصالح النزول في فندق من فئة الخمس نجوم، والتكفل التام به، ليعرض أفلامه. نفس العربة التي ينتقل بها، تتحول إلى عارض أفلام، وبعد العرض تتحول إلى بيت ينام فيه. مستقل لا يتكل على كرم مضيفيه، يقضي حاجياته بنفسه من السوق، ويطبخ على موقده المتنقل. لا بأس من الجلوس مع حارس على باب يوكس بتبسة، من أجل كوب شاي بعد رحلة طويلة، قاعة استقبال في الهواء الطلق. الرقابة والتسامح يستعصى أحيانا على عمي الصالح أن يجد مكانا صالحا للعرض، وفي معرض تنقله بين القرى لعرض أفلامه، يجد نفسه في مواجهة مشكلة خلو إحداها من مكان صالح للعرض، سوى منارة مسجد. يكلم إمامه، الذي يسأله عن خلو الفيلم من مشاهد خادشة للحياء، فيؤكد عمي الصالح هذا الأمر، يفترقا على دعوة يوجهها هذا الأخير لحضور الفيلم، الذي لم يكن سوى فيلم “الحرام" الشهير، واحد من كلاسيكيات السينما المصرية. لا مجال للخطأ عند العرض على حائط مسجد، في مكان محافظ كواد سوف، لهذا يسابق عمي الصالح الزمن من أجل استخدام مقص الرقابة، لحذف لقطة وحيدة إيحائية في الفيلم لا تدوم إلا بضع ثوان (بريئة جدا بمقاييس السينما الواقعية)، تتعرض فيها البطلة (فاتن حمامة) إلى الاغتصاب. يمر العرض بسلام، لكن عمي الصالح المشغول بالأعطاب المتكررة لعربته، قد تفوته قبلة صغيرة تثير حماس المراهقين في قرية أخرى، وتجعل الشيوخ ينسحبون حياء. ما يطلبه المشاهدون يهتم عمي الصالح بمعرفة آراء جمهور السينما في المداشر. صبيحة كل عرض يقترب منه نموذج منهم، بين الشيخ الذي لم يشاهد فيلما منذ الفترة الاستعمارية، والشاب الذي يطلب منه عرض فيلم أكشن في المرة القادمة، بين هذا وذاك يحاول عمي الصالح الترويج للأفلام التاريخية، التي تحكي قصص الثورة الجزائرية. السينما الواقعية... تحد جديد يندرج فيلم “السفر الأخير" للمخرج جمال عزيزي، في إطار السينما الواقعية، التي توثق حياة شخصية على طريقة الأفلام الوثائقية، وفق سيناريو معد سلفا، التجربة التي تستحق متابعة مكثفة، كونها تدخل المشاهد في مواجهة مع تفاصيل يعيشها يوميا، لكن لا يلتفت إليها بكثير من الاهتمام، وهو الأمر الذي يضع المخرج وكاتب السيناريو في تحد، للارتقاء بمستوى الشخصيات، من مستوى الشخصيات اليومية العابرة، إلى شخصيات محورية تشبع فكرة صناعة فيلم.