هو رجل.. حر.. شهم.. أصيل.. وأمثاله قليلون.. لقد كان الأب الطيب، الأخ الحنون والصديق الوفي.. كان متواضعا.. حتى وهو رئيس لم ينس أهل قريته الفقيرة.. هذه العبارات ترددت على لسان الصغير قبل الكبير والشاب قبل الشيخ وكلهم حسرة وحزن على فراق الرجل الذي رفع رأسهم إلى فوق، وجعل اسم منطقتهم الفلاحية الفقيرة والمتواضعة، التي تطل على البحر، تدخل التاريخ. كيف لا وهي التي أنجبت ثالث رؤساء الجمهورية الجزائرية المستقلة، إنه الشاذلي بن جديد ابن محمد والصالحة بن جديد الذي ولد في 14 أفريل عام 1929 بقرية بوثلجة بولاية الطارف، ووافته المنية يوم السبت 6 أكتوبر 2012 عن عمر يناهز ال 83 سنة بعد صراع مرير مع المرض، الفترة التي حاولت “الجزائر نيوز" تسليط الضوء عليها والعودة إلى أهم محطات الرجل فيها على لسان رفقائه ومعارفه الذين التقينا بعضهم بقرية بوثلجة، وبالضبط بمنطقة السبعة، وعدنا بهذا الروبورتاج. أول من التقيناهم كان جمع من الشيوخ وجدناهم يتكئون على جدار أحد المنازل، وقد كان حديثهم عن صديق طفولتهم الذي غادرهم دون وداع وغياب فرصة الانتقال إلى العاصمة لإلقاء النظرة الأخيرة عليه على غرار الكثيرين من سكان المنطقة، وأول من رد على أسئلتنا كان الشيخ محمد البالغ من العمر 84 سنة، وقد قال “لم يسعفنا الحظ لمعرفة الشاذلي عن قرب لأنه غادرنا وهو شاب، لكنه كان نعم الصديق وحتى وهو رئيس جاء لزيارتنا وكل من وقعت عليه عينه من أبناء قريته ناداه باسمه، ولم ينس أنه كان واحد منا في يوم من الأيام، وأنه لعب معنا ورافقنا إلى المدرسة ووقتها كان شديد التفاؤل بأن زمن الاستعمار لن يطول لأن في الجزائر رجال"، وهو نفس ما ذهب إليه الشيوخ الخمسة قبل أن يلتحق أحد الشباب الذي قال “جيلنا لم يعرف الشاذلي لا كواحد منا لأنه ينحدر من منطقتنا ولا كرئيس قدم الكثير لهذا البلد، لكن كل ما سمعناه عنه على لسان آبائنا هو أنه كان مجاهدا صنديدا ورجلا من طينة الكبار، وأن جلوسه على كرسي الرئاسة لم يكن طمعا فيه بل واجب أراد أن يؤديه على أكمل وجه"، وأضاف مازحا: “تمنيت لو أني عايشت مرحلته، لأن والدي قال لي إن كل شيء كان متوفرا وحتى فرنسا التي يحلم بها الكثيرون اليوم كان بالإمكان أن تزورها في الصباح وتعود منها في المساء". بن جديد كان يزور قرية السبعة باستمرار حتى وهو رئيس قبل أن نخوض مع القليلين ممن التقيناهم من رفقاء الرئيس الراحل في السلاح، لأن غالبيتهم انتقلوا إلى العاصمة بمعية أفراد عائلة المرحوم لحضور مراسيم دفنه، اخترنا فتح ملف حياته الشخصية وهو رئيس، وخير من وجدنا ليحدثنا عن الموضوع كان أحد جيرانه ويدعى مختار، وهو كهل في العقد الخامس من عمره “منذ أن أصبح الشاذلي رئيسا تحوّلت حياتنا في هذه المنطقة بصفة جذرية، فالجميع صاروا يحترمونها وكل من يمر بها سواء من داخل الولاية أو خارجها كان يستوقفهم الفضول لإلقاء نظرة على بيت الرئيس الذي كان يزورنا بين فترة وأخرى، وبالرغم من كونه الرجل الأول في البلاد إلا أن وصوله إلى بيت عائلته الكبيرة كان يتم في ظروف جد عادية، بل وكان يترجل من سيارته ويخرج للتنزه على قدميه ويدخل المقاهي ويطلب الشاي كبقية الناس، ويرفض أن تتم معاملته بخصوصية، وكان يقول للجميع “أنا أخوكم وإبن منطقتكم وفرحتي تكتمل عندما تعاملونني على هذا الأساس". أما الشيء الذي كان يطلبه من سكان قريته ويصر عليه لما كان يزورها، أضاف المتحدث ذاته “الشاذلي كان يحث أهل منطقته دائما على خدمة الأراضي الموجودة بها، لأنها كنز لا يفنى". وفي السياق ذاته، أضاف شيخ كان بالقرب من منزل عائلة بن جديد “الشاذلي كان يحب الأرض كثيرا ومنذ صغره وهو مولع بالفلاحة، وكان يساعد أباه في الحرث، ومن شدة تعلقه بالزراعة لا يزال لحد الآن يحتفظ بالمحراث الذي كان يستعمله في مساعدة والده محمد بحديقة منزله بالرغم من أن الصدأ أكله، أما هوايته المفضّلة فكانت الصيد، كما أنه كان قناصا جيدا ويتقن استعمال السلاح، كما أنه كان لاعب كرة قدم". تقع قرية السبعة التي ولد بها الرئيس الراحل على محور الطريق الوطني رقم 84 وتبعد عن مدينة الطارف بحوالي 20 كلم، وهي المنطقة التي قضى بها الشاذلي مرحلة طفولته وسط عائلته المتواضعة وتحت رعاية والده الذي كان مناضلا في حزب الشعب وكان همّه الوحيد أن يجعل ثالث أبنائه رجلا في خدمة بلده، فقام بإرساله بعد بلوغه سن التمدرس إلى مدينة عنابة حيث تلقى تعليمه الابتدائي ثم انتقل إلى مدينة الطارف وواصل باقي مراحل دراسته، الشيء الذي أهّله للحصول على منصب رئيس مصلحة بشركة “طبا كوب" لإنتاج التبغ والكبريت وهو في العشرينات من عمره في الوقت الذي كان يستغل فيه أيام عطله وفترات فراغه للعمل في الفلاحة ومساعدة والده الذي كان وقتها يعمل في الخفاء من أجل خلق جبهة قتالية تحارب الاستعمار، وذلك من خلال جمعه للأسلحة التي قام بتسليمها للثوار عقب اندلاع الثورة التحريرية قبل أن يلتحق به الشاذلي عام 1955 كجندي ثم تدرج في المسؤوليات إلى أن أصبح نائب قائد المنطقة الشمالية الشرقية تحت قيادة الشهيد عبد الرحمان بن سالم ببوحجار. وعن مرحلة الرئيس الثورية ذكر لنا رفيقه في السلاح المجاهد فزاري يوسف “الشاذلي التحق بصفوف جيش التحرير الوطني بعد حوالي سنة من اندلاع الثورة، وقد كان يتقن استعمال السلاح جيدا، وكان محنكا في وضع الخطط الحربية لأنه شارك في حرب الهند الصينية.. ولأنه كان في المستوى تدرجه في المناصب تم بسرعة وقد ساعده في ذلك الحب والاحترام الذي كان يلقاه من جميع رفقائه سواء من يقلّون عنه رتبة وحتى القادة الكبار، وذلك لأنه لم يكن يحب الظلم والحقرة وكان يساعد كل من هو في حاجة بل وفي كثير من المرات كان ينوب عن الجنود في الحراسة ويتركهم يركنون للراحة طيلة الليل ويقدم المال من جيبه لكل من يرى أنه بحاجة إليه.. وحينها لم تكن تهمه المراتب التي يحتلها بقدر تقديره للمسؤولية الملقاة على عاتقه، وقد كان همّه الوحيد أن تستعيد الجزائر استقلالها". ... كان شوكة وخزت جيش الاستعمار وأضاف في السياق ذاته المدعو جلول وداغري الذي كان يحدثنا بحرقة وتأثر وهو رفيق الرئيس في السلاح ويبلغ من العمر 84 سنة، إن الشاذلي وبفضل حنكته في التسيير ووضع الخطط، نجح في إلحاق خسائر في صفوف المستعمر الفرنسي على الصعيدين البشري والمادي، ومن بين المعارك الناجحة التي قادها جاء على ذكر المعركة الكبرى بمنطقة السبعة ومعركة جبل بوعباد والهجوم على مركز الدرك الفرنسي بمدينة بن مهيدي، كما ترأس العديد من المهمات الصعبة من بينها إشرافه على استلام إحدى شحنات الأسلحة التي كانت قادمة من مصر على متن غواصة حربية، وذلك على الحدود البحرية بين الجزائر وتونس، كما شارك في فك الخناق عن المنطقة الحدودية الشرقية ونجح في عبور خط شال باتجاه الأراضي التونسية والعودة منها في مرات عديدة، ناهيك عن الخطط العملية التي وضعها ومكنت رفقائه من الإيقاع بفصائل كاملة تابعة لجيش المستعمر.. هذه الإنجازات - حسب المتحدث ذاته - جعلت اسم الشاذلي على كل لسان وصيته وصل حتى القيادة العامة لجيش التحرير الوطني وحظي بثقة المسؤولين فيها بما فيهم الرئيس الراحل هواري بومدين. وختم محدثنا الذي التقيناه بالقرب من إقامة الرئيس بقرية السبعة كلامه “الشاذلي كان رجلا من طينة الكبار، وقد أحب بلده بكل صدق ولم يكن يريد من وراء ذلك لا جزاءً ولا شكورا ولا حتى مسؤولية، لكن خبرته وحنكته ووطنيته فرضت عليه أن يكون قائدا في الثورة ورئيسا للبلاد بعد الاستقلال". حزن كبير بمنطقة السبعة وتحضيرات حثيثة لإقامة العزاء بمنزل عائلة بن جديد بعد رحلة دامت ساعات بين قسنطينة والطارف تمكنا من الوصول إلى بلدية بوثلجة ومنها إلى قرية السبعة التي تبعد عنها بكيلومترات قليلة، وأول ما شد انتباهنا علامات الحزن التي كانت بادية على سكان المنطقة الذين كان حديثهم عن الراحل وفقط، وما شد انتباهنا أيضا هو الركود في الحركة التجارية، حيث أن غالبية المحلات كانت مغلقة، الشيء الذي دعانا للاستفسار عن الأمر وفي السياق ذاته قال لنا أحد الشباب “الكل هنا حزين على وفاة الرئيس والمئات من سكان المنطقة انتقلوا إلى العاصمة لحضور جنازته بما فيهم التجار، لذلك النشاط التجاري ببلديتنا على ما هو عليه". من جهتها، سخرت السلطات البلدية كل إمكانياتها لتنظيف المنطقة، وقد بدا ذلك جليا في أشغال النظافة التي كانت تقوم بها فرق متعددة منتشرة في كل مكان مع قيام أخرى بوضع الرايات وتزيين المنطقة بالأعلام الوطنية وصور الرئيس الراحل خاصة بالقرب من منزله تحضيرا للعزاء الرسمي الذي سيحتضنه منزله. الشاذلي لم تكن تهمه الفخامة بقدر حب الناس سمعنا الكثير عن تواضع الشاذلي وحبه للناس ونحن نبحث عن أسرار حياته وسط معارفه وجيرانه بقرية السبعة قبل أن نصل إلى بيته أو “إقامة الرايس" كما يسميها أهل المنطقة، وقبل ذلك كنا نتوقع أننا سنكون أمام قصر أو فيلا فخمة تليق بمقام ثالث رؤساء الجمهورية، غير أن الوضع كان مغايرا تماما، لأننا توقفنا أمام بيت متواضع يتكون من طابقين على مساحة صغيرة تحيط به الأشجار والمساحات الخضراء من الجهات الأربعة، وقد قال لنا أحد الذين كانوا بصدد تنظيف المكان وإعادة طلاء الجدران الخارجية، إن الشاذلي هو من قام ببناء هذا المنزل على أرض والده واختار أن يكون متواضعا حتى لا ينسى أنه من عائلة فقيرة وأن شخصية الإنسان ومنزلته لا تقاس بمنزله بل بمدى تواضعه للناس وحبهم له. وأضاف محدثنا إن السلطات البلدية استغلت انتقال عائلة المرحوم إلى العاصمة من أجل حضور مراسيم الدفن في إعادة طلاء المنزل وجدرانه تحضيرا للعزاء الذي سيقام ابتداء من نهار اليوم وتمكين أحباء الرئيس وجيرانه من التواجد في ظروف أفضل. هذا، وقد سخرت السلطات المحلية والبلدية العديد من الحافلات التي انتقل على متنها المئات من سكان المنطقة ومعارف الرئيس ورفقائه إلى العاصمة من أجل حضور جنازته الرسمية.