إنكم يا سي عبد الرزاق، إن تمكنتم من تولي قيادة حزب جبهة التحرير الوطني، في هذا الوقت بالذات، ستكونون كمن يقبض تماما على الجمر بكلتي يديه. كانت تلك آخر الكلمات التي تحدثتُ بها إلى الراحل عبد الرزاق بوحارة رحمه الله. أطلق الرجل المتعب الذي كان يقترب من عقده الثامن، وهو يسعل سعالا شديدا، تنهيدة، بل وزفرة كبيرة، وراح يقول لي وقد كان برفقتي أحد القياديين في حزب جبهة التحرير الوطني وهو من رفقاء المرحوم في ثورة التحرير: “لن اُقْدم على أية قرارات وحدي، إنني لن أعمل منفردا، سأعمل مع القيادة كلها لنعيد للحزب العتيد أدبياته ونعيد المناضلين والمناضلات إلى حزبهم بعد أن نفرهم منه وهربهم أصحاب المال الفاسد، أنا أحتاج إليكم جميعا إنْ وقع اختيار قيادة الحزب علي، ولكن قبل ذلك علينا أن نفكر في رسم الأهداف قبل التفكير في الأشخاص، فالأشخاص مهما تكن لهم من قيمة فهم عابرون، لكن أفكارهم ورؤاهم وتصوراتهم وأعمالهم تبقى وإنْ رحلوا". إن رسم الأهداف هي من مكارم الجبهة كي لا نسقط في الأخطاء التي عادة ما يتسبب فيها القرار الفردي وحب الزعامة الفردية، أما العمل الجماعي فقلما يخطئ في تحقيق الأهداف المسطرة. كان سي عبد الرزاق، بالرغم من شعوره بالصعوبات التي كان يتصورها في ظل الأزمة التي يعيشها حزب جبهة التحرير الوطني، يبدو أكثر عزما على مواجهة تلك الأزمة، ولم يكن الرجل، كما بدا لنا من عزمه، يتصور أن يحول الموت بينه وبين برنامجه الكبير لحل أزمة الحزب العتيد بعد أربعة أيام فقط من ذلك اللقاء. جرى هذا الحديث، أمسية يوم الثلاثاء السادس من فبراير 2013، وفي اليوم السابق لذلك اللقاء، اتصلت بالمرحوم سي عبد الرزاق بوحارة عبر هاتفه النقال لكي نلتقي به في مكتبه بمبنى مجلس الأمة، لكن الرجل فضل كعادته أن نلتقي به في بيته ربما ليكون النقاش أعمق بعيدا عن الضغط الذي كان يتعرض له الرجل من قبل بعض المناضلين والاتصالات المكثفة التي كان يجريها بعد أن بدأ عدد من القياديين يتداولون اسمه كخليفة للأمين العام السابق الذي تم نزع الثقة منه يوم ال 31 جانفي الماضي، إذ أن المرحوم بوحارة كان أحد حكماء الحزب الذي سعى مع رفقائه الآخرين من أمثال صالح قوجيل ومحمد بوخالفة وأحمد السبع وعفان قزان الجيلالي وحجار لحل الأزمة التي ظلت تعصف بالحزب خصوصا منذ المؤتمر التاسع. على امتداد ساعة أو يزيد، ظل سي عبد الرزاق، يحدثنا عن آماله وتطلعاته لكي نعيد للحزب العتيد وجهه الناصع بعد أن عششت فيه الرداءة والارتجال ونخره المال الفاسد والتسيير السيء واعترته أزمة هوية وأزمة تمثيل وأزمة ثقة. في 2009 حرر سي عبد الرزاق، صاحب فكرة الوطنية التحررية، وثيقة هامة قبيل المؤتمر التاسع للحزب تحت عنوان: محاور للتفكير في تجديد حزب جبهة التحرير الوطني، تحدث فيها عن أزمة الحزب ورسم فيها معالم للمستقبل عبر نقد ذاتي وتحليل ينأى عن الذاتية والتجريح قصد إحداث التغيير المأمول، وبعد أن عدد الرجل أزمات الجبهة والحزب طرح سؤالا جوهريا فحواه: ما هي السياسة الانتقالية للحزب في وقت تؤول فيه الوجوه الرمزية لجبهة التحرير الوطني حزبا وجبهة إلى الزوال؟ وقد التقيته في أعقاب تحرير تلك الوثيقة، أكثر من مرة، بمكتبه بمجلس الأمة وتناقشنا في محتوياتها. فقد كان سي عبد الرزاق ودودا رغم أنه يبدو لمن لم يعرفونه عن قرب غير ذلك، بل كان محبا للحوار العميق غير الفضفاض، عكس بعض السياسيين الذين لا يذهبون للعمق ويكتفون بظاهر الأشياء ويتركون العمق، وكان لا ينفرد برأيه، بل إنه يفضل الاستماع إلى الآخر كلما تعلق الأمر بقضية سياسية أو اجتماعية أو أية قضية فكرية. وكان كلما التقاني يلوموني معاتب: “ولماذا لم تزرني منذ فترة؟" لا أزعم هنا، أنني كنت في وفاق دائم مع الرجل، خاصة خلال الفترة التي سبقت المؤتمر التاسع، رغم احترامي الشديد لقناعاته وأفكاره وطروحاته الفكرية خصوصا، ورغم معرفتي به منذ سبعينيات القرن الماضي عندما كان واليا على الجزائر العاصمة، غير أنني بعد الانحراف الذي عاشه الحزب خصوصا منذ المؤتمر التاسع، صرتُ أستأنس كثيرا لأفكار الرجل وتصوراته ورؤاه. ففي أعقاب المؤتمر التاسع للحزب في جانفي 2010 وقد كنتُ وقتها غير مرتاح لتشكيلة المكتب السياسي وحتى تركيبة اللجنة المركزية جلستُ إلى المرحوم بوحارة في بيته بأعالي الأبيارعلى امتداد ما يقرب من ساعتين رفقة عضو اللجنة المركزية للحزب محمد بورايو، انصب حديثنا عن احتمالات المستقبل والدور المحوري الذي يجب أن يلعبه حزب جبهة التحرير الوطني في المرحلة الحالية، خصوصا في ظل الاصلاحات والتطورات السياسية الداخلية والحراك الذي بات يقع في العالم، إذ كان تخوفنا مشتركا من أن تتعمق الأزمة التي عرفها الحزب خاصة في 2003 و2004 لتعصف بالحزب العتيد. لم يكن العالم العربي حينها قد عرف بعد، ما اصطلح عليه بالربيع العربي، ولم تكن جماهيره قد تحركت لهز الأنظمة الديكتاتورية والجملكيات المهترئة التي عششت طويلا حتى ملها الناس بعد أن عبثت بكل شيء في بلدانها وباتت الشعوب المكممة تنتظر كل فرصة للانتفاضة ضد حكامها حتى جاءتها الإشارة عبر أجندات التغيير التي كان يتم طبخها في مخابر غربية وخصوصا في واشنطن ولندن وباريس. كان الإسلاميون وقتها يتراجعون في الجزائر، ولكنهم كانوا يتحينون فرصتهم في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا للانقضاض على الأنظمة القائمة ببلدانهم، وكانت التجربة الفاشلة لنظرائهم في الجزائر ماثلة أمام العيان. والأكيد، أن سي عبد الرزاق بوحارة رحمه الله بتجربته الثرية ونظرته الثاقبة، كان ينظر بعين مستقبلية فاحصة لبعض الاحتمالات والزوابع والعواصف القادمة، حتى لا تتكرر تجربة أكتوبر 1988 من جديد بالجزائر وحتى لا يرشق بعض الشبان قسمات ومحافظات الحزب بالحجارة من جديد، ولذلك راح ينبه لضرورة إحداث التغيير داخل الحزب قبل فوات الأوان حتى لا يقع الزلزال في صفوف الأفلان باعتباره واحدا من صمامات الأمان للحياة السياسية والاجتماعية وعاملا من عوامل الأمن والاستقرار بالجزائر. كانت أعين البعض مشدودة بانتهازية قاتلة إلى 2014، أما أعين المناضلين الشرفاء من ذوي النظرة الاستشرافية الثاقبة والبعد الوطني الأصيل المتشبع بقيم نوفمبر بأبعادها الاجتماعية خصوصا، فقد كانت ترى في معالجة المشاكل الآنية وطرح بدائل ما بعد المحروقات في صلب اهتماماتها الأولية دون التفكير في الأشخاص. والآن قد يرحل أمثال بوحارة ويتوارون عن الأنظار، لكن أفكارهم والمبادئ السامية التي ناضلوا من أجلها ستبقى دون شك راسخة حتى في أذهان الذين يختلفون معهم، أما الذين يسعون باستمرار لاكتناز المال الفاسد ويهمشون الكفاءات ويحقرونها ويقبرون القيم ويدوسون على الأخلاق السياسية وتركبهم أنانية الكرسي الملعون، فإنهم إن رحلوا قد يصبحون نسيا منسيا حتى من طرف أقرب مقربيهم. هذه سنة الحياة فالبقاء يبقى دوما للأصلح حتى لو انتقل للدار الأخرى. لم يكن سي عبد الرزاق من النوع المهادن، كلما تعلق الأمر بالقضايا الجوهرية التي تتعلق بمستقبل الوطن ومكانة حزب جبهة التحرير الوطني فيها، كان هذا الرجل ذو المرجعية النوفمبرية التحررية الوطنية والمتطلع إلى المستقبل بنظرة براغماتية استشرافية مهوسا بطرح أفكاره دون خوف أو مواربة أو وجل، بل إن الرجل كان جريئا في أفكاره يطرحها ويدافع عنها بشراسة حتى لو أغضبت الأصدقاء والرفقاء. كان مناضل قضية ولم يكن مناضل مناسبات أو صاحب أدوار قذرة، ولذلك كان يختلف مع الماسكين بالعصا من الوسط أو اللاهثين وراء الكرسي. بكيت يوم رأيت بعضهم في المؤتمر السابع للحزب العتيد يجرجر هذا المجاهد الصلب على الأرض ويحاول إهانته أمام الجميع، لكن الرجل ظل ثابتا كالطود الأشم لم يخذله الذين يبدلون مواقفهم 180 درجة مع كل منعرج أو عبر أية إشارة تأتيهم من هنا أو من هناك، أو بفعل أمر أو لمجرد غمزة لا يفقه أصحابها في السياسة شيئا. ثم إن سي عبد الرزاق بوحارة، إضافة إلى كل هذا، لم يكن قيمة واحدة ولكنه كان مجموعة من القيم المتعددة وطنيا وعربيا. فقد كان قيمة تاريخية: التحق الشاب عبد الرزاق في العشرينات من العمر وهو طالب رياضيات، بصفوف الثورة مجاهدا في جبال خنشلة الشماء، وراح هذا الشاب الحيوي الذي كان رفقاؤه يطلقون عليه “الألماني" لكونه كان جميلا أشقرا أزرق العينين يبدي شجاعة خارقة جعلته ينال إعجاب مسؤوليه الذين بوؤوه عددا من المسؤوليات والمهام إلى أن أصبح واحدا من أبرز الضباط الشبان لثورة أول نوفمبر شجاعة وجرأة ودقة في التنظيم، ودخل بذلك التاريخ كواحد من المجاهدين الأشاوس ومن ضباط جيش التحرير الوطني. وكان قيمة عسكرية: مع فجر الاستقلال راحت نفسه التواقة للمستقبل تتطلع لمواصلة الدراسة من جديد وهذه المرة في العلوم العسكرية، فكان أن تلقى دراسة عسكرية في مدينة حمص بسوريا ثم دراسة عسكرية عليا بمصر ثم بفرنسا. ومن بين المناصب العسكرية السامية التي تولاها في جزائر الاستقلال، إشرافه على قيادة أركان الناحية العسكرية الثالثة ببشار، قبل أن يلتحق بالخارج ملحقا عسكريا للجزائر في عدة بلدان. وكان قيمة وطنية: وتبرز هذه القيمة في تولي المرحوم عدة مناصب ومسؤوليات وطنية من بينها سفيرا للجزائر في هانوي ثم واليا للجزائر العاصمة قبل أن يصبح وزيرا للصحة العمومية. وبالرغم من الوظائف العديدة التي تولاها داخل الوطن وخارجه، فقد كان سي عبد الرزاق عفيفا نظيفا، لم تمتد يده إطلاقا إلى المال العام، بل إن الرجل اختار على الدوام أن يكون ثائرا رافضا بذلك الثروة التي راح البعض، ومن بينهم بعض رفقاء درب الأمس، يلهثون وراءها. وكان قيمة قومية: كان المرحوم هواري بومدين، رغم اختلافه مع سي عبد الرزاق، يعرف القيمة العسكرية للرجل ويقدره حق التقدير رغم قرب الرجل من بن بلة أول رئيس للجزائر المستقلة، وكانت حرب 1967 امتحانا صعبا لكسر إرادة التحرر لدى المواطن العربي، بل وفرصة للجزائر لإبراز عمقها القومي ودفاعها عن قضايا الأمة التي تنتمي إليها. ونظرا للكفاءة العالية التي كان يتميز بها سي عبد الرزاق، فقد اختاره الرئيس بومدين لقيادة القوات الجزائرية في تلك الحرب التي أبلى فيها الجيش الجزائري البلاء الحسن، رغم الهزيمة التي مني بها الجيشان المصري والسوري. وكان قيمة سياسية ونضالية وفكرية: رغم الخلفية العسكرية المتميزة للرجل، فإن المرحوم كان قيمة نضالية وسياسية وفكرية كبيرة. لم يكن النضال بالنسبة له ترفا أو هواية ولكنه كان التزاما بقضية وتشبع بقيم والدفاع عن مواقف ومبادئ، ولم تكن السياسة بالنسبة له تعني الوصول إلى منصب أو الجلوس على كرسي بقدر ما كانت أخلاقا وزرع قيم انطلاقا من فكرته التي ما فتئ يدافع عنها عبر الوطنية المحررة. وأكثر من هذا، فإن سي عبد الرزاق لم يكن مثله مثل السياسيين التقليديين الذين يكتفون بالدفاع عن الفكرة في شكل خطابي فضفاض، لكنه كان يدونها ويحرص على مناقشتها مع الآخر حتى ولو كان هذا الآخر يختلف معه. وهو أيضا من بين القلة القليلة التي تفضل الكتابة، عكس كثير من المجاهدين الذين رحلوا نحو العالم الآخر دون أن يتركوا وراءهم أية وثيقة تاريخية مكتوبة، فقد كتب المرحوم عن الثورة وعن تجربته النضالية بأسلوب ممتع رغم خلفيته العلمية. وقد ترك لنا بهذا الصدد كتابين عن تجربة ثرية، حيث كان يتميز دوما بأنه صاحب رؤى جريئة لا تعرف لا أنصاف الحلول ولا المهادنة المصطنعة بشأن مواقفه الجريئة والشجاعة التي كانت تقلق المتزلفين والانتهازيين وصيادي المناصب، وقد كثروا للأسف، وصاروا يجاهرون، اليوم، بصفاتهم التي كانت خفية وذميمة، بالأمس. رحمك الله ياسي عبد الرزاق وأسكنك فسيح الجنان. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته