عاد إلى المسرح الجهوي ببجاية، سهرة السبت الماضي، الفيلسوف التشيكي كارل ماركس، بعد 119 عام عن رحيله ليقف على الخشبة عبر جسد وصوت الممثل الفرنسي إيفون روموف، من مسرح “لانش". ساعة من الزمن تصفح فيها المفكر بعض كتبه الشهيرة، وقرأها على القاعة، ورفع إليها ألف سؤال، مستفهما وساخرا من حضارة متقدمة تعيش على هامش الحياة. عرضت المسرحية ضمن المهرجان الدولي للمسرح ببجاية المختتمة فعالياته، الإثنين الماضي، أما الإخراج فكان لجويل كاتينو، فيما تكفل تيري ديسيبولو بترجمة نص الأمريكي هوارد زين (24 أوت 1922 - 27 جانفي 2010) بعنوان “عودة كارل ماركس"، نص مونودرامي لهذا المناضل والمؤرخ والكاتب المسرحي الأمريكي الشهير زين الملقب ب “مؤرخ الشعب"، تندرج فلسفته ما بين الفكر الماركسي والاشتراكية والديمقراطية الاجتماعية. وكان حتى وفاته من أبرز المدافعين عن الحقوق المدنية والحركات المناهضة للحرب منذ الستينيات. نص المسرحية، إذن، أعطى لماركس حياة ثانية (في سنة 1990)، منحه فرصة للعودة إلى القرن المعاصر، ليصفي حساباته مع من أساءوا فهمه، وشوّهوا فكره. بأسلوب لطيف عميق وممتع، يتقبل المتلقي كل الملاحظات المباشرة والصريحة لماركس، يضحك أحيانا على أخطاء فادحة تغرق فيها الإنسانية بوعي شديد، وباسم التكنولوجية والتقدم العلمي: “لقد حققتم معجزات في مجال التكنولوجيا، أرسلتم بشرا إلى سطح القمر، ولكن ماذا أصبح هؤلاء الذين بقوا هنا على الأرض؟ لماذا هم مرعبون؟ لماذا اتجهوا نحو المخدرات والكحول؟ لماذا يصبحون هائجين ويتحوّلون إلى قتلة؟" من يستطيع الإجابة عن هذا الجنون الذي نصادفه كل يوم عند عتبات بيوتنا. كانت العودة، إذن، من داخل صندوق خشبي لنقل البضائع، وكأن ماركس مهرب من زمن بعيد، أو مسافر سري، بلا أوراق ولا أمتعة إلا كتبه التي سنكتشفها عندما يخرج إيفون روموف من مخبئه، فيفتح لنا دفات الصندوق لتحوّل إلى جدران ألصقت عليها أوراق جرائد وصور لماركس وانغلز وجانيت الزوجة المحبوبة لأب الفكر الاشتراكي، والتي ستشكل جزءا من ذكرياته الحميمة، والمحرك الداخلي لثورته على الأوضاع. السينوغرافيا رغم بساطتها، لا تترك مجالا للشك في براعة صاحبها، شكل نفتقده كثيرا في مسرحنا الجزائري. تماما كما نفتقد لممثلين يشتغلون على نصوص فلسفية من هذا العمق، وتقديمه على طبق مهضوم. كاد روموف أن يشبه ماركس في شكله الخارجي، وكاد أيضا أن يتحوّل إلى ماركس حقيقي، حتى اختلط على الجمهور على من هم يصفقون الآن على الممثل أم على صاحب الأفكار الثورية؟ يقول روموف أو ماركس في أحد المقاطع: “آه .. بفضل الله.. أنتم هنا. أشكركم على مجيئكم، إذ لم يفلح في ثنيكم على الحضور كل هؤلاء الحمقى الأغبياء الذين ما فتئوا يزعقون: “ماركس قد مات". في الحقيقة.. لقد مت ولم أمت! هذا ما تطلقون عليه الجدل?! قد تتساءلون دون شك عن كيفية وصولي إلى هنا، في الحقيقة كنت أود العودة إلى “سوهو" بلندن حيث عشت، ولكن ها أنا في سوهو نيويورك. ومع ذلك أعترف أنني كثيرا ما تمنيت زيارة هذه المدينة". ويبدأ الرجل العاقل يخوض في سلسلة من التأملات، يسأل الحضور مستغربا تارة، وساخرا تارة أخرى، من الانحدار الذي آلت إليه الإنسانية، رغم كل مظاهر التقدم التكنولوجي وادعاءات نجاح الرأسمالية. لكن لماذا عاد ماركس؟ ويجيب: “لأطهّر اسمي مما علق به!"، في ما يشبه السخرية ممن وصفهم ب “المهرجين" الذين “لم يكفوا عن ترديد أن أفكاري قد ماتت منذ قرن". الجميل في هذا العمل الروائي، وبالتالي المسرحية ككل، أنه يحيلك إلى خيال واسع، تتصور فيه ماركس إلى جانبك يتجول في الأحياء والشوارع: “وأنا قادم اليوم، مشيت في شوارع مدينتكم التي غزتها القاذورات حتى أصبحت رائحة الهواء كريهة خانقة. مررت بمحاذاة أجساد رجال ونساء مرمية في العراء على طول الأرصفة، ينامون الواحد فوق الآخر اتقاء للبرد القارس. وتسمون هذا تقدما!". ولا يتوقف عن سؤالنا: “هل التقدم أن يكون لكم سيارات وهواتف خلوية وطائرات وآلاف العطور لتطييب رائحتكم ؟ وهؤلاء الذين يعيشون في الشوارع! هل فكّر أحد في مصيرهم؟". ويضيف في موضوع آخر تذكر فيه صديقه إنغلز: “أتعرفون ماذا كتبت أنا وإنغلز عن السجن؟" ويجيب: “بدل أن تعاقبوا الأفراد عن جرائمهم، ينبغي القضاء على الظروف الاجتماعية التي تولد الجريمة بتوفير لكل فرد ما يحتاجه ليتمكن من تطوير حياته الخاصة". جملة تحمل اليوم الكثير من الدلالات والمعاني التي يمكن أن يشعر بها المتلقي العربي، خاصة في أجواء الثورات العربية، حيث ينتفض الشارع ضد السلطة، تماما مثلما دعا ماركس عمال العالم إلى الانتفاضة. لم تخل المسرحية من إشارت صريحة لتصحيح الثورة، بما فيها ثورته المنادية بضحد الرأسمالية، ومراجعة كل الأفكار التي أطلقت، لأن في التغيير إشارة على إطلاق يد الناس ليعبروا عن أنفسهم بحرية. كارل ذكّر الحضور بأبرز كتبه مثل “رأسمال"، وقال عن سبب تأليفه إنه نتاج معايشته للشقاء الرأسمالي.