تصوروا أن المكتبات تغادر شوارعنا وبولفاراتها ثم هي لا تعود، قتامة وأحزان ونحيب في الداخل أبدي، دائم هو في الدواخل نحيب وشجن ونيران لواعج من مكتبة تغلق، أخواتها فتغلق، حتى في أشكال الدكاكين والبوتيكات الصغيرة تغادر عش الكلام وهوى الشعر كيما هي تتحوّل إلى قائمة من قائمات الإطعام السريع أو أي شيء آخر لا يكون فكرا أو معرفة أو رغبة مقدسة، لا يكون خيالا أو تحليقا أو جنحة عقلية أو حتى هرطقة جميلة.. تصوروا أن حجما هائلا من الساكنة والغاشي ومن حضور الدولة الكثيف في كل شيء ومن المباني والباطون وبابارية الإسمنت وكل ذلك وغير ذلك ما كان ليعني إلا العدم والتلاشي والهباء.. هباء مدينة تكن العداء المقيت للمكتبة، ولمجالسها الهامشية الراقية، ولروّادها المستنكفين، الممتعضين من هذه النازلة... إنه أمر يتعلق بنازلة كونية، محض خطب جلل يحيق بمدينتي ومدينتكم الجزائر، إذ يمكنني إتيان المدينة والإقامة فيها والمكوث بسببها إلا لغرض قاصد، أو منفعة فانية، أو طلب بيروقراطي متعجّل، للزائر والمقيم المأساة واحدة، فذلك هو الحق وديدنه.. لقد فشلت سياسات الخوصصة الهمجية في تمدين المكتبة وتأثيثها على ذلك النوع القابل للاشتغال الجمالي ديكورا وهندسة وتطلعات، وإذ هي عندنا السيرة المكتبية تطفح بالتشويهات والهوان وضعف الحال والعوز، عوز على الأصعدة كلها، تسييري وتدبيري فلا تملك الحكومة ثقافة تحضن الإرث المعنوي والعقلي والوجداني والذاكراتي، عوز اقتصادي بالغ فلا تدار المكتبات المتبقية بوصفها مؤسسات ربحية تطال الكسب والاستحقاق النقدي والتحصيل مما يضمن استمرارها في خدمة الجموع القارئة، عوز جماهيري فالناس زهدوا في القراءة والكتاب وطقوس اقتنائه الدائم عدا المواسم والتكريمات.. لقد كانت تسعينية المكتبة الجزائرية في العاصمة وفي الضواحي، وفي الضواحي والمناطق وفي الولايات والعمالات تسعينية جفاف ويباس ومغادرة وقعود وكسل بالنسبة للنشاط المكتبي التجاري وغير التجاري، فما بدا ميلا عند المتصرفين الإداريين لتمليك أفراد من المؤسسات العمومية حتى ينقذ ما يجب إنقاذه من جملة العهدة الاشتراكوية الموبوءة التي عرفتها البلاد لم يكن هذا المسيل إلا خبط المنايا في الديجور الهالك.. إذ لم تحمى المكتبة كيان الأمة وروح مسيرتها نحو المعنى والرمز والاستقلال المعرفي، بل دفعت المكتبات إلى الغلق فورا دونما قرار يفكر فيه أو يتداول من أجله أو يطلب من ذوي الاستعداد المهني والعاطفي والفكري المساهمة في هذا التمدين والتأثيث والبعث الجديد لسياسة ثقافية واعدة وطموحة طموح الانتقال الوطني من جنوب الاشتراكية إلى شمال الرأسمالية.. يتحقق الواحد فينا من نيات باطلة ومرامي تيئيس مسبق من التحويلات البيئوية التي حدثت في حق المكتبات، لقد اعتبرت التجاروية والقبض النقدي السريع الفكرة الأكثر استيهاما عند بقايا النظام الاقتصادي القديم - الذي لم يتجدد أبدا - وبان للناس تزهدّا مشؤوما في الثقافي والثقافة عبر اختفاء الشغف بالمكتبات وطقسيات ملازمتها اليومية والأسبوعية والدورية، وهو أمر ظل سائدا بسؤدد وشموخ زمن الاقتصاد الموجه رغم كدر العيش وضنك الحياة.. إن جيلا من هؤلاء المواليد الذين أعقبوا الفترة النضالية ضد الكولونيالزم الفرنسي يوحون دائما بخصوبة المكتبة وأجوائها في التسعينيات والثمانينيات خاصة، حيث كانت مؤشرات المطالعة المتمردة عن المقرّر الجامعي والمدرسي تزداد وتكبر عاكسة مشروعية الأمل والغدية المشرئبة والمستقبل المشرف.. بل إن الفترة الثمانينية تزامنت بالثقافي والكتابي والليبيرالي على ما يلحظه مراقبون، إذ أمكن لغالبية الأسر المتعلمة وشبه المتعلمة من تأسيس مكتباتهم المنزلية وإدخال هذا الغرام بالكتب إلى الناشئة وقد كنا منهم ناشئة تقتني “عالم المعرفة" وسلسلة “قل لي لماذا" و«ماذا أعرف"، فضلا عن قواميس لاروس والمنهل وعبد النور، وكذلك سبوتنيك ومجلة الجيل ومجلة بلسم وبيف، وروايات أغاثا كريستي واحسان عبد القدوس وعبد الله العلايلي وصوفي عبد الله والشوقيات ثم تباعا أمهات الكتب الكلاسيكية لزولا وفيكتور هيغو وتولستوي وشولوخوف وديستويفسكي.. كان الطقس وروائعه فنيمّم شطر المكتبة نشتري ما نقدر ونشتهي ما لا نقدر، الكتب الترفيهية والتّسالي، الروايات المحرمة اجتماعيا، الكتاب الديني في سيرة ابن هشام وتفسير الطبري وأحاديث الإمام النووي، البوليسيات، كتب المغامرة والفلك والبارابسيكولوجيا والجوسسة، ناشئة ومراهقين، هواة كتب ومجلات وروائح ورق أبيض أو أصفر، مصقول أم خشن، ليس يهم لأن ذلك أغنى المخيلة وحفّز الروح وأسرى بالكلمات مسرى الدم.. لم تكن المكتبة في الزمن الآفل ذلك إلا ناظمة نص وعاقدة لخيوط الرحيل من جغرافيا صغيرة لها صلة بالمكان إلى أخرى رمزية عميقة الغور لها باطن الأحشاء وأخاديد الوشم، ذاكرة المكتبة هي ذاكرة موشومة، مغتلمة، وليست قصيرة في أمدها ومدها، طويلة عتيدة، ممحونة، المكتبة هي زمان رمزي، هوية مجروحة، ماض مسروق، عشق هي كذلك تتجاسر أمام المكابدات والشقاءات.. يأتي البكاء على أطلال وأطياف بيوت المعرفة جارحا له الآلام الأبدية وبصمات الوشم وله التذكار والرائحة وأنثروبولوجيا الكائن، فبالكاد التحولات التي تمس القطاع المكتبي تتغاير مع أخرياتها من التحولات التي تعني شؤونا ومهنا وحرفا أخرى.. مثل الانتقال المتوحش للمكان المكتبي إلى المكان الطعامي أو الخدماتي، حالة مزرية قل مثيلها في العالم والعالم العربي حتى.. إذ وزعت الحصص العمومية على الخدم والعسس والصباغين ومستخدمي الإدارة والمخازن والناقلين ولم تبذل الوصاية أي جهد يحفظ ماء التراث المعنوي للأمة الذي نهلنا منه نحن سابقينا ولاحقينا، كان الأمر أشبه بتكسير عمودي وأفقي لبيئة إنتاج وتسويق الأدب والمعرفة الحامي لنسيج الأمة، الصاهر للحمتها في لحمة، الحداثة والأنوار، انظر وتأمل الوضع، إنك تمضي في الشارع ولا مكتبة تأويك، بل إن الظاهرة اللاّفتة للعيان هي باعة الكتب على الأرصفة وهم يبذلون جهدا في ترويج الحميمية وسكنى الأعماق إلى الخارج. إن بيع المكتبات المنزلية على الأرصفة وعلى هذا النحو الطفيلي هو أيضا علامة مظلمة، ويدل على التفسيرات التي أبغي الوصول إليها في مقالي هذا، عندما يدخل كتاب إلى دار فذاك يعني فيما يعني مولد فكرة ومنشأ محبة وسلطة كلمة لازالت على الرفوف تطل مشعة ومن عليها تسارق النظر في أرجاء البيت كله، أما وإن يعرض كتاب للبيع لأصحابه من الموتى والمعروفين ومن الأحياء والمعروفين كذلك فذاك مما ما لا يقبل به لقد سبق لي أن اشتريت من الأرصفة كتبا لبختي بن عودة وعبد القادر جغلول وسامي ناير ونور الدين طوالبي والزاوي الأمين وربيعة جلطي وعزين المناصرة وأفنان القاسم وكتب كثيرة، كثيرة وعليها تواقيع هؤلاء لقرائهم وأحبابهم ومريدهم وانطباع ذلك إلا الموت الزؤام للصوت المنزلي الحميمي والذاكراتي.. إن خروج كتاب من بين زواياه المنعمة بالبيتوتية والحنين واللقيا إلى رصيف ديدوش مراد والعربي بن مهيدي وخليفة بوخالفة يشي بهذه المغادرات المؤلمة لعالم الكتاب والمكتبة.. لقد كانت التأريخات الحميمية التي ينصرف إليها رعيل من الكتاب عن الجزائر العاصمة -مثلا- على قدر أوفى وأجمع فيما ظلت ناقصة لأنها لا تؤرخ للمكتبة العاصمية وأهلها من الرواد والمديرين والأحلاس، فعلى شاكلة مقاهي الجزائر، أسواق الجزائر، حدائق الجزائر، يشح ويندر الحديث عن مكتبات الجزائر بتلك الروحية الأدبية الرهيفة وهي روحية صار يمتلكها اليوم هؤلاء الباعة السحرة الذين يفترشون الأرض وطنا للكتب القديمة، المقروءة ويقدمون بضاعة طيبة بثمن غير بخس دراهم معدودات.. إن الحاجة إلى المكتبة، هي كالحاجة إلى نقد المكتبة، أي إلى نقد السلطة التي راحت تلغي المساحة المتوهجة من امتداد الشارع بتخصيصها لفضاءات تدر الذهب والفضة وما غنم وغرم من الأشياء والشيئيات، إنها عقلية التشيؤ تلك التي حدثنا عنها مالك بن نبي، إذ الملايير تصرف والعطاءات والانفاقات تكرس للمطبوعات العامة والخاصة - رغم أهمية جزء كبير منها - بيد أن المآل هو التخزين والمخازن ويكشف ذلك عن قصور فادح لتصور المكتبة التي تسكنها الأرواح والمرئيات ويسكنها الأنبياء والرسل والعلماء وأهل العرفان.. لا مجال للحديث إلا عن مطلب أساس وهو يبقي الأمة على قيد العالم والانتماء إلى حضارة هذا العالم، هذا المجال هو اعادة بعث التفكير في الاحياء المكتبي وتأسيس المكان المعرفي - عامه وخاصته - حتى يأنس الشارع ويتآنس ولا يكون رديفا لمقاطعة من مقاطعات البؤس والإجرام النهاري والليلي والبلطجة والسيادة على العابرين... السيرة المكتبية الآنية في الدرجة الصفر من المكاتبة أو المشافهة، فالغزالي وسقراط والفنون الجميلة وكلمات وألف ورقة وديوان المطبوعات الجامعية وابن خلدون واتحاد الكتاب كلها مكتبات كانت- وبعضها قضى نحبه- تنازع البقاء باحثة عن وسيط ومتعامل يبعد عنها لوثة الثقافة العقارية المأفونة وهاهو التاريخ بكتبه المنتصرون... لقد غادرتنا إلى الأبد المكتبة الإفريقية في شارع طنجة والمكتبة القومية والثقافة الجزائرية والنهضة وهي ثلاث مكتبات متجاورة في شارع “ايزلي" وما سيأتي المصير نفسه بلا شك ، النزاع، الفناء ولوثة العقار والعقاريين..