أعرفها جيّدا كما أعرف ذاكرتي، هي شطر من ذاكرتي، وها أنا أفقده، إلى أية طاقةٍ يحتاج إنسان يمشي في جنازة ذاكرته؟.. كأنني طرحتُ هذا السّؤالَ على الزّياتين التي تحفّ الطريقَ إلى المقبرة الموغلة في الغابة، فرُحتُ أتملّاها زيتونة.. زيتونة علها تسعفني بإجابة، ما أشبه جدّتي الأمازيغية بالزيتونة، فلعلاقتها بهذه الشجرة حكايات ذاتُ جذورٍ موغلةٍ في الروح. أصلا كانتْ وصيتها الأخيرة: إياكم أن تتركوا الزيتونات من غير جنيٍ، فيعيّرَكم الناسُ، كانتْ تعتبرُ إهمال الزيتون مجلبةً للعار. حدّثتني جدتي لأبي مريم بنت بوكبة مرّة: لم تكنْ جدتك وردية تخاف الليل ولا النهار، وكانت جمرة الثورة في عزّ التهابها، فكانت تأتي من “أهل القصر" إلينا في “أولاد جحيش" حاملة كيسا من الزيتون المجفف لتعود بمثله قمحا، وكانت تفعل ذلك على رأس كل شهر حتى تطعم أولادها، فحدث مرّة أن طوقها لفيف من الجيش الفرنسي، وهي تعبر جبل الريش، ولأنهم ظنوا أنها تحمل الطعام للمجاهدين، فقد انهالوا عليها ضربا حتى سقط جنينُها تحت شجرة الزيتون، رغم ذلك.. عالجتِ الكيس حتى أوصلته إلى البيت، وقد حدّثتني: لم أتركْ زيارة تلك الزيتونة التي أجهضتُ تحتها حتى في عز سنوات الإرهاب.. أزورها فأنقيها، وأصلح حفرتها حتى يتجمع ماء المطر فيها، وأحدّث جنيني الذي دفنته بيدي تحتها، وحدث يوماً أن كنتُ غارقة في تلك الحالة، فطوّقني لفيف من أصحاب اللحى المسلحين، ظنوا أنني جئت تلك الزيتونة باعتبارها مزارا مقدّسا، فأحرقوها، وكادوا أن يحرقوني معها، يا ولدي.. إياك أن تثق في قوم يحرقون الزيتون. هنا أجدني أذكّر بأمر: تكاد الزيتونة أن تكون شخصية ناطقة في روايتي الأولى “جلدة الظل" الصادرة عام 2008، وفي روايتي الثانية التي ستصدر قريبا. أصلا استوحيتُ عنوانها الأول “محيض الزيتونة" ممّا حدث لجدتي وردية، قبل أن أتخلى عنه، وأستبدله بعنوانٍ آخر هو “ندبة الهلالي". جدتي وردية.. لا تحسنُ التعامل مع النقود، لذلك فهي تقيس قيمة الأشياء بقيمة لتر الزيت، كأنْ تقول مثلا إن فستانها الجديد كلفها عشرين لترا من زيت الزيتون، ولعلاقتها بفساتينها حكايات ذاتُ خيوطٍ عجيبة، فهي تحرص رغم تقدّمها في السنوات على أن تكون زاهية الألوان، وكثيرة الشرائط تماما كما هي طبيعة الفستان الأمازيغي، إن امرأة لا تشبه زيتونة بكْراً ليست جديرة بالزواج، كما سمعتها تقول مرة لإحدى حفيداتها، ولستُ أنسى تشبيهها للرجل الحقيقيِّ في نظرها: يشبهُ جذعَ زيتونةٍ مُسِنّةٍ، عصيّ على الضّربات، لكنه يمنح أحلى أنواع الدّفء في الكوانين. هنا أجدني أقرّ بأمر: زرتها ذات شتاء، وكانت ترفض أن تستعمل وسائل التدفئة الحديثة، فأكرمتني بجذع زيتونة مسنّة في كانونها الذي تحرص على ألا يخبو، كانت تعتبر المرأة التي تخبو نارُها امرأة مسلوبة البركة، ولأن السهرة طالت، فقد تحوّل الجذع إلى جمار لذيذة، سمّتها جدتي وردية فاكهة الليل، وقعت التسمية في أذني حلوة، تماما كحلاوة حبّات البلوط التي شَوَتْها لي فوق تلك الجمار، وبيّتُ على أن تكون عنوانا لكتابٍ قادم من كتبي، أو برنامج إذاعي من برامجي، وهذا الذي كان بعد شهور، كان أحبَّ برامجي الإذاعية إلى نفسي، وقد وجدتُ دموعي تسيل عليه عفويا حين قرر الكاتب عز الدين ميهوبي أن يلغيه من الشبكة البرامجية مباشرة بعد تعيينه مديرا عاما للإذاعة الوطنية. كنت طفلا صغيرا، وكنت لا أفهم الفرق بين جدتي لأبي مريم، وجدتي لأمي وردية حين تلتقيان، فرق في اللباس، وفرق في اللسان، وفرق في الوشم، صارعتُ ذلك عميقا، ولم يهدأ ذاك الصّراع في داخلي إلا بعد أن تعلمتُ الحديث باللغة الأمازيغية حيث صرت أفهم الإثنتين، الصّراع وليد اللافهم، ومن أمرّ ثماره الحرمانُ من ثراء الرّحِم، وهو الثراء الذي أراهن عليه في أن يعطي مشروعي الإبداعي هويته الخاصّة. جدّتي الكريمة كان الرجال من القرى الهلالية، ومنها قريتي “أولاد جحيش" يقصدون القرى الأمازيغية في منطقة زواوة، ليستبدلوا قمحهم وشعيرهم بالزيت والملح والتين المجفف، وحدث أن طرقت جماعة منهم بيت جدّي لأمي ليلا، فاستقبلهم بحفاوة، لكن ما عساه يطعمهم، وليس في البيت شيء؟ تدخلت جدتي وردية في عزّ حيرته: العجل.. اذبح لهم العجل، فذبحه تاركا البقرة تمارس خوارها المؤلم في الزريبة. جدتي الشجاعة كان موسم جني الزيتون يحين نهاية كل خريف، وكان الإرهابيون قد أعلنوا مناطق جنيه محرّرة، فلا يدخلها إلا راغب في الموت، أو راغب في الانضمام إليهم، وقد أعلنوا ذلك في بيان علقوه في جامع القرية، فلم يكنْ السّكان يدخلونها، إلا جدّتي وردية، فقد كانت تقول: لن يموت بنُ آدم إلا مرّة واحدة، وتغشى الغابة على أتانها لتجني زيتونها. حدّثتني أكبرُ كناتها: لقد عمدتُ إلى شراء كيسين من السّميد، وفتلتُ ما يكفي من الكسكسي توقعا لجنازتها، لكنها كانت تطلع علينا عند الغروب متشبثة بذيل أتانها المحمّلة بأكياس الزيتون. جدتي الفقيهة لم تكن تعرف من العربية إلا الكلمات التي دخلت قاموس الأمازيغية بعد دخول الإسلام، ولم تكن تعرف من القرآن إلا أياتٍ من سورتي الفاتحة والصّمد، لكنها كانت تدرك بفطرتها أن الدين رحمة وتسامح، وتتصرّف على ذلك الأساس، لذلك فقد أجهضت المؤامرة التالية قبل سنواتٍ قليلة: التحق بعض شباب القرية بالجامعة، فعادوا منها سلفيين، وقد عملوا على التشويش على إمام القرية المبتدع في نظرهم، لأنه غير ملتح، ويقبّل رؤوس المسنّات حين يصادفهن في الطريق، ويقبل ما يجلبن له من بيض وزيت، ثم انتقلوا من مرحلة التشويش إلى مرحلة التهديد حتى أعلن ذاك الإمام المعتدل والمندمج في نسيج القرية نيّته في الانتقال إلى قريةٍ أخرى، هنا حشدتْ جدّتي وردية عجائز القرية وشيوخها، وطوّقوا بيوت الثلة السلفية: اتركوا إمامنا، وإلا كان لنا معكم كلام آخر. جدّتي الباقية كم يلزمني من الوقت لأصدّق بأن جدتي الأمازيغية قد ماتت؟ وهل أنا مطالب بأن أصدّق ذلك؟ لكنني لا أملك إلا أن أتمزّق وأنا أرى بيتها الطينيَّ مقفلا، والذي رفضتْ أن تستبدله ببيت عصري من إسمنت وحديد، أرى زيتوناتها المحيطات بالبيت، وقد قلّ زيتونهن على غير العادة كأنهن أدركن أنها سترحل عن هذا العام، أرى كلبتها التي لا تنبح في وجوه الأقرباء حتى وإن لم ترهمْ من قبلُ، أرى عنزتها الرقطاءَ التي لا يجفّ ضرعُها إلا شهرا واحدا في العام، أرى أحواض خضارها الخالية من الفوسفات، والتي تكاد أن تنطق من شباب الماء الذي فيها، أرى قربتها المعلقة على خشبتين في الجهة المحاذية للطريق حتى تكون في متناول العطشى، أرى مدخنتها بلا دخان، أرى أتانها بلا تبن، أرى قطتها تموء خارج اللغة، أرى ديكَها الفحلَ في متناول الطمع فيه، أراني أمشي في جنازتها، أقصدُ في جنازة شطرٍ من ذاكرتي. إلى أيّةِ طاقةٍ يحتاجُ إنسانٌ هذه حاله حتى لا يتحوّلَ إلى قبرٍ منسيٍّ أيّتها الزّيتونة؟ الجزائر العاصمة: 11 جانفي 2013 م، الموافق ل 11 ينّار 2962 أمازيغي.