-الحساسية القطبية (2): ... ففي السبعينيات مثلا تعرفت الجزائر بشكل قوي على موجة الصحوة التي راح خطابها في اكتساب مواقع متتالية داخل المجتمع الجزائري... فالشيخ عبد اللطيف سلطاني المتوفي عام 1983، وهو عضو ناشط سابق بجمعية العلماء المسلمين ذات النزعة الإصلاحية السلفية وأحد المتأثرين بفكر سيد قطب أعلن عن معارضته لتوجهات هواري بومدين (توفي 1978) الإشتراكية، وانتقد بشدة كتابات الثوريين من حاملي الإيديولوجيا الإشتراكية والوطنية، وكان كتابه “الإشتراكية أصل المزدكية" بمثابة أول بيان معارض لتوجهات الدولة الوطنية على الصعيد السياسي والإقتصادي والإجتماعي.. وكانت سجالاته ضد الروائي والمسرحي كاتب ياسين الرد المباشر على أنصار الشيوعية والإشتراكية في الجزائر.. ولقد أعطت كتاباته حيوية لمجموعات من الطلبة والأساتذة كانت قريبة من تنظيم الإخوان المسلمين، لتباشر نشاطاتها في العلن ضد الحكم وكان مضمونها التنديد بسياسة الرئيس بومدين ومعاونيه من الإشتراكيين، والدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام بل وأطلقت هذه المجموعات المنضوية تحت زعامة أستاذ اللغة العربية بمدينة البليدة محفوظ نحناح على نفسها جماعة التوحيد، أو الموحدون، تيمنا بأنصار مذهب محمد بن عبد الوهاب وحلفائه الجدد من الإخوان القطبيين.. وفي منتصف السبعينيات وفرت أجواء موجة الصحوة ميلاد تنظيم جديد داخل الجامعة الجزائرية، أطلق على نفسه المجلس الشوري، ثم إسم “الجماعة الإسلامية"، والتي سيعرف عناصرها فيما بعد بتيار الجزأرة في بداية الثمانينيات عندما دب الشقاق داخل تيار الصحوة بين العناصر الموالية للتنظيم العالمي للإخوان والعناصر المحلية التي فضلت جانبها الإستقلالي عن التنظيم الدولي للإخوان.. كما أن شخصيات، مثل الشيخ أبو بكر الجزائري المعروف عليه ولاؤه الشديد لعلماء الوهابية والمؤسسة السياسية بالسعودية سوف تلعب دور المنسق بين الصحويين والوهابيين في كل من السعودية والجزائر... ومثلما تمكنت الحساسية القطبية من المنظومة التربوية والتعليمية في السعودية فلقد استطاعت أن تبسط سيطرة جلية على الفضاء التربوي والتعليمي، خاصة قبل توحيد التعليم، عندما كان لوزارة الشؤون الإسلامية تعليمها الخاص.. وسوف نلاحظ تداعيات السبعينيات وما مرت به الصحوة من تطورات وأزمات جلية على مجرى تطور الحركة الإسلامية في الجزائر أثناء الثمانينيات وكذلك خلال عقد التسعينيات.. ومن بين الوجوه التي قادت هذه الحساسية داخل تيار الصحوة، وكان لها تأثيرها في المشهد السعودي، برز الناشط سلمان بن فهد العودة، ولد بقرية البصر ضواحي مدينة بريدة بالسعودية في ديسمبر عام 1956 قضى ست سنوات بالمعهد العلمي بمدينة البريدة، وتتلمذ على عدة علماء من ممثلي التيار الوهابي مثل الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين وصالح البليهي وعبد الله بن جبرين، تحصل على شهادة عليا من كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم وأصبح مدرسا بالمعهد العلمي في بريدة، ثم أستاذا في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم، وبسبب آرائه السياسية أُعفي من التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود وكان ذلك في أكتوبر 1993.. ليحبس بعد هذا التاريخ في سجن الحائر بمدينة الرياض، ويذكر الإعلام السعودي تركي الدخيل أن ثقافة سلمان العودة تكونت أساسا من تعاليم علماء نجد “ودعوة محمد بن عبد الوهاب، كما قرأ في مرحلة مبكرة كتب سيد قطب، فهو يتحدث عنه قائلا (البعض يظنون أن سيد قطب رحمه الله أصدر أحكاما بالكفر والجاهلية على الأفراد والمجتمعات، وقد يكون في تراث الأستاذ سيد قطب رحمه الله كلمات فيها حرارة، وفيها شدة، ومن قبله يوجد هذا في تراث الشيخ محمد عبده وعدد من الناس.. ولعله تلقى هذا المعنى وقد لا يكون المقصود هو الحكم على الناس وأيا كان الأمر فإن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي ألا يتقمص شخصية القاضي وإنما يظل داعية إلى الله عز وجل"4، بالرغم من تأثر سلمان العودة بشكل كبير بقطب، فهو قد مثل كلا الحساسيتين داخل تيار الصحوة، الحساسية القطبية والحساسية السرورية... وإلى جانب سلمان العودة الذي سنعود إلى تطوره الفكري والسياسي ضمن المسارات التي عرفتها الصحوة والتجاذبات التي تقاذفتها في السعودية، يمكن ذكر ناشط آخر، هو سفر الحوالي، واسمه الكامل سفر بن عبد الرحمن الحوالي الغامدي، من مواليد حوالة 1955، تحصل على شهادة دكتوراه في العقيدة والأديان والمذاهب المعاصرة، تتلمذ على محمد قطب، وكان أحد المتأثرين به وبشقيقه سيد قطب، أصبح معروفا في الأوساط الدعوية والثقافية والسياسية لدى اتخاذه مواقف واضحة وشجاعة في حرب الخليج الثانية، يعده عدد كبير من المتابعين أحد أبرز وجوه الصحوة في السعودية، وأن أفكاره امتد تأثيرها خلال التسعينيات إلى خارج السعودية، ويلاحظ آخرون أن سفر الحوالي تراجع عن الكثير من أفكاره بعد خروجه من السجن إلى جانب سلمان العودة.. ومن بين أهم كتاباته التي منحته هذا الدور داخل تيار الصحوة، نذكر على سبيل المثال “يوم الغضب" و«ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي" و “رسالة من مكة، على أي شيء ندافع" ردا على رسالة المثقفين الأمريكيين المتعلقة بأحداث 11 سبتمبر والتي جاءت تحت عنوان “رسالة من أمريكا.. على أي شيء نقاتل؟". - الحساسية السرورية: وكان لهذه الحساسية درجة عالية في توجهات الصحوة، وكان تأثيرها أقرب من تأثير أفكار سيد قطب، لذا غالبا ما نجد أن الذين تأثروا بفكر سيد قطب، قد تأثروا ومزجوا بين أفكار سيد قطب والسوري محمد سرور بن زين العابدين، وهو من مواليد حوران عام 1938، كان ناشطا قريبا من الإخوان المسلمين لكنه سرعان ما أعلن انشقاقه وأصبح قريبا من جناح عصام العطار، فرّ من ملاحقة حزب البعث، وتوجه إلى السعودية، وكانت دعوته مزيجا ما بين السلفية ومنهج الإخوان، وهذا ما جعل أفكاره تجد صداها في أوساط طلبته، وأتباعه بالسعودية، وأصبح يطلق على توجهه بالإخوان السلفيين.. ثم انتشرت تسمية السرورية نسبة إلى أفكاره وتوجهاته ومنهاجه، إلا أن أنصاره المتحمسين له، وهو نفسه ظلوا يرفضون هذه التسمية، ويقولون أنها من اختراع خصومهم، يكون قد غادر السعودية في العام 1973 تحت ضغط غير مباشر لما راحت أفكاره تثير من حماسة وراديكالية عند الأتباع، غادر السعودية إلى الكويت، ثم قضى زمنا ببريطانيا، وهناك عمل على تطوير أفكاره، وهذا من خلال مركز الدراسات الذي أنشأه، وكذلك المجلة التي كان يديرها، وتحمل عنوان “السنة"، انتقل محمد سرور بن زين العابدين إلى عمان سنة 2005.. وكان معروف على محمد سرور بن زين العابدين تقديره للعالم والداعية الوهابي الشيخ محمد بن ابراهيم المتوفي في 1969 وكان يعتبره من حيث الشخصية والعلم والإستقلالية بالنسبة إلى السلطة السياسية أكثر قوة من وريثه عبد العزيز بن باز الذي قبل أن يتحول إلى مجرد موظف عند السلطة السعودية، وليس إلى عالم ناصح مستقل.. وتذهب مضاوي الرشيد في تعليقها على مواقف وأفكار محمد سرور، أنه كان يدافع عن استقلالية العلماء، ويرى أن هذه الإستقلالية تتحقق من خلال تأسيس ما يسميه “بجامعة علماء غير مرتبطة بالدولة وهذه الجامعة لابد أن تتمتع باستقلالية مادية وأن تتحكم في الهبات، لكن الدولة لا تريد ذلك لأنها ترغب في السيطرة على كل شيء.. يجب أن تختلف جامعة العلماء"، يقول محمد سرور، عن هيئة كبار العلماء.. ويرى محمد سرور أن مسألة الخروج على والي الأمر بالسيف، هي دعوة للفتنة وسبب خلاف بين المسلمين يقول “كنت ضد الحركات الجهادية التي حاربت الأنظمة العربية لأنها ولدت صراعا داخليا، لكن أيضا ضد إسلام يلائم الحاكم" ومن هنا كان عدم تأييده لما حدث في الجزائر أثناء التسعينيات يعود إلى هذا التصور المعتمد على عمله حول فقه السيرة، بحيث يرى أن سيرة الرسول (ص) يجب استثمارها كمنهاج وإضاءة لما حدث ويحدث للحركة الإسلامية وذلك من خلال تأويل حقيقي لمختلف التجارب والمراحل التي عاشتها الحركة الدعوية في حياة النبي، فهناك مرحلة الاستضعاف وهي المعروفة بالفترة المكية التي حرم فيها القتال، لذا يستنبط محمد سرور أن الجماعات الإسلامية التي باشرت القتال ضد الأنظمة هو مناف لروح السيرة ومناف لروح الدعوة التي تريد الوصول إلى بناء دولة إسلامية. والسلفية في نظر محمد سرور بن زين العابدين، حزبان أو تياران، تيار الولاة وتيار الغلاة ويعتبر نفسه وسيطا بين التيارين، وسيطا حرا. إن تيار (حزب) الولاة هو في نظر محمد سرور بن زين العابدين يدعم الحاكم دعما غير مشروط، وأعضاء هذا الحزب (التيار) فوضويون يصعب التحكم فيهم، إلا في حالة الإمتثال أمام الحاكم، لقد ظهر هذا التيار في أوج حرب الخليج عام 1990، وهو (يعمل جاهدا للتجسس على العلماء الأحرار ونقل أعمالهم للسلطات) زعيم حزب الولاة ربيع المدخلي الذي يحارب خصومه باتهامهم بالتبعية للسروريين والقطبيين، يدين حزب الولاة كل من تدينه الحكومة ويقصر السياسة والحق بها على الولاة، ويتهم مخالفوه تركيزهم على الحاكمية وإهمال العقيدة، وهذا ما يمكن أن يدخل الشقاق والصدام ضد الحكام (6). أما فيما يتعلق بحزب الغلاة، فيقسم محمد سرور بن زين العابدين هذا الحزب (التيار) إلى قسمين، الغلاة القدامى المعروفون تاريخيا بالخوارج، والغلاة العصريون، وهؤلاء في نظر زعيم السرورية نتاج القهر والقمع داخل سجون الأنظمة، ويشير في هذا المجال إلى الحالتين، المصرية والسورية اللتين تميزتا بالشدة والعنف الجسديين ضد الإسلاميين، وذلك ما أدى بهؤلاء الناشطين المقموعين والمهانين بحسب محمد سرور بن زين العابدين، إلى الغلو مطالبين بسفك دماء خصومهم برغم أنهم غير مؤهلين لإصدار الفتاوى ومع ذلك فقد احتكروا الحقيقة والتفسير، إن هؤلاء الغلاة يفتقرون إلى الخبرة وإن كانوا يتميزون بحفظ القرآن والأحاديث لكن دون القدرة على الفهم والتأويل ويشددون على استخدام العنف دون تمييز ويوجهون هجماتهم ضد العلماء الذين ينكرون أو لا يتفقون مع تأويلاتهم وتفسيراتهم (7).. وحول نظرته إلى الحكام وعلاقتهم بالعلماء، يرى زعيم السرورية أن (السلطان) سيء لأنه يستخدم رجال مخابراته ومصادره لجذب العلماء إلى وجهة نظره، ويسعى إلى إغرائهم بالمراكز والمواقع المهمة ويعدهم أنه سيعمل رفقتهم لتطبيق عملية الإصلاح التي يطالبونه بها إلا أنه سرعان ما ينكث وعوده بعد استجابة العلماء لطلبه، وهذا نوع من الخديعة والرشوة يستعملها السلطان مع العلماء الذين قد يعتادون مع الوقت “رؤية المعاصي، ويعيدون تحديد المحرم والمحلل، ويوجهون أصابع الإتهام إلى كل من لا يتفق معهم، ويسمون معارضيهم بالخوارج وأصحاب البدع والغلاة والإرهابيين" 8. ويشدد محمد سرور بن زين العابدين أنه رجل دين وليس رجل دولة، ومن هنا يرى ضرورة الإقتداء بالعلماء الذين أدوا فريضة مقاومة السلطة السياسية المنحرفة أمثال أبي حنيفة ومالك بن أنس وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل والإمام البخاري والإمام النووي والعزيز بن عبد السلام وابن تيمية وأن على رجل الدين الأخذ بالولاء للإيمان بدل الولاء للدولة (9).