ما إن انخفضت الحرارة وما خلّفته من مشاكل أساءت للعلاقة بين الجزائريين والسلطة، حتى مسكت أولى كميات المطر المتساقطة، أمس، وتيرة التكهرب الحاصل بين المسؤولين والمتضررين من الفيضانات في مختلف المناطق، فمثلما أشعل انقطاع الكهرباء شوارع البلاد، بالأمس القريب، تتجه الأمطار نحو إبقاء الشارع مشتعلا بسبب غياب الحلول كما حدث في مناطق مختلفة، فضلا عن تعطل خدمات قاعدية هامة حتى بقلب العاصمة، أهمها “مفخرة" الحكومة.. الترامواي. لم يكن أول الغيث على الجزائر بردا وسلاما، كما تمناه ربما كثيرون، ولم يمح دنو الزئبق من البرودة آثار الحرارة والحرائق التي جعلت صيف الجزائريين هذا العام، أشبه بعذاب بقطع من النار نازلة من السماء، زادتها حرائق الغابات التي حاصرت الناس من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. دقت أجراس شاحنات رجال المطافئ باكرا، أمس، إيذانا بالهرولة نحو نكبات مائية عبر مختلف مناطق العاصمة. ولم تنفع كالعادة لا استباق مصالح الأرصاد الجوية إعلان نشرياتهم الخاصة ولا إمكانيات الدولة من جعل الحلول للمتضررين الذين أصبحوا معروفين لدى السلطات المحلية من كثرة وقوعهم كضحايا موسميين للفيضانات، جراء وضعياتهم السكنية الهشة. وإذا كانت الانقطاعات الكهربائية التي لا زال تضيّق العيش على رقاب الناس، تخرجهم إلى الشوارع في ساعات أضحت معلومة بين الناس، فكميات الأمطار المتساقطة أمس، جعلت عائلات عديدة في بوبصيلة بدائرة الحراش، يبكرون بإنزال احتجاجهم على السلطات بعد أن فاجأتهم شلالات من المياه المتدفقة من الطريق المؤدي إلى الطريق الاجتنابي السريع قبالة مصنع الورق القديم “سونيك"، المعروف حاليا بحي المجاهد. لقد قامت عائلاتا بوعون وقندوز كثيرة الأفراد، بغلق الطريق الرئيسي الرابط بين الحراش والطريق السريع من ناحية حي بوبصيلة الواقع ببلدية بوروبة، بعد أن غمرت المياه مراقدهم في ساعات الصباح الأولى، التي تبدأ فيها وتيرة حركة السيارات بالتصاعد شيئا فشيئا، خاصة الناقلين الذين لا يملكون خيارات كثيرة للخروج من وسط المدن بعد التبضع والشحن سيما من منطقة وادي السمار الصناعية والتجارية. والدليل على ذلك كان قطع العائلتان لهذا الطريق وقع سريع على السلطات المحلية، بعد أن اضطرت فرقة من الحماية المدنية كانت تسلك مركبتها ذلك الاتجاه تلبية لنداء ما، اضطرت إلى تغيير اتجاهها بعد أن باغتها العشرات من أفراد العائلتين والمتعاطفين معهم بمنعهم من المرور، إذ طلبوا منهم أن يسبقوا في نجدتهم، أولا لإتمام مهمتهم التي خرجوا من أجلها بعد تلقيهم الاتصال، “إذ كيف يُعقل أن يمر أعوان الحماية المدنية على سكان وقعوا ضحية للفيضانات والنكبة ظاهرة للجميع دون أن يتوقفوا بفعل ما تمليه عليهم مهامهم حتى ولو بالاتصال بزملائهم من أجل الأطفال والنساء الذين غرقوا في مراقدهم"، يقول أحد أفراد عائلة بوعون وهو غاضب في تصريح ل “الجزائر نيوز" التي تنقلت، أمس، إلى عين المكان. وأضاف آخر “هل تعلمون ماذا قال لنا رجال الحماية المدنية.. إننا لم نخرج لنجدتكم أنتم ثم إننا لا نحمل الوسائل التي تعيننا على إجلاء ما حل بكم". لم تستسغ العائلتان أن يفرّق رجال الحماية المدنية في النجدة، بين من اتصل ولم يتصل، ولم يستسيغوا أيضا كيف يُقال لهم إنهم لا يحملون على شاحنتهم وسائل الإغاثة اللازمة والمناسبة بينما مناسبة الكارثة عبر معظم مناطق البلاد فيضانات جراء مطر منهمر يشبه الذي جاء في شكل الأعاصير. بعد أن بزغ ضوء يوم الجمعة، جاءت مؤسسة أسروت في نجدة العائلات التي تشغل مركّب “سونيك" ببوبصيلة، وأصر أحدهم علينا لننقل بأن قدوم أسروت إلى إنقاذهم من المياه التي غمرتهم كان بفعل اتصالاتهم الشخصية وليس السلطات المحلية، التي خصصوا لها الجزء الأكبر من تعبيرهم لنا عن سخطهم واستيائهم منها، خلال لقائنا بهم. محاصرة مسؤول محلي دخل بالصدفة إلى منطقة النكبة كان الناس عبر أنحاء بوبصيلة، صباح أمس، لم يعلموا بعد بخبر قطع الطريق بسبب غمرة المياه لديارهم، إذ لم نهتد بسهولة إلى عين المكان، فلم نكن نملك من المعلومة سوى أن ما حدث، كان ببوصيلة. فبينما نحن نهمّ بمغادرة الحي الشعبي العتيق من مخرجه الجنوبي، حتى لفت انتباهنا محاصرة مجموعة من الشباب والكهول لسيارة صغيرة، سوداء اللون، لم أقو حتى على تذكر علامتها من كثرة الفضول الذي تملكنا جميعا في السيارة لمعرفة ما إذا كان للحدث علاقة بما خرجنا من أجله أم لا.. قال خالد، سائق الجريدة، قد يكون ذلك شجارا ولكن ما إن دخل بنا وسط الحشد المتجمهر حتى تأكدنا بأن الأمر يتعلق بالعائلات التي قطعت الطريق، إذ كانوا يحاصرون مسؤولا محليا يشكون له مصيبتهم ويعاتبونه على تجاهل البلدية لهم رغم سنوات من العناء المتكرر كلما سقطت الأمطار. أبلغهم أنه عائد لتوه من بجاية ولا علم له بما حدث. كانت تبدو تلك الكلمات مقنعة لهؤلاء الذين خلوا سبيله بمجرد نزولنا من السيارة، ورؤيتهم لأمين المصوّر وهو يحمل مصوّرته بين يديه.. تبيّن لي فورا أنه لم يعد من الصعب على الجزائريين معرفة الصحفيين، بل أصبحوا من كثرة مشاكلهم واعتيادهم على فرق رجال القلم، التفريق سريعا جدا، حتى بين العاملين في الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي، فور نزول نظرهم على الوسائل التي يحملونها معهم خلال التغطيات. ودون أية مقدمات هرع إلينا سكان سونيك وما جاوره لسرد المأساة وتفاصيلها علينا، لعل وعسى تسمع صوتهم أذن رشيدة من خلال ما ننقله. مساكن مرعبة زادها الفيضان رعبا كانت مظاهر وآثار ووسائل عملية قطع الطريق قد وضعت على أحد الأرصفة، لكن دون إخفائها أو تصفيتها نهائيا... قد يكون ذلك إشارة إلى احتمال العودة إليها في حال زاد السوء عن حده أو حتى إذا لم يزد أو ربما حتى إذا تأخرت السلطات المحلية في حل انشغالهم. عائلة قندوز وبوعون، كثيرتا الأفراد، ولا تضطر إلى شيء في معرفة من شقيق من ومن إبن أو ابنة من، فالشبه ضارب بينهم أجمعين، سواء بين “القنادزة"، أو بين “البعاونة". يشغلون بيتا قديما تتقاسمه عدة عائلات من أزواج وأولاد. تعلوه بناية يقولون إنها كانت تابعة لمعمل الورق المعروف باسم سونيك. بالنسبة للبيت السفلي، فهو يشبه “دار سبيطار" جدار الرئيس يطل على الطريق مباشرة، وكثيرة ما اصطدمت به مركبات أنزلت ردمه على رؤوسهم، وفي كل مرة كانت العناية الإلهية تتدخل لتحول دون إزهاق أرواح من تحت سقف ذلك الجدار. أولى المشاهد كانت أولاد وشيوخ وشباب، كلهم يحملون بين أيديهم شيئا يساعده على صرف المياه التي تغمر عرفه جميعا، إذ بنيت سقوف هذا البيت مباشرة مع مستوى الطريق العام الذي توجد أغلب البالوعات المحيطة به وبالبيت في حالة انسداد، ما يجعل مياه الأمطار تصب مباشرة عليه كأنه بالوعة أو مجرى مائي أو قبو. كانت نساء البيت في حالة يأس متقدم مما يعانينه موسميا مع كل شتاء. أما الرجال فمستعدون لإيصال غضبهم إلى أبعد الحدود، حتى ولو كان ذلك على طريقة ميكيافيلي “الغاية تبرر الوسيلة"... أصبحت الكتابة في الجرائد لا تستجيب لدرجات السخط والغضب التي يريدون التعبير عليها، مثلما أصبحت تستجيب له القنوات التلفزيونية الخاصة.. كانوا يسألون عما إذا كانت كاميرات إحدى تلك القنوات حاضرة. لقد بلغ مستوى المياه في بعض الغرف نصف المتر، وتضررت بشكل بالغ ماكيناتهم المنزلية وملابسهم واهترأ أثاثهم وبلغت الرطوبة في الداخل مستويات لا تطاق وزادت شجرتان في أصل البيت من معاناتهم بعد أن أصبح من المستعصي على السلطات تنحيتهما لقلة الإمكانيات، كونهما متجذرتان بشكل يمس فروع المنزل وجدرانه حال مباشرة الاقتلاع، وأما القطع فيحتاج لآلات ضخمة كرافعات ترفع الأجزاء المقطوعة من البيت إلى الخارج، ويتطلب ذلك قطع أحد أهم شرايين الطرقات بالعاصمة، لساعات غير محدودة، فالسكان يؤكدون أن الأمر قابل للتجسيد، لكن البلدية لا تملك الإرادة. كان الأطفال أكثر معاناة من الكبار، إذ كانت ترهقهم الحركة وتعب إجلاء الماء المتبقي بطرق بدائية، مما لم تقدر على إخراجه آلات أسروت. أما سكان سونيك، فقد ضاق بنا التنفس ونحن ننزل إلى أسفله ولم نلبث دقائق، فكيف بعائلات نساء وأطفال شيوخ وشباب، لا يتنفسون من الهواء سوى الرطوبة التي لم تصلها أشعة الشمس منذ عشرات السنوات. كانت المياه قد وصلت إلى هناك بشكل يصعب تصور طريقة إخراجه... غادرنا تحت عبارات الدعاء بالخير لنا في نقل انشغالاتهم ونحن مقتنعون بأنه لا حل لهؤلاء سوى أن يحلّ عليهم شيء من شعارالرئيس بوتفليقة منذ توليه الحكم (العزة والكرامة).. أن يرحلوا إلى مساكن تحفظ كرامتهم.. وإلا فهم برميل بارود قد ينفجر في أي وقت، ليس على السلطات المحلية بل على سلطة السلطات أيضا، إذ تجاوز الوضع انعدام الحل إلى انعدام حتى جهة تسمع بنكبتك يوم الجمعة. مفخرة الحكومة يتهدّدها الشتاء من بوبصيلة إلى حي الموز بباب الزوار، لكن هذه المرة ليس لتغطية احتجاجات، بل لمعرفة وضع الترامواي، أحد رموز مفخرة الحكومة، بعد تساقط قطرات الأمطار، أمس. لقد تناهى إلى مسامعنا أن عرباته لا يمكن أن تتجاوز الخط الرابط بين برج الكيفان وحي الموز بباب الزوار، وتغير بذلك نمط النقل عند الأشخاص الذين غيّروا بدورهم نمط تنقلاتهم حسب البرنامج الذي وضعته الحكومة للترامواي. لقد كان الخبر صحيحا، والسبب هو أن المياه غمرت السكة في كل من شارع طرابلس بحسين داي والديار الخمسة بالحراش، وجلبت معها كل ما في طريقها.. هل تعمدت السلطات تدشين الترامواي في فترة خارجة عن فترة التساقط حتى لا يظهر العيب.. لا أعتقد.. الأرجح أن مهندسي مسار الترامواي لم يفكروا في تهيئته بطريقة تحسب لانهمار مياه المطر، وما تأتي به من تحتها في بعض المناطق، أي حساب؟؟!! والدليل هو محاولة تفسير أحد المسؤولين على المحطة في حي الموز بسبب تعطل الترامواي صباح أمس، بعدم قيام البلدية بدورها في تنقية محيط المسار “وإلا المياه لم تكن لتجلب معها كل ذلك التراب الأوساخ"، مما يوحي بأنه على مستعملي “مفخرة الحكومة" ألا يتفاجأوا بتوقف الترامواي خلال الشتاء القادم، وقد يكون لأيام في حال رزقنا الله بعام وفير من التساقط؟! يقول مسيرو بعض المحطات الذين تحدثنا إليهم، إن “الشركة مسؤولة فقط على متر ونصف من جانبي السكة وتنقيتها، وأما ما هو خارج محيط السكة، فالبلديات هي التي تعمل على حذر وصول الأوساخ والأحجار التي تجرفها المياه"، ليبدأ فصل تراشق جديد، حول سير ترامواي لم تدم فرحة الجزائريين به ثلاثة أشهر، مما ينبئ بشتاء عسير في تعطلاته.