في الزمن الجميل عندما كانت العاصمة مدينة تشبه مدن العالم الكبيرة.. عندما كانت مدينة يرتبط اسمها بالحركة الثقافية والرهانات التي كانت الدولة الجزائرية الفتية المتحررة لتوّها من نير الاستعمار ترفعها، كانت المكتبةُ فضاءً آخرَ يخترق الممنوع ويقتحم الحلم، لم تكن المكتبة فقط فضاء يحتضن أو يقدم الثقافة والفعل الإبداعي، لكنها كانت أيضا بيتا كبير يضم السياسيين ويصقلهم، فالثقافة والنضال السياسي في الزمن الجميل كانا وجهين لعملة واحدة هي "إنتاج النخبة" التي أنجبت تيارات إيديولوجية في زمن الأحادية وأحزابا في عهد التعددية، قبل أن ينقلب سلم القيم وينتقل مركز صناعة النخب من المكتبات إلى " الصالونات المشبوهة " بالقدر الذي حول الطبقة المثقفة إلى " زائدة دودية " . " الاجتهاد " .. من هنا مر الشيوعيون واختبأ بيار بورديو تحولت اليوم إلى مجرد مكان عادي ومبنى منزو على رصيف بشارع "شاراس"، الرابط بين ساحتي موريطانيا والبريد المركزي، قد لا تلفت النظر بطلائها الأبيض الذي بعث بعض التجديد في مبنى عريق لا زال يحتفظ في بعض تفاصيله برائحة الماضي. لا أحد ربما سيعير اهتماما للشارع الضاج بالحركة والذي ظل إلى وقت قريب يسمى بشارع "النقابيين"، ففي ذاك الزمن الجميل كان محجا للطبقة العمالية بأحلامها الطوباوية، حين كانت تزدحم فيه النقابات والاتحادات الطلابية بدءا باتحاد الطلبة الجزائريين ووصولا إلى اتحاد عمال الميناء . في هذا الشارع بالذات انتصبت مكتبة "دومينيك" التي تحمل اليوم اسم مكتبة "الاجتهاد"، وفي عهد السوندويشات والهمبوررغر ما زال السيد بوسعد واسي يجلس كل صباح يواجه الأوراق والكتب برائحتها المتميزة وألقها الساحر. استقبلنا بوسعد في مساء عاصمي ماطر بمكتبه الغارق وسط صور رشيد ميموني ورشيد بوجدرة والصادق عيسات التي تحمل بعض تاريخ المكتبة، أو شركة الجزائر لتوزيع الكتاب والصحافة، حيث اختار مجموعة من مناضلي "الباكس" والثوريين، على غرار هنري علاق، غداة استقلال الجزائر وبالضبط في1963، شراءها من صاحبتها المعمرة "دومينيك"، وكانت المكتبة حينها تابعة لفرع مجمع "هاشات" بالجزائر، وكانت تقع بمحاذاة منشورات "شارلوا"، دار النشر التي كانت تصدر أعمال ألبير كامو، وهي نفسها الدار التي نشرت الأعمال الأولى لكاتب ياسين ومولود فرعون وامحمد ديب وغيرهم، قبل أن تتحول إلى مكتبة " ألجيري ريبوبليكان " التي أعيد إطلاقها في جويلية 1962بعد أن كانت جريدة ممنوعة إبان الثورة . وفي هذه المكتبة كانت توزع الجريدة التي حملت الفكر اليساري الثوري للنخبة الجزائرية حديثة الولادة والحالمة بجزائر واعدة، هكذا كان يفكر بوعلام خالفة وبن زين في زمن كانت فيه الثقافة فعلا نبيلا ينسج رويدا رويدا. عن كل هذا أسهب محدثنا في رواية صور من ذلك الزمن، متحسرا على مرحلة "سينما الكباري" وشارع الطلبة الذي كان يسمى"بالبولميش" تيمنا ب "بولفار سان ميشال" في العاصمة الفرنسية باريس، حيث جامعة السوربون الشهيرة.. ولكن؟ يقول مسير المكتبة: "لو أنني أردت ممارسة التجارة لأغلقت المكتبة منذ زمن بعيد، لأن الكتاب اليوم لم يعد تجارة رائجة، كما كان عليه الأمر في سنوات الستينيات والسبعينيات، حين كانت المكتبة تعرف بفضاء لاجتماع الطلبة والنخبة الجامعية التي تأتي بحثا عن الكتاب المتخصص في العلوم الإنسانية وفي التاريخ والأدب وعلوم الاجتماع وغيرها"، قبل أن يضيف: "من هنا خرج الفكر الاشتراكي الجزائري وترعرع، وهنا كان الثوريون يجتمعون.. من هنا مر "الباكس" و"الأفافاس"، و هنا أخفى عالم الاجتماع الكبير بيار بورديو مسودة كتابه "لوبييزون آلجيريان" خوفا من انتقام المنظمة السرية الفرنسية التي كانت تصفي كل من ينادي باستقلال الجزائر، ما تزال هذه المكتبة إلى اليوم تحتفظ ببصمات زمن مضى من خلال الوجوه التي تزورها بحثا عن الكتب وعن الذكريات وعن الحكايات التي يرويها هذا المكان المقاوم للفراغ والانهيار الفظيع للقيم " . مازال مسير المكتبة يرتب كتبه كل صباح ويعلق صورَ من مروا بالمكان أو ساهموا في صنع بعض ألقه كأنه يصر على الاحتفاظ بنكهة الثقافة في زمن يعادي الثقافية بامتياز . " النهضة " .. أول مكتبة في العاصمة احتضنت الحركة الوطنية، ومن " رحاب " خرج الفيس "النهضة" التي اختفت تماما من خارطة شوارع العاصمة كانت تقع في شارع باب عزون، الرابط بين ساحتي بور سعيد والشهداء، تعد أقدم مكتبة في العاصمة، أسسها رجلان مثقفان هما كشرود وميموني عام1947، و سميت "النهضة" لأنها المكتبة التي احتضنت حينها كبار مناضلي الحركة الوطنية ومثقفيها أمثال المفكر مالك بن نبي الذي احتضنت المكتبة أفكاره وإنتاجه وسعت إلى تسويقها للوسط الثقافي والسياسي بالجزائر . ومر بالمكتبة أيضا ألبير كامو وهنري علاق المناضل الفرنسي الذي كان من أكبر المدافعين عن القضية الجزائرية، ومنها خرج بعض الفكر الوطني، وساهمت في جمع شمل مناضلي الحركة الوطنية قبل أن يحصل للمكتبة ما حصل للفضاءات الثقافية الأخرى، فاندثرت نهائيا من خارطة المدينة، وهو نفس المصير الذي شهدته مكتبة رحاب المشهورة بالرزنامة والكتب البيداغوجية الموجهة لتعليم الكبار، وهي المكتبة نفسها التي اشتهرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي باستقطاب قيادات ومتعاطفي الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، قبل أن تختفي هي الأخرى متأثرة بالظروف الصعبة التي عرفتها المكتبات الأخرى في العشرية السوداء . " شركة بوداود " .. المكان المفضل لقادة الثورة .. وأول مكتبة أدخلت الكتاب المعرب للجزائر من بين الفضاءات الثقافية القليلة التي حافظت على طابعها الأصيل، نجد مكتبة الشركة الجزائرية بوداود، التي لا تبعد إلا بأمتار عن مبنى المسرح الوطني الجزائري، والتي تأسست ستة أشهر فقط بعد استقلال الجزائر بفضل رجلين مثقفين هما الحاج عبد القادر بوداود، خريج جامع الأزهر، وصديقه الحاج مرازقة، خريج جامع الزيتونة . تأسست المكتبة في1963وكانت أول مكتبة أدخلت الكتاب المعرب للجزائر في وقت كانت فيه الغلبة والسيادة للغة الفرنسية . ويروي ابن الحاج عبد القادر، المسير الحالي للمكتبة، كيف أن والده عبد القادر، المناضل في الحركة الوطنية، ألقي عليه القبض في1947 ونفي إلى مفتاح بعد عودته من الأزهر قبل أن يطلق صراحه في1957، ليلتحق بالثورة ويبقى في صفوفها إلى غاية الاستقلال. ويروي الابن كيف أن هذا المكان كان ملتقىً لقادة الثورة والثوار والمناضلين وكبار الشخصيات من المشرق التي عبرت الجزائر أمثال طه حسين والأمير سعيد، وهي الشخصيات التي بقيت على علاقة مع والده الراحل بحكم مروره من الأزهر الشريف. ويتذكر الابن مثلا وهو صغير عشرات الشخصيات التي تكونت وتثقفت بالاعتماد على هذه المكتبة، التي كانت أشبه بالنادي الثقافي وحلقة النقاش للثوريين بعد الاستقلال "لأنها مكتبة أخذت على عاتقها نشر الفكر والثقافة والكتاب العربي، فمر منها أصغر أحفاد الأمير عبد القادر، الأمير سعيد، الذي كان يجلس على كرسي ما يزال إلى اليوم منصوبا في ركن المكتبة، ومن هنا مرت أيضا شخصيات كبيرة ولها وزنها في المشهد الجزائري منها أبو عبد الله عبد اللي وبن بلة وبن يوسف بن خده ومحمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي وعبد الحفيظ أمقران والدكتور شيبان وأنيسة بومدين.. ويقول مسير المكتبة بأن "تلك العلاقة لا زالت قائمة حتى اليوم، إذ يمر منها كبار الشخصيات من القضاة المتقاعدين وأساتذة الجامعة من أمثال رئيس المحكمة العليا عبد القادر قسول والقاضي حمدي باشا أحمد جبور والدكتور بابا أعمر وغيرهم". وصادف تواجدنا بالمكان قدوم الأستاذ إبراهيم شرقي، المدعو احميدة، أحد كبار المسؤولين إبان الثورة بالعاصمة، وسيدي علي عبد الحميد نائب حزب الشعب، حيث يعتبر هذا مكانهما المفضل للقاء أصدقاء الأمس وتبادل ذكريات الثورة. وصادف أيضا تواجدنا بالمكان مرور إحدى القارئات المسنات التي كونت نفسها في هذه المكتبة عندما عزمت على قهر الأمية لتتمكن من قراءة القرآن بعد رحلة الحج والعمرة .. جاءت العجوز إلى المكتبة لشراء ما يلزمها من كتب وهي تقول باعتزاز : " أنا في السنة الرابعة والآن بإمكاني أن أفرق بين مصحف ورش ومصحف حفص، وهذا بفضل هذه المكتبة " . في سياق متصل أكد الدكتور نذير بوصبع، الأستاذ بجامعة الجزائر، الذي وافق تواجدنا بالمكان بأنه كان طالبا في الثمانينيات وكان يزور المكتبة ليجد صاحبها الحاج عبد القادر بوداود يستقبل كل الناس بروح المثقف الذي شرب من الصنعة أبا عن جد وليس بعقلية التاجر"، ثم أضاف "المكتبة كانت فضاء ثقافيا وليس فقط مجرد مكان لبيع الكتاب.. كنا طلبة نمر من هنا، قد يحدث أن تأخذ الكتاب حتى دون أن ندفع ثمنه عندما لا يكون بحوزتنا المال، وما زلت أشعر بالحنين لمكان احتفظ فيه دائما بنبض الثقافة والمعرفة، فأمر بها زائرا أو قارئا كما يمر بها الكثير من الأطباء والمحامين " . ونحن نودع مسيّر المكتبة لاحظنا إصرار ابن الحاج المرحوم عبد القادر بوداود على مواصلة سيرة والده في جعل المكتبة مكانا ثقافيا وإن كان ذلك صعبا، لأنه لسنا في زمن الكتب ولا الثقافة في ظل مواصلة سياسة إغلاق المكتبات وتحويلها إلى محلات لبيع البيتزا والأحذية، ربما لهذا صارت نخبتنا اليوم تتعاطى مع قضايا الأمة مثلما يتعاطى الشباب البطال مع الأكلات السريعة التي يستهلكها وهو قائم، أو بنفس التعاطي مع الأحذية الصينية التي ترمى مباشرة بعد أول استعمال .