هو من مواليد مدينة المتلوي، بتونس. له في الشعر مجموعات عديدة: “ألغام في مدينة بريئة" 1976، “طعم العرق" 1985، “غبار الوقت" 1994، “ثلاثون سماء تحت أرض الخوارزمي" 2010، “ورقات من ديوان الثورة" 2011 (بالإشترك مع الشاعر حسن بن عبد الله)... وبصمة هامة في المسرح الشعري: “نحن اكتشفنا الوطن" 1985 للأطفال، “أحبك يا شعب" 2002 للكبار (عن شهيد الكفاح الوطني والنقابي الزعيم فرحات حشاد)... إلى جانب بحث تاريخي بعنوان “قصة الفسفاط في تونس"، ترجمت بعض قصائده إلى الروسية والفرنسية واليوغوسلافية والرومانية.. تحصل في نوفمبر 2012 على جائرة أبو القاسم الشابي للبنك، تونس في دورة 2011 حول أفضل قصيدة شعرية نشرت سنة 2011 حول الثورة التونسية، تحت عنوان “هكذا يحملنا ضوء".. إنه الشاعر التونسي محمد عمار شعبانية، الذي ستتعرفون عليه أكثر من خلال هذا الحوار.. تابعوا. على مستوى الكتابة ما الذي يشغلك الآن؟ أتراوح الآن بين كتابة الشعر والنثر، فقد أنهيت كتابة قصيدة “الهُنا" بعنوان “شقيًّا مرّ ذئب الوقت"، وهي نافذة مفتوحة عمّا يحدث بتونس بعد الثورة، وما زال للشعر ما يحرّضني على قوله، ومحاذاة لذلك أواصل كتابة ارتسامات وملاحظات تنخرط في سلوك أدب الرحلة بتصّور سردي خاص لتسجيل ما أوحت به رحلتي إلى مدينة سطيف الجزائرية، في أواخر شهر جوان 2012، للمشاركة في الملتقى الأدبي حول البعد التحرري في الأدب المغاربي، وقد ارتكزت فكرة النص الذي يتكوّن من محطات أن أتوقف في الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين منها قريبا، بعدما تخطيت إلى حد كتابة هذه الأسطر المحطة العشرين، وهي تتكئ بالأساس على ما تبوح به اللهجتان التونسية والجزائرية من اختلافات طفيفة قد يتم تأويل معاني ودلالات بعض كلماتها ولكنها لا تعيق التواصل العاطفي والاجتماعي. وينفتح النص على التاريخ والجغرافيا والسياسة والأدب والفن وحتى على الرياضة. كما أنني أنهيت أو بصدد إنهاء كتابة بعض الأغاني الملتزمة لفرقة أولاد المناجم التي ازداد صوتها ارتفاعا في الأشهر الأخيرة بما تنشده من أغان تعكس واقع الإنسان الكادح والمواطن المسحوق و«المعطّل" عن العمل والطالب وذوي الانتظارات الطويلة. لذلك أقول إنني كلّما سعيت إلى الرشف من ينبوع كتابة يزداد عطشي إلى معين كتابة مجاورة. ماذا عن الكتابة وجدل الفصول؟ يمرّ هذا الفصل بتراكمات حياتية ثقيلة ومتتابعة، فمن إنهاكات شهر الصيام بمتطلباته الاستهلاكية الواسعة التي ترهق ضيق جيوبنا، إلى احتياجات الأبناء إلى مصاريف كثيرة لمجابهة مستلزمات الحياة التعليمية وخاصة منها الجامعية، ومن مواجع التقشف المعيشي لتوفير أثمان أكباش عيد الإضحى التي سجلت أسعارها ارتفاعا مشطّا إلى انخرام الجيوب لدفع معالم فواتير استهلاك الماء والكهرباء والهاتف والأنترنيت والتوبنيت التي نزلت على رؤوسنا مجمعة، كلّ ما ذكرت يؤثر على ذاكرة الإبداع إذا تواصلت إشكالاته، غير أني أستطيع أن أصرّح بأنني لم استسلم لضربات الاستنزاف المالي فواجهتها بكتابات أعتزّ بأنني أنجزتها بعيدا عن الإحراجات، وقد ساعدني على تحقيقها تواصلي يوميا مع أصدقائي بما يعرضونه من نصوص شعرية محرّضة على تخطي حاجز الصمت الأدبي الذي أصبح مرضا يعاني منه العديد من ساردينا وشعرائنا وحتى نقّادنا في هذا الوقت. وإذا أوقفني الصمت عن كلام الشعر المباح وقتا أو آخر فذلك لا يعني اختفائي عمّا ينتظره منّي المتلقون لأنني أستطيع أن أصافحهم بما يترك في الذاكرة صدى صرير الحروف، فقد قلت في ذلك: فقد أختفي حيث لا أنتفي ودمي يتأرجح من قمّة الوزن حتّى قشعْريرة القافيهْ حين تحتلّ طاولتي حَفْنةٌ من كلامْ. فأنا لا أتكلف الكتابة لأنني لا أقول ما لا أفعل وما لا أحس به. أيّ فصل من فصول السنة يلهمك، ويستهويك أكثر؟ أعتقد أن الفصول بريئة من تكلّس الأفكار أو جزالة إنتاجها، لأنها لا تتدخل في ظروف أسباب المعاناة الحقيقية للمبدعين، فإذا كنا ورثنا عن الرومانسيين هروبهم إلى الطبيعة لاستلهام أفكارهم من فصولها التي يوحي إليهم خريفها بالهرم والعقم ويحيلهم شتاؤها على الكآبة والتشاؤم ويدعوهم ربيعها إلى الأمل والزهو والتفاؤل ويذكرهم الصيف فيها بالحكمة الحب وعشق الحياة، فإن الشاعر الصادق هو الذي لا يتأثر بغير ما يدور حوله من مشاغل وانشغالات حياتية يعيشها مع مواطنيه أو يعايشها مع الإنسانية في مسارها المتدفق أملا في تحقيق قيّم الحرية والكرامة والعدل الطمأنينة والأمان. فأنا أكتب في جميع فصول السنة عندما أحسّ بأنني في حاجة إلى الكتابة، وقد أكتب الكثير في أيام متواترة مثلما فعلت ذلك عندما انخرطت صحبة الصديق الشاعر حسن بن عبد الله في كتابة نص طويل تجاوز مائة صفحة في كتاب شعري عنونناه ب “حالات شتى لانتظار واحد: ورقات من ديوان الثورة" شرعنا في رسم حروف مقاطعه الشعرية أو قصائده في أواخر سنة 2010، وأوقفنا انهمار أسطره في منتصف شهر فيفري 2011، مسجلين فيه حالات وتحركات وغَليانات الثورات العربية التي أسقطت عروش الطغاة وما زالت في حاجة إلى تحقيق انتظارات شعوبها. وقد لا أكتب سطرا واحدا في أي موسم عندما تتكلس أفكاري أو عندما تجرني انهماكات أخرى إلى الابتعاد الإجباري عن مغازلة القلم والورق، ولكني أستطيع التصريح بأنني لا أقدر على الكتابة في البرودة الشديدة أو الحر المرتع لأنني أتضايق منهما، وما يضايق الجسم والروح معا لا يشجّع على إنتاج الأدب، فالأديب الكبير محمود المسعدي صاحب “السد" الشهير و«حدّث أبو هريرة قال" المعتبر، قال “الأدب مأساة أو لا يكون" ولكنه لم يقل الأدب إقلاق ومضايقة لأن القلم والضيق يوحيان بأفكار لاحقة ويعطلان كل تهيؤ لولادة نص آني بالنسبة لي على الأقل. إنهاء كتابة نص ما الذي يعنيه لك؟ الانتهاء من كتابة النص ولادة بعد مخاض عسير، فقد قال الفرزدق “وإنه لتمرّ بي أيام يكون فيها نزع ضرس أهونَ عليّ من قول بيت شعر" والذين لا يمارسون أي إبداع أدبي أو فني لا يصدقون معاناة ذويها، لذلك تبقى القطيعة بينهم وبين أصحابه واسعة والكَيّس منهم هو الذي يحرّك أوتار عاطفته أو عقله بيت شعر جميل أو عزف موسيقي أخاذ ولا يدرك ما حصل بموجبه من أوجاع لواضعه، لذلك يحرس المبدع على أن ينجز عملا قادرا على التغلغل في ذاكرة الغير، وهذا يتطلب معاناة مؤلمة قد لا تسعف العديد من منّا. وبالنسبة لي فإنني أتعامل مع كتابة نصوصي بحذر وألم وإصرار لأعبر من خلالها عن أشياء كثيرة مما أحس به وأرغب في أن أقول كلاما فيه: فلا جملة ً يائسهْ ولا فكرةً بائسهِ تَقُصّان حبْل الحروف التي أكتبُ فإنْ حالتا دون همّي ودون انسكابي على ورقي يُعيقهما غضب مرعب ُ وإنْ باتتا في شجار مع قلقي أطيل انتظاري ولا أتعبُ فتأتي القصيدة شاربة من دمي وأمنحها كلَّ ما تطلب عندها أشعر بشيء من الارتياح الذي سرعان ما ينقلب إلى قلقل لا يزول قبل أن أعرف رأي المتلقي حول ما كتبته، فإذا أعرض عنّي تعرض الراحة عني مثله. المتلقي أي حضور له، وأنت بصدد الكتابة أم أنه يعد نصا غائبا؟ أحيانا أستحضر المتلقي قبل الشروع في كتابة القصيدة وأتصوّر أنه يحاورني ويملي عليّ ذوقه، غير أني استمهله وأطلب منه مساعدتي بصمته إلى أن أضع بين يديه أو أوجه إلى سمعه النص وأخشى من المتلقين النقاد، لأنهم يحاورون الكتابة بوعيهم لا بعواطفهم، ذلك أن المتقبل العادي غير موثوق به فقد يتقلب وفق ظروفه النفسية ومواقفه السياسية، أما الناقد فهو ثابت المواقف والآراء اعتمادا منه على مقاييس وتقييمات علمية ثابتة. أي حضور للرقيب والرقابة ساعة الكتابة؟ أنا أمارس على ذاتي أنواعا من الرقابة لا نوعا واحدا منها عندما أكتب (رقابة على الفكرة، رقابة على اللغة، رقابة على الأسلوب، رقابة على الإيقاع، رقابة على الخطاب)، ولكل منها مهمة واضحة في تحديد ملامح العنصر المرتبط بها لضمان انسجامه مع بقية عناصر النص ليكتمل بناؤه متناسقا، لذلك أضحك ساخرا عندما أستمع إلى بعضهم يقول إن الشعر وحي يوحى إليه ولا يغيّر فيه كلمة أو فكرة عندما ينزل عليه. والشاعر الذي لا يمارس رقابة على ذاته تتسيّب كتابته وتنتهي إلى الفراغ. الكتابة في حياتك، ما الذي تشكله؟ قال المتنبي “لكل امرئ في دهره ما تعوّد" وأنا إن لم أحترف الكتابة لأرتزق منها، كما كُتب ذلك على البعض من ذوي الأقلام، فإنني تعودت منذ فترة المراهقة ملامسة أوجاع والحروف لأتداوى بدائها ولأتحسس من خلالها وجودي، ولا أعتقد أنني قادر على العيش في غيابها.. فبالكتابة أخاطب وأعبر وأبلغ وأفصح عن مواقفي وآرائي بلغة تميّزها عن البث العادي المتداول. وبالكتابة يعرفني الناس داخل وخارج الحيّز الجغرافي الذي أتحرك فيه.. عندما يطول بي عقمها أحزن وعندما يفاجئني مخاضها أستعدّ لتداعياته بالتعب أو بالارتياح. لذلك أحاول دائما أن أكتب شيئا ما: شعر، مسرح، مقال، خاطرة... كي لا أنتهي إلى النسيان، وقد تسبب لي بعضها في إشكاليات ومضايقات، كما جلب لي بعضها التأييد والتنويه، لأن أجمل ما أحصل عليه منها هو المتناقضات، غير أني أرفض أنْ أمارس كتابة الجبن أو التهوّر. بما تعرف الكتابة؟ هي بوح طاهر ونبيل، تمارسه فئة قليلة من الناس في كل مجتمع من المجتمعات لتقوّم به اعوجاج الأمزجة وتعدّل به أوتار الحياة وتترك وقعه وصداه متداويليْن عبر الأزمنة المتعاقبة فيتذوّق القراء خطاباته ويستشهد المتحدثون بأمثاله. هل يمكن أن تكون راضيا عما تكتب؟ الرضا غاية لا تُدرك، وأنا أسعى باستمرار إلى أن يكون نصي اللاحق أكثر إشراقا من نصي السابق، وهذا ما يجعلني أنافس نفسي من كتابة إلى أخرى لأتجاوزني، وقد يحصل ذلك أحيانا وقد أتدحرج أحيانا من أعلى إلى ما هو أدنى كصخرة سيزيف، ومع ذلك أشعر بأنني راض عمّا كتبت أو قل عن نصوص كتبتها عندما يشهد المتلقون والنقاد بأنها مقنعة وجديرة بالقراءة. وقد حصل ذلك عديد المرات. قبل اتخاذك لقرار النشر، هل تعيد النظر فيما كتبت؟ أنا أحرص على أن لا أشهر نصا من نصوصي ليطلع عليه القراء بالصحف والمجلات وشبكة التواصل الاجتماعي أو ليستمع إليه المتلقون عند بثه قبل أن أعيد فيه النظر عدة مرات، لإمكانية تطوير فكرته أو إثراء صُوَره أو تغيير بعض مفرداته أو تراكيبه، وأضطر أحيانا إلى الاستعانة ببعض الأصدقاء الصرحاء وذوي الآراء والأذواق من الجامعيين والنقاد والساردين، أمثال الدكتور الجامعي محمد صالح بن عمر والناقد الصحفي محمد بن رجب والكاتب المغترب بوبكر العيادي والقاص الروائي عباس سليمان فأوجه إليهم آخر ما كتبت برسائل إلكترونية لثقتي في أنهم لا يفشون أسرار الكتابة أولا، ولتقديري لصدقهم وتجنبهم المجاملات، وكثيرا ما أعيد النظر في ما كتبته وفق ملاحظاتهم لأفاجئهم بنص مختلف لم يتوقعوا أنني سأبدع مثله تجاوزًا لمشروعه المرسل إليهم، وما يملؤني سعادة هو أن العديد من الشعراء الشبان والحداثيين المعروفين يتدخلون أحيانا للتنويه بما أنتجته من قصائد كالبشير موسى ومبروك السياري ونزار حميدي ونجاة المازني إلى جانب الكبار سنّا وإبداعا أمثال عبد الله مالك القاسمي وسوف عبيد والهادي الجزيري وجمال الطليعي والمولدي فروج ومحمد علي الهاني.. وحتى من خارج تونس. فكيف لا أرضى برضاهم؟