الكارثة من حولنا.. تسبق حثيثة في خطاها، ترمقنا، ثم هي تترصدنا، ثم هي تجهز علينا، إنها تعيد بناء عالمنا الداخلي.. نظرتنا الكونية، امبريالية عقلنا الذي استأسد على الطبيعة وعلى الناس، الكارثة وهي تصير رهابا، رعبا وقيامة، فيضانا ونازلة على الداخل من الداخل، ليست هي الخسارة والخسارات، فداحة التجربة البشرية وهي تنغلق على سر أخطائها، فرغم طفرة علوم الأولين والآخرين، التحديثات والتحسينات التي تنكبتها البشرية تروم لقاء بالسعادة، لقاء حي إنساني إيخائي، رغم ذلك كون العقل محنة ونكبة إلا أن ضراوة المواجهة مع الطبيعة وتحدياتها ظلت في اطراد وتسارع لاهثين فلا الإنسان احتمى بمشروعه الإعماري ولا الكون هادن وتلطف ورأف.. قصة كبيرة، كبيرة عظم قصص الحب التي لا تذوي ولا تخبت إذ تستعر وتشتد وتفرض مركزيتها وهيمنتها على أهل الكوكب النيام، فإذا ما استيقظوا ماتوا على مقولة الإمام علي كرّم الله وجهه، ريثما، ريثما يصحو الناس ويتذكرون ما الذي حاق بهم من كوارث جمة ونوازل ساحقات لا يكونون إلا في غمرة مناشدة المخلص الأبدي، له السرمد والتسبيح، له فناء الأكوان وبقاؤه، له الجبروت وعلى هؤلاء الخشية والنذير.. تبلغ بالناس الأهوال مبلغا يفوق قدرتهم على الاستيعاب والفهم، كما احتمالات النجاة، حيث تتضاءل فرص معانقة ذرات التراب وتشمم عطر الحياة تعدم أو تندر، إنه الفشل المعرفي، العقلاني، ذلك أنها الطبيعة في مغالبة من لا يغلب في مباراة واحدة وفي جولة عابرة، ولماما ينزع البشر إلى خالق يؤمنون به، أو أنكروه يقينا ومجاهلة، أو تحسبوه صدفة لا يحضر ماثلا صادعا بحقائقه، إنه ميتافيزيقي، شبحي، عاطل عن الوجود والتدخل، لكنهم لازالوا ينزعون نحوه مخافة المجهول وملاقاة المصائر الهالكة.. بيد أن الحق في اعتبار الكارثة أولا وأخيرا رحمة ورأفة، منزعا للقراءة والتأويل والفهم والمقارعة والتحدي، إنها ليست واقعة انتحارية مفضية بأصحابها إلى خريف جهنم، إلى سابع الهاويات.. إن الكارثة خطاب، نص، منظومة اغرائية تلزم العمل والدأب والنشطوية، وهي تتلبس بكل شيء، أي بكل التفكيرات والانهمامات والحقول والمعارف، هي شغل كبير وإرادة توافق وضمنية جهد، انضغاط الزمان والمكان بتعبير أهل الحداثة وصنّاعها.. خائضة في الصيرورات والمآلات، مفاتحة لنقاش البيئة وتأثيراتها على مواطني العالم، حاسرة رأسها ظاهرة بقوة كاشفة للعيان من عنفها الرمزي واللارمزي.. تقذف الكارثة بحمم من النقاشات وتستجيب إلى سجالات ثرية ليس بها عقم وسفسطة بل هي الموضوعة الوحيدة من بين الوحيدات التي تستهدف إعادة بناء العالم، إعادة التفكير فيه، إعادة صتعه، تبئيره، تجديد التفلسف فيه، تستدعي الكارثة بوصفها نظما ومتنا، بوصفها واقعة كونية، جدا لا عقائديا، تستدعي كل هذا الترابط والأفكار العضوية المندغمة التي تتحاد وتتراص كيما تشكل رؤيتها الشاملة وتمركزها الذهبي وسط طفرات علمية قلنا عنها أنها عاجزة -بكل فروعها- عن التحديد المفاهيمي للمسألة ومباغتاتها الدائمة، قد تكون موحية الدلالات، مهدمة للبنى، للمعتقد، أي معتقد، ديني، رباني أو شيطاني، سحري خرافي، علمي معرفي، تقني، فني، أدبي جمالي، قد تكون خلاصية رسولية إرشادية وذلك في اللحظة التي يهيم أحدهم في ضوع خطاب يسمى “ما بعد الكارثة". تلتمس الكارثة وتلتصق بالمابعدية ولذلك فهي تقض مضجع علماء المستقبل وقادة الفكر ونجباء الدماغ، بل إن الفكر -الما بعد كارثي- يحوز على الصدارة في برامج رؤساء الولاياتالمتحدةالأمريكية، اليابان، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، بلاد الإسكندنياف، تركيا، الصين وتايوان، كوريا وسنغافورة، ماليزيا وأندونيسيا، فضلا عن الهند والبرازيل والمكسيك.. ويلي ذلك بلدان غير محل الكارثة الطبيعية البيئية أو البشرية الإنسانية -جماعية أو فردية- هو محل الدرس والتحليل والتكشيف، يطمئن ذلك القادة والخاصة من أبناء وبنات الكون على مقدرة التوقع وفن النباهة وحسن التدبر والتدبير في مشيئة سيّدها الله -فما أعظمه- ثم البشر فما أقدرهم على إعمال خواطرهم العقلية والمبادرة بالتمارين لحلحلة مشاكل الكون وكوارثه وفكفكتها.. الحرائق وقدحة النار التي سفحت المنجم الكوني والإنساني، فيا لمتعة النار وطيبتها، السيول الجارفات وهي ترمي بمائها معلنة ثورة الماء في رونق شفافيتها، الزلازل وبكاء الأرض من عفس ودعس ودعك الحوافر الناتئة بالجيوش والدبابات والعربات الذاهبة بعيدا نحو مدافنها، مدفن العبارة والعبارة -بالتشديد على الباء- الرياح والأنواء وهي تدفع البشر، الحجر والشجر نحو المجاهيل والأغوار السحيقة، ناهيك تاليا للحوادث ذات المنشأ البشري والتسبب الفردي والجماعي، المباشر وغير المباشر، المقصود وغير المقصود.. حوادث العمل والآلة، السقوطات في الأبنية ومن الأبنية، الوقوع تحت الردم، فساد الطرقاتيث وفساد السائقين وفساد الميكانيكيين وميكانيكا السيارات حال كل يعمل بمبدأ الصلابة والكونفور فيما ترهف الحداثة البعدية الصناعة وترقق الألياف وتلين المخاطر حتى يصير الواحد معنيا على الأدوم بخطر قادم أو موت محتوم أو تغييب كوني لا يدري عن غائلته إلا بعد حين.. متلبسون نحن بوقائع عصرنا لا نملك إلا الضيافة على المخيال وممارسة التذكر على هذه الخطوب التي ضربتنا، أو زلزلت قفانا، أو أدمت قلبنا ونحن أسرى المشهد التلفزيوني وعصر الصورة.. وقائع، وقائع، عبرت بنا، طافت بنا وعلينا، هشمت كياننا وأركست حصوننا المنيعة تلك التي ادعينا يوما أننا نملك عنها مقدرتنا ومخططاتنا وجنوننا التكنولوجي الباهر.. إن جيلنا يذكر هذا الذي يجب أن يذكر عن ظلمات مدلهمة، وأهوال جائحة وأيام نحسات، غرق الباخرة الروسية كورسك، تسونامي أندونيسيا الذي غير البحار عن مواعيد أمواجها، مجاعة أثيوبيا والقحط، قحط في كل شيء ومن كل شيء تركه الطاغية هيلا سيلاسي، حادثة تشير نوبيل، الزلزال وفجائعه.. زلزال القاهرة، زلزال تركيا، زلزال الأصنام، الحروب وبؤر التوتّر.. إن الحروب مشيئة فيها الأقدار وإرادة الرب، كما طغيان البشر وأنانياتهم الدفينة وانفصام عرى وثائقهم وتحلل أربطتهم القوامة على الفضيلة وروحية الدين، على الله الواحد والجامع وسريرة الإنسان المجبولة على الخير، على المساكنة وحب العيش المشترك ومنابذة الافتراس والمفترسين، غير أن هؤلاء المفترسين كانوا على عدد كثير ابتغوا أكل ضعيفهم، فقيرهم، فلاحهم، سهلهم المستكنين، مسالمهم الذي لا يقطع شجرة من جذعها ولا طفل عن رحم أمه يفصله ولا مسنا عن عصاه التي يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، حروب الطواغيث وهم يبتغون جيوستراتيجيا جديدة للعالم، أي لعالمهم، حرب أفغانستان الأولى والثانية، حرب العراق وإيران، حرب لبنان الأولى والثانية والثالثة، الأبارتيد وقبائحه، حرب الصومال وبطش سيادبري، حرب سيراليون وكابيلا، حرب يومية من أجل الخبز والحرية والذهب الأسود، من أجل اليورانيوم والنفط الوردي والطائرة النفاثة، حرب من أجل الساحل ونعمه الزاخرة ولذائذ مدخراته تلك التي ينصب بها الكبار على الصغار بالمثل والأفكار والأنسنات فيما هم يغيرون بقضهم وقضيضهم على النفيس والغالي، حرب مالي ومعاركها السماوية والرملية، ثمة حروب في بورما وقبلها في داغستان والشيشان، في أنجوشيا وأذربيجان، مجازر سربرينتشا، مجازر الدولة العبرية في الضفة والقطاع.. بينما يخوض الإنسان المجابهات الصعبة لضمان إدارة مكينة للبيئة ومخاطرها ثم تتلاحق المؤتمرات الدولية حول الأرض، والظواهر الشتى عن الاحتباس الحراري وتحولات القشرة الأرضية متلازمة مع موضوعات عن النجوم، الفلك، الخسوف والخسوف الجزئي، الكسوف ومفاعيله يعقب ذلك التطور النوعي في قراءة الكارثة واستقراء عناصرها وتفرع موضوعاتها.. بينما يحدث هذا التتابع المتوافر والمتوافر في فكر ما بعد الكارثة ومستقبلاته فإن ذلك يستمر ويوحي بعالم يقض بالمعلومات، مفتوح على النهايات -لا العقائدية- بل على التبدل والمغايرة والمحو.. يعمل مدراء العمل -الناشطون في المستقبليات- خاصة على رصد طبيعة الحراك الكوني والتبحر في بنياته على أساس من تقدير الفاجعة الطبيعية وحالاتها الكونية الناشطة دوما ويبحر معهم هؤلاء الفلاسفة ورجال الدين - كنسيين وأهل إسلام- ورجالا الجيوستراتيجيا والتفكير السياسي والسوسيولوجي والعمراني وفي العلوم ذوات الصلات والعلائق لتخريج الصيغ والمنظومات والنظم والمناهج التي تروق سعادة البشر وغبطتهم، لكن عالمنا بعلمائه وأفذاذه من المعاصرين الأحياء أو من الموتى الشهداء يضيقون ذرعا وأمانة بحمل عبء الساسة الشرهين إلى القتل والغزو ونهب بني الأرض وأرضهم، نهب مغنمهم وغنمهم ونغمهم، إنه الاستشراق ناظرا إليه ومنظورا.. ليفكر الواحد فينا أيضا، مرارا وتكرارا كيف أن الكوارث الطبيعية والشبه الطبيعية، والكوارث القائمة على تأسيسات البشر لطالما جرى تفسيرها وفق منطق المؤامرة، شخصية ويرانوية، أو محلية قومجية، أو عالمية استقطابية، ويحتاج الناس إلى هذا التفسير كحاجة الغريق إلى قشة انقاذ وحاجة الحريق إلى إطفائي ماهر، وحاجة اللامسؤول كي يهرب بشحمه وبزته، بلباسه وقناعه إلى أين.. إلى الفراغ!! عبر اللغة الصعبة، العامية أو النخبوية، عبر الاستعارات والكنايات، عبر التصريف الجمالي البلاغي والفني المهني.. تدعونا هذه الكوارث إلى ابتعاثات جديدة لها ولملامحها، وإنسانيا وأخلاقيا تعيد هي الإنسان إلى فطرته، مبتدأ خلقه ويفاعته الندية الصغرى.. سنتأمل كلنا مليا نحن الجزائريون.. كيف تصرفنا أثناء حادثة منجم خرزة يوسف، وزلزال بومرداس والناظور وفيضانات باب الوادي، وثلوج الأمس القريب ومعركة تيڤنتورين.. a_maouchi@live. Com