من الصعب أن تختلف الآراء في أن طاغور كان أحد الشعراء كثيري الإنتاج والتنوع، وشعره مثل قصيدته، “نزول المطر" بعد أن انفجر مرة من الكهف الذي كان مسجونا فيه، شاع وانتشر، ليس في داخل وطنه “بنغال" بل تجاوز حدود البلاد ووصل إلى أرض أجنبية مثل بلاد جوائز نوبل. وطوال حياته الطويلة والمثمرة خرج من قلمه بالاستمرار آلاف من القصائد وأشعار الحب والحياة والأناشيد الوطنية والأغاني الطبيعية وما يسمى الآن “أغاني التصوف والمعرفة" وهذه الوجوه المختلفة لشعره تمثل شخصية متكاملة وشاملة لشاعر. ولكن السؤال يبقى من هو طاغور الحقيقي وماهي روح شخصيته الشعرية؟ والناقد دائما يود أن يعين طبقته. وهناك عدد كبير من الأشعار والأغاني حول الطبيعة وأغاني المواسم ولاسيما الأغاني بمناسبة حلول موسم الربيع والأمطار الاستوائية الغزيرة. ولكن طاغور برز في سماء الغرب ليس كشاعر للطبيعة بل كشاعر صوفي وذلك عن طريق قصائد الحمد ومجموعة صغيرة لمقتبسات أشعاره الواردة في “جيتانجلي" التي ترجمها بنفسه إلى النثر و«كهيا" و«نائفيديا" اللتين وصفتا قصيدتي التصوف بمحتوياتها وكلماتها. إن كثيرا من مقدريه في الغرب والعالم الناطق باللغة الإنجليزية لم يتعرفوا في البدء عبقريته الشعرية. ويضاف إلى ذلك أن الغرب قد تعود اعتبار المشرق مكانا للروحانية، ولم يزل منذ سنوات كثيرة يحاول أن يقتبس من الشرق الرسالة الروحية. وإلى الوقت الحاضر يسعى الغرب أن يملأ الفراغ الروحاني بتقلبه لتعليمات من يسمونهم “جورو" و«السوامي جي" الهنود الذين بعضهم ليسوا إلا الخداعين والمنتهزين للفرص. وهذا هو السبب أن أهل الغرب عندما يطالعون “جيتانجلي" يبحثون في شخصية طاغور لا عن شاعر أو أديب الذي كان هو أساسيا بل عن كاهن أو نبي أو فيلسوف فحسب. فطاغور الشاعر يختفي تحت ستار طاغور النبي والفلسفي. ومنذ فترة قصيرة صار طاغور في الغرب عادة رائجة تتبع، وبما أن طاغور لم يكن نبيا ولا فيلسوفا (بالمعنى المعروف) فلم يبق رواجا لمدة طويلة، وتملل الناس من هذا الرواج، وطاغور الفلسفي نسي بعد قليل، ولكن ليس هذا ما يؤسف كثيرا، إن ما كان من أسوأ الحظ هو أن مع طاغور الفلسفي نسى طاغور شاعر الجمال من جميع أنواعه أيضا في الغرب. إلا أنه في الغرب بنفسه كان هناك من أدركوا حقيقة عمق وبداعة رسالة طاغور وتأثير تصوفه الأساسي ليس على الأدب الإنجليزي فحسب بل على جميع الآداب الأوروبية. منهم و.ب. ييتس الذي كان بنفسه صوفيا ومن حاملي جائزة نوبل والذي عرف جيتانجلي قائلا: “إنني لم أزل أحمل معي مسودات هذه التراجم لمدة طويلة، أقرأها في القطار والأتوبيسات وفي المقاهي. وكثيرا ما اضطررت إلى أن أغلقها حتى لا يلاحظ أحد كيف تأثرت بها. إن هذه الأشعار تعرض بأفكارها عالما قد احتلمت عنه طيلة حياتي". وناقد غربي آخر قد كتب عن دور طاغور وإنتاجه مقابل الآداب الإنجليزية والأوروبية، فقال: “لا شك في أن هذه القصائد لها مكان ليس أدنى من قمة الأدب الإنجليزي، بل لعلها مرشدة الطريق لأكبر الحركات في الأدب الأوروبي التي قد شوهدت حتى الآن، أي بروزه المتوقع من مستوى “الحقيقة" أو “العقلية" الأدنى إلى مكان صوته الحقيقي بكونه محاميا للبشرية الإلهية". وكانت رسالة طاغور في الهند مفهومة بسهولة وسرعة أكثر، لأنها كانت موافقة لتقاليد التصوف القديم الذي كان منبعه أشعار “تبانيشاد" والذي جاء في طريقه الإلهامات التلقائية لشعراء ومغني القرون الوسطى مثل دادو ورجب وكبير وميرا بائي، حتى وصل إلى طقوس القرنين الخامس والسادس عشر مثل “بشنويه" التي يعتقد أن كلا منهما أثرت على شعر طاغور. وجاء طاغور ليس متمردا على هذه السلسلة الفكرية بل مكملا لها. مثل الذين سبقوا طاغور في هذه السلسلة كان طاغور بدون الشك فوق جميع “النظم المغلقة" للمنطق والفلسفة. وإنما ما يسمى “تصوفه" لم يكن طائفة أو فلسفة اختارها على وعيه، كما لم يكن ذلك هروبه عن ارتباك الحقيقة الذي وجده كثيرا. وكما ذكر فيما قبل، ما كان طاغور فلسفيا بتعبيره المعروف عامة. “إن لم يجد أي مانع أكثر استنكارا من نظام الفكر المغلق أو المصنوع الذي فيه تفسير لكل شيء". كان طاغور طبعا عارفا بل في الحقيقة مغمورا في لغز في داخله وحوله، كما اعترف مبهما وبديهيا بروح عالمية للذات الأخير الذي أيضا ظاهر في جميع الأشياء والطبيعة وجميع مظاهرها. ولكن إدراك طاغور لهذه الروح العالمية لم يكن عن طريق التعقل أو بواسطة نظام منطقي لفكر فلسفي بل كان مستقيما واضحا وشخصيا بصفة تامة كما ذكره كريلاني كاتب تاريخ حياته إن سر طاغور ما كان إلا شعوره بعلاقته بكل شيء شعوره الداخلي بالربط غير المرئي الذي يربط جميع الأشياء الحية فيما بينها، وكذلك الأحياء بما تسمى غير الأحياء المرئية وغير المرئية، وفوق كل شيء كان المحب الذي رأى الجمال في أشياء عادية جدا. والذي أحس مسه في العالم الخارجي وشعر به في ذاته الداخلي وعرف بأنه في مرحلة معينة من الوجدان أو فوق الوجدان أنهما يرتبطان معا نهائيا. وهذه الروح التي سادت هذا العالم الواسع كانت تسكن في داخله وتقود حياته وعقله. إن هذا الشعور بالعلاقة مع كل شيء، وخاصة مع الطبيعة، هو بدون شك عنصر قوي بديهي في شعر طاغور. وكما ذكر فيما سبق كان طاغور أكبر شعراء الطبيعة في أية لغة. وقد سابقه كثير من شعراء الطبيعة الذين كانوا حساسين قويين بالطبيعة، منهم “وردس ورت" على سبيل المثال، الذي في قصيدته “الأشعار التي نظمت في بداية الربيع" قد اعترف بصفة ساذجة وواضحة بعنصرين في عقيدته الشعرية، أولهما “أن هذه عقيدتي إن كل وردة تتمتع بالهواء الذي تتنفس به" وثانيهما “إن الطبيعة قد رابطت بأعمالها الجميلة الروح الإنسانية التي تجري في داخلي". “تتبع هاتين العقيدتين عقيدة ثالثة وهي أن الروح الإنسانية أو على الأقل روح الشاعر تشاطر الأزهار في التمتع بالهواء الذي حوله". «الطيور حولي صفرت ولعبت وإنني لا أستطيع أن أقيس أفكارها. إلا أن أقل حركاتها تعرب عن هزات فرحها". ما شعر به “وردس وورت" في بداية الربيع، شعر به طاغور عند حلول فصل الخريف في الآفاق الوسيعة لولاية بنغال النهرية، وفيما يلي ترجمة ما كتبه طاغور: «صباح اليوم تطير قطع السحاب في السماء الأزرق والشمس والظل يلعبان لعبة حاوريني يا كيكا في حقول الأرز، والنحل مشتغلة في التمتع بالشمس حتى نسيت البحث عن العسل وعلى الجزيرة الرملية وعلى شاطئ النهر يجتمع البط والبطة إنني لا أقدر على المكوث في البيت اليوم بل أكسر الباب وأنهب جميع جمال الطبيعة مثل الزيد الذي يعلو الأمواج الثائرة النسيم مصطفة اليوم مع الضحك وفي مثل هذا اليوم لا يستطيع أحد أن يعمل بل يعزف بالناي وتجمع السحاب الاستوائية المملوءة بالمطر في شهر يوليه قد ملأ روح طاغور بالفرح المماثل فقال: قد عاد يوليو مع السماء المملوءة بالسحاب ويحمل النسيم رائحة المطر وتحشد السحاب الجديدة يثير روحي التعبان التي بدأت تتهزز بالفرح وظلال السحاب تظل مخضرة من حين إلى آخر «لقد ورد هذا"، و«قد جاء هذا"، يغني روحي، وقد وصل هذا إلى قلبي عن طريق عيوني. ولكن طاغور لم يكن مقتنعا بمحض ملاحظة هذا الرابط المفرح مع الطبيعة، فقد حاول أن يفهم لماذا يكون لأشكال الطبيعة انعكاس وصدى في داخل الروح الإنسانية وتفحص في هذه الربطة التي توجد بين دورة الحياة البديهية للطبيعة والتطور الداخلي للروح الإنسانية. وفي خلال هذا البحث هو يقدم نظرية فاتنة هي أن الإنسان والطبيعة مرتبطان بهذه العلاقة لأنهما زميلان وصديقان تم ترضيعهما من ثدي واحد وتربيا في روضة واحدة، وأثناء طفولتهما كانا معروضين لنفس القبلات واللعبات ذات صوت ولون ولمس وجمال واحد فيقول: ليس هناك نهاية للفرح الذي صرف في تخليق جسدي كل خلية منه قد ربيت في مرافقة ذرات النور بنفسه وأزهار لا تحصى قد صبت رائحتها عليّ وبأساليب لا تعد قد هزتني بنعمتها الدائمة وبين طبقات عمري تكمن نغمات لا تحصى وقد اغتسلت في ما له ألوان لا تعد وكم من نجوم الفجر قد ترك لمسه على أحلامي وكم من مواسم الربيع قد صب على سروره التلقائي وإذا كان الإنسان والطبيعة تم تربيتهما في روضة واحدة وأنهما الآن صديقان وزميلان لا يمكن فصلهما فلا بد من سؤال واحد هنا: لمن هذه الروضة؟ لمن هذا البيت؟ وندخل باب عمارة تصوف طاغور ونحن نسأل هذا السؤال، ولكن الجواب ساذج الذي يأتي من طاغور الذي منذ طفولته لم يزل يسمع أشعار بأنيشاد فيقول: «إن اللامح الحساس الباقي الذي يسود السماء هو نفس الذات اللامع، الحساس الباقي الذي يسود الروح" ويقول بإنيشاد “إن جميع الذين يسكنون في هذا العالم يسكن فيهم المعبود"، وكان طاغور قد أدرك إدراكا تاما بأن نفس الروح (أو المعبود) التي تسود العالم كله تسكن في داخل نفسه أيضا وتقود حياته وعقله، وقد سمي طاغور هذه الروح “جيوان ديوتا" أو مالك الحياة. وقد أشار نقاد طاغور إلى هذا الإعتقاد ووصفوه ب “وحدة الوجود" وهذه الروح العالمية (برماتما أو الباقي) من حيث الفلسفة طبعا مجرد وكما أشير إليه من قبل كان طاغور شاعرا وليس فيلسوفا، وكان لا يستطيع أن يعيش مع هذا التجرد، فإن الصوفياء والشعراء طوال القرون قد سعوا بالإستمرار من أجل إنشاء روابط عاطفية وعلاقات مباشرة وقريبة مع هذه الروح، وقد سموها “الأب، المالك، الحبيب، خلافها من الأسماء، وطاغور أيضا بصفته شاعرا وصوفيا سعى هكذا إلا بنجاح وحيد، إن معرفة طاغور بهذه الروح العالمية في حياته وعلاقته معها كانت شخصية بصفة كلية، وقد أنشد كثيرا من الأغنية عن هذا “الجيوان ديوتا" منها: من هو ذا في أعماق قلبي؟ بلمسة الناعم أوقف مشاعري وألمي يلمس عيوني بالسحر ويطرب على أوتار قلي ويجعل نبضي يدق متحدا مع الهناء والألم وغاية السرور إنه قد نسج سارا سحريا في دنياي بخيوط خضراء وصفراء وبيضاء وزرقاء ومن وراء الستار قد تقدم ليغمسني في بحيرة السعادة وطوال أيام مضت وعهود سلفت لم يزل يحبس قلبي في سجن العبودية بتخليق جمال جديد بالاستمرار ولو كان بأشكال مختلفة وأسماء مختلفة إن كثيرا من الشعراء الصوفياء لا يزالون يعتبرون الروح العالمية معبودا إما بصفتها مالكة أو حبيبة ولكن الناحية الممتعة في علاقة طاغور مع “الجيوان ديوتا" هو أن الحب ليس من جهة واحدة، بل “الجيوان ديوتا" يحتاج إلى طاغور تقربها إلى حد يحتاج طاغور إليه كيف ومتى يحتاج مالك الكائنات إلى شخص فان؟ طاغور يفسر ذلك قائلا: هذا لأن هناءك مملوء في قلبي هذا لأنك هبطت إلي يامالك السماوات، أين يكون حبك لو لم أكن أنا؟ فقد اتخذتني شريكا لك في هذه الثروة كلها في قلبي لعب مستمر لبهجتك في حياتي رضاءك دائما يتشكل بأشكال ولهذا أنت يا مالك الملوك قد أوقفت نفسك بجمال لتمتلك قلبي ولهذا السبب حبك ينظم في حب أحبائك ويظهر حبك وحب أحبائك في وحدة كاملة وهذه الفكرة “إنك هبطت إلي" تتكرر كثيرا في أغاني وأشعار طاغور وهذا التنقل أي هذا السفر الدائمي للمالك المعبود إلى عبده الفقير كان بدأ في الماضي المبهم واستمر طوال الزمن فقال: «إنني لا أعرف منذ أي وقت بعد أنت تسافر إلى لقائي، إن شمسك ونجومك لا تستطيع أن تخفيك من عيوني، ولقد سمعت كثيرا في الصباح والمساء صوت خطواتك وقد ورد في قلبي رسولك وناجاني سريا «أنت هبطت من عرشك، وعند انتهاء سفرك الطويل، وقفت على باب كوخي". ماذا يجبر المالك أن يقطع هذه المسافة الطويلة إلى عبده الحقير؟ إنه الحب الذي يجبره على ذلك، وكما رد طاغور على هذا السؤال: “ياربي، مالك السموات، أين يكون حبي لو لم أكن أنا؟" إن الجيوان ديوتا لطاغور ليس معتزلا، إنه يحب ويود مقابل حبه أن يحبه أحد ويقدره، وبعد أن خلق هذا العالم الجميل والعجيب يشتاق إلى المعرفة كيف يراه عبده الشاعر، وقد أعرب عن هذه الفكرة في أغنية أخرى لطاغور وفيما يلي ترجمة بعضها: (يا ربي! ما هو الشراب الذي ترغب أن تشربه بملأ كوبة جسمي وروحي؟ يا شاعري! هذه رغبتك لترى خلقك بواسطة عيوني وأنت تسمع موسيقاك وأنت جالس صامت خلف نوافذ أذني وفي شعوري تخليقك يكتب رسالة مدهشة وحبك ينجب جميع أغاني وهو يعزف على تلك الرسالة وأنت بقدومك في داخل نفسي تتمتع بفرح الثناء على نفسك). لقد أثبت شعر طاغور لنا أن لديه شعورا عميقا بالطبيعة وإحساسا لودها وبواسطة الطبيعة كان تجلى عليه الخالق الذي يعيش في داخل جميع خلائقه، والذي من حين إلى آخر يتقدم من وراء ستاره السحري المنسوج بالخيط الأخضر والأزرق الذهبي والفضي. وقد نجح طاغور في إنشاء علاقة الحب القريبة والحساسة مع خالقه الذي مالك حياته أيضا. ولكن هل انتهى الأمر بذلك؟ كان ذاك ممكنا عن طريق الهروب من الدنيا واللجوء إلى الغابات وجبال “همالايا" والمناجاة مع الخالق والعدل عن المجتمع الذي بناه إخوانه الناس، كما ذكر سببه الشاعر “وردس ورت". إن قلبي كئيب يفكر كيف عامل الإنسان مع الإنسان! ولكن طاغور كان بعيدا عن فكرة العزل وكان يحب الدنيا وسكانها ولم يفكر أبدا في النكران الذاتي، فيقول: «إن نجاتي لا تقتضي التخلي عن حقوقي إنني أرى أعناق الحرية في قيود الحب لا... إنني لن أقفل أبواب حواسي فإن سرور البصر والسماع واللمس يزودني بسرورك نعم! إن جميع أوهامي ستتلوع وتتلمع بالفرح وجميع رغباتي تتحقق في أثمار الحب.." وقد بحث طاغور عن الإنضمام في ربه ليس في الغابات والصحراء بل في وسط المجتمع الإنساني وفي إنشاء الروابط الودية مع الناس، وقد أعرب عن ذلك في كثير من أغانيه، منها: المكان الذي أستطيع أن أصلك فيه ليس هو إلا المكان الذي أنت في اتصال مباشر مع دنياك الوسيعة وليس في الغابات ولا في العزلة وليس في داخل معتزل روحي المتوحشة بل حيث أنت بين الجميع هناك أنت يا حبيبي لنفسي أيضا.. عندما تمد يديك إلى كل أحد هذا هو الوقت الذي حبي يتوجد إليك إن الحب لا يعيش سريا محدودا في حجرة بل ينتشر مثل النور نفسه فإذا أنت مصدر لفرح الجميع فأنت أيضا مصدر لفرحي.. إن طراز تصوف طاغور لم يجبره على أن يعيش في البرج العاجي بعيدا عن فلاحي الأرض وبنائي الطرق فقال: أترك هذه التلاوة والذكر والتسبيح من الذي تعبده في هذا الركن المظلم الموحش للمعبد مقفلا جميع أبوابه؟ افتح عيونك وانظر إن ربك ليس أمامك إنه هناك حيث الفلاحون يفلحون الأرض العصبة وحيث بناء والطرق يكسرون الأحجار. إنه معهم في الشمس والمطر ولباسه ملطخ بالغبار اخلع عبائك المقدس واهبط مثله إلى الأرض الغبراء النجاة؟ أين توجد هذه النجاة؟ إن مالكنا بنفسه اعتنق عناق التخليق إنه مرتبط معنا بالدوام اخرج من حجرة مناجاتك واترك أزهارك وبخورك ما يضرك إذا تلبث لبساك بوسخ القه وقف بجانبه في الكد والعرق بجبينك إن هذه الفكرة بعيدة جدا عن فكرة التخلي عن الحقوق والواجبات إنه في الحقيقة اعتراف بمهمة الإنسان وبالحياة والحب. وهذا هو السبب لماذا طاغور، الشاعر الصوفي شاعر الطبيعة لا يزال حتى بعد مضي ثلث قرن بعد وفاته يعتبر أكثر شعراء الحب والحياة الهندية بل الحب والحياة البنغالية حسنا ورقة وتأثير، إن الكتابة عن تلك الناحية لشعر طاغور تتطلب مقالة مستقلة ولا يمكن إحاطتها في كيسة هذه المقالة التي تبحث عن ناحية التصوف في شعر طاغور. إلا أنه يجب أن نفهم أن جميع وجوه شعر طاغور مرتبطة فيما بينها، إن إدراكه للطبيعة وكذلك الحب والحياة الإنسانية كما ذكر هنا مشتبك كليا مع ما يسمى تصوفه وقد كتب كريشنا كربلاني عن حياته ومؤلفاته بكل شكر وامتنان له، إلا أنه لا يمكن الإتفاق معه في قوله عن تصوف طاغور بأن الشاعر قد تغلب عليه إنسان الإله" إن علاقة طاغور وصداقته مع “جيوان ديوتا" شيء أسمى برأيه وإحساسه القوي بالطبيعة من جانب واحد وفهمه اللطيف للعواطف الإنسانية من جانب آخر ينبثقان من الحقيقة، إنه يرى كلا من الطبيعة والإنسان بعين مرافقته مع مالكه أو “الجيوان ديوتا" الذي تمتد دائرة قيده حول كل شيء وفي كل جهة ويبدو “كربلاني" معتذرا بأن طاغور في تصوفه “أصبح مغلوبا بشعوره بالمسؤولية أمام ربه والإنسان".. وإذا فكر “كربلاني" هكذا فهذا مفهوم لأنه لم يعيش أبدا عيشة طاغور كما لم يدرك كما أدركه طاغور وقد حكى “ييتس" في افتتاحية ترجمة جيتانجلي كيف كان طاغور يستيقظ كل صباح بالساعة الثالثة ويجلس صامتا ساكتا على الأقل ساعتين مفكرا في خالقه". ييتس الذي هو صوفي بنفسه متأثر من سيرته ويرى أهميتها، إنه يدرك أن شعرا مثل هذا الشخص قد يكن له رائحة خاصة وأن “إنسان الإله" في طاغور يزود الشاعر فيه فقط بالتلميع وليس يخضعه يقول ييست “إننا لم نعرف أبدا أننا نحب الله، كان من الممكن أن نعتقد في وجوده: إلا أننا عندما نرى خلفنا في ماضينا، نكتشف وأننا نبحث عن طرق في الغابات، نتفرج في جبال وحشة، ندعي إدعاءات غريبة على النساء اللواتي نحبهن، نكتشف العاطفة التي أوجدت هذه الحلاوة الخداعة، يا مليكي! أنت دخلت قلبي خفيا دون تنبيهي مثل أحد من الحشود العامة الذين لا أعرفهم وأنت أثبت علامة الدوام على كثير من اللحظات المارة، وليس الآن قداسة “الصومعة" أو القصاص بل محض ترفع مزاج الدهان بشدة أكثر الذي يدهن الغبار والشمس.