شكلت تجربة الإخوان العصيبة، ليس فقط تحديا للنخبة السياسية والدينية الحاكمة، بل درسا ثمينا من حيث إعادة إنتاج المذهب وفق ميزان قوة جديد ليس فقط داخل الأراضي التقليدية التي كانت تحت السيطرة وإنما ضمن هذا الفضاء الجديد الذي بدأ يكشف عن ملامحه لتلعب في كل من السلطة السعودية والسلطة الدينية التي راحت تتحول إلى خادم فعال لتبرير مشروعية شريكها التي لا يمكن لنخبتها أن تكون لها تلك الهيمنة الرمزية والإمتياز الإجتماعي والمادي والثقافي دونها... وسوف نلاحظ خلال الستينيات عندما سيندلع الصراع على السلطة بين أبناء الملك عبد العزيز وزمرة كل من ولي العهد فيصل والملك سعود الذي سيضطر تحت الضغط لزمرة فيصل التي حاصرته بحرسها الوطني للتخلي عن السلطة كيف سيتحول الحلفاء التقليديين من النواة الدينية الحنبلية الوهابية إلى الانحياز بجانب الزمرة الغالبة منضوية تحت جناحها وهي تنخرط في دور المصيغ الديني للشرعية السياسية التي أملتها عن طريق القوة الزمرة الغالبة.. لقد انتقلت النواة الدينية من دور الفاعل والقائد خلال فترة المؤسس إلى دور المبرر والمضفي غطاء الشرعية الدينية على الشرعية السياسية.. وكان المنعرج لمثل هذا التوجه للشريكين المتحالفين انطلاقا من معركة السبلة التي ختم بها الملك عبد العزيز أول تحدٍ حقيقي لسلطته السياسية التي راحت تنتقل من الدائرة المحلية إلى الدائرة الإقليمية، وكان لهذا الإنتقال الذي استفاد من الإتفاقات التي عقدتها المملكة السعودية في طورها الثالث مع الدولة العثمانية التي فقدت رمزيتها بوصول مصطفى كمال أتاتورك إلى الحكم وإنهائه فترة الخلافة على الصعيدين السياسي والمالي، وكذلك مع البريطانيين الذين اعترفوا بالمملكة ونظامها الوراثي وحدودها الجديدة.. لكن أيضا استفاد من الطفرة النفطية التي عضدت من أركان النظام السياسي في المملكة ومنحته مصدرا ماديا مدعما لرأسماله الرمزي، المتمثل في لقب حاكمه كخادم الحرمين، واعتماد نظامه السياسي على مذهب ديني تطبق في ظله حدود الشريعة، وهذا ما فتح الباب أمام حكام المملكة لأن يكتشفوا أن لهم فرصة لم يكونوا ليحلموا بها من أجل لعب دور بارز وتاريخي وموحد في الساحة العربية والإسلامية، وذلك بفضل عاملين رئيسيين.. العامل الأول اختفاء الإمبراطورية العثمانية ومعها اختفاء رمزية الخلافة، ولقد ترتب عن هذا الاختفاء، ظهور لاعبين جدد، لهم وزنهم الديني والثقافي والسياسي والرمزي وجدوا في دعم السعودية بديلا عن الخلافة الضائعة، مفكرين مثل أحمد أمين، وإصلاحيون مثل محمد عبده وعبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، ثم أيضا شخصيات إسلامية لها ثقلها مثل أبي الأعلى المودودي وحسن الندوي، ومحمد رشيد رضا ومحمد قطب، وبرغم أن هؤلاء لهم اتجاهات فكرية ودينية مختلفة مع توجهات المذهب الحنبلي الوهابي، إلا أن الطبقة الدينية السياسية أبدت عن لينها وقدرتها العملية على الإنفتاح على مثل هذه الأسماء وتوجهاتها ضمن حلف ديني سياسي وثقافي، لمواجهة تحديات أخرى أكثر خطورة على الصعيد الثقافي والسياسي والإيديولوجي من خارج الحقل الديني الإيديولوجي مثل تيارات القومية العربية بأشكالها العلمانية وشبه العلمانية واليسارية خاصة الناصرية منها في ظل بزوغ القائد المصري جمال عبد الناصر الذي تحول في نظر الكثير من الشعوب العربية بل وحتى الإسلامية إلى بطل قومي ورمز معادٍ للأنماط التقليدية من الملكيات المتعاونة والتابعة للكولونياليات الجديدة وللإمبراطورية الأمريكية.. لقد أطاح عبد الناصر ورفاقه من الضباط الأحرار على الصعيد السياسي والرمزي بالنظام الملكي وراح يبني دولة رفعت شعار القومية العربية التحررية والإشتراكية، واعتبر الدولة التقليدية القائمة على الإيديولوجيات الدينية السلفية حجر عثرة أمام التحرر العربي من الهيمنة الغربية، وهذا ما جعل السلطة السياسية في السعودية تسعى من جديد إلى تبني استراتيجية تقوم على التحالف التكتيكي مع خصوم القومية العربية من التيارات الإسلامية التي كانت بالأمس القريب تكفرها، فعملت على استقطاب الإخوان المسلمين المعارضين للقومية وشجعت إسلاميين وكوادر إسلامية من غير المنتمين إلى المذهب الحنبلي الوهابي ليكونوا على رأس مؤسسات دينية في السعودية تم فتح أبوابها لتكون قوة استقطاب وتأثير، مثل معهد الدراسات الشرعية في الطائف المستقل عن المذهب الوهابي، والملحق مباشرة بالديوان الملكي، بحيث أسندت إدارته إلى محمد بهجت البيطار، وعرف هذا المعهد بدار التوحيد.. وترافق هذا اللين الذي أبدته المؤسسة السياسية السعودية مع تقديم التنازلات ولو على حساب تشدد رجال المؤسسة الدينية، فيما يتعلق بالإحتفال بعيد العرش الذي كان ينظر إليه على أنه بدعة، وكذلك إدخال تعديلات في مجال التعليم، خاصة ما تعلق بالمواد التي كانت في نظر العلماء الرسميين تشكل خطرا على عقيدة الأطفال، مثل مادة الرسم، “لاعتقادهم بحرمة تصوير كل ذي روح واللغات الأجنبية باعتبارها حاملة لأفكار الكفر والضلال، ومادة الجغرافيا لعدم اعتقادهم بكروية الأرض ودورانها حول الشمس وقبول الغربيين على الأراضي السعودية الذين كان ينظر إليهم كخطر على العقيدة والأخلاق.."، ولقد حاول عبد العزيز بن باز أن يبدي إعتراضه على ما رآه تنازلات من طرف السلطة السياسية إلا أنه تعرض للتهديد من طرف هذه الأخيرة وذلك ما جعله في نهاية المطاف يميل إلى استراتيجية الواقعية والتكيف بحكم التوجهات الجديدة لميزان القوة، نفس هذه الشخصية هي التي أفتت في التسعينيات عندما احتل العراق الكويت بجواز تواجد القوات الأمريكية على الأراضي السعودية.. كما كان عبد العزيز بن باز الذي سيصبح الرجل المؤثر داخل المشهد الديني الذي راح يزداد انفتاحا بالمقارنة إلى أسلافه من الأوائل الدينيين، الذي دخل المعركة الإيديولوجية ضد القومية وذلك من خلال رسالة طويلة، أمضاها عام 1961، تحت عنوان “القومية العربية في ضوء الإسلام والواقع" تم توزيعها داخل السعودية، وأيضا في عدد من الدول العربية مثل دمشق ومصر وطبعت منها آلاف النسخ.. يقول فيها إن الإسلام وقيمه لا يفرق “بين عربي وعجمي، ولا بين أحمر وأسود، ولا بين غني وفقير، ولا بين شرقي وغربي، بل هم في ذلك إخوان متحابون في الله، ومتعاونون على البر والتقوى"، ويرى بأن القومية تجعل من أتباعها لا يدافعون عن الإسلام ولا يدعون الناس إلى احترام مبادئه وتطبيقها، بل يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، وكذلك يدعون القوى غير المسلمة لدعمهم عسكريا وذلك ما يتعارض مع مبدأ الولاء والبراء، “.. فلو كان في اتخاذ الكفار أولياء من العرب أوغيرهم والإستعانة بهم مصلحة راجحة، لأذن الله فيه وأباحه لعباده، ولكن لما علم الله ما في ذلك من المفسدة الكبرى والعواقب الوخيمة، نهى عنه وذم من يفعله"، واعتبر عبد العزيز بن باز أن القومية هي مؤامرة على الإسلام والمسلمين ولم يكن خطابه من خلال الرسالة في هجومه على القومية موجها فقط إلى الأنصار من جماعة الوهابية بل كان خطابه إلى كافة المسلمين، من مذاهب شتى، وكان مثل هذا التوجه ينسجم مع توجهات السلطة السياسية الممثلة في عائلة آل سعود الحاكمة التي عبر عنها الملك عبد العزيز عندما استضاف عددا كبيرا من النخب الإسلامية إلى مؤتمر مكة عام 1962، “لمناقشة مسألة الخلافة ووضعية الحرمين بحضور ممثلي 26 دولة إسلامية ينتمون إلى عدة مذاهب إسلامية". وضمن هذه الإستراتيجية التي تبنتها المؤسسة السياسية والدينية في السعودية في صراعها مع مصر الناصرية، قامت الطبقة الحاكمة السعودية مدعومة برجال دينها الرسميين بتأسيس رابطة العالم الإسلامي عام 1962، بحيث كان أعضاء مجلسها التأسيسي 27 يشلون معظم الحساسيات الإعتقادية والصوفية في العالم الإسلامي، ومن بين هؤلاء يمكن ذكر أبو الأعلى المودودي من باكستان، علال الفاسي من المغرب، عبد العزيز بن باز من السعودية، أمين الحسيني من فلسطين، أبو الحسن الندوي من الهند والبشير الإبراهيمي من الجزائر.. لكن هذا الانفتاح لم يجعل النخبة الدينية الوهابية تنسى استغلال كل فرصة لصالحها للتوسيع من أجل نشر إيديولوجيتها معتمدة في ذلك على الآلة البيروقراطية وما توفره من تسهيلات ومال، وهذا ما حدث لما انهارت القومية على إثر الهزيمة التي ألحقتها إسرائيل عام 1967، بالقوات العسكرية المصرية، فسارع القيمون على المذهب الحنبلي الوهابي بنشره في إفريقيا وآسيا، وذلك من خلال استغلال منظمة رابطة العالم الإسلامي في بعث الدعاة وبناء المساجد والمراكز الثقافية الدينية وتوزيع المنشورات والكتب الدعائية وإنشاء المرافق التعليمية الرسمية وغير الرسمية وتقديم المساعدات المالية والغذائية، كما قام العاهل السعودي بإنشاء جامعة إسلامية بالمدينةالمنورة، هدفها الرئيسي استقطاب العلماء والطلاب من مذاهب أخرى، وفي رسالة وجهها الملك في عام 1962 إلى وفود الحجاج المسلمين في مكة قال معبرا عن هذا التوجه الذي ستتبناه السعودية بشكل واضح وصريح “لقد رأيت من واجبي أن أخدم هذين الحرمين الشريفين وأنا أبدأ بالعمل في نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة، فأمرت بإنشاء جامعة إسلامية في المدينةالمنورة التي هي مأوى الرسول (ص) وهيأت لها من الأسباب والوسائل ما يكفل لها أداء الرسالة السامية المرجوة منها، فاستقدمت عددا من علماء المسلمين من بعض الأقطار الإسلامية، وضعوا لذلك برامج نظم ومناهج، وستضم هذه الجامعة طلابا من سائر أنحاء العالم، وسأحرص على أن يكون فيها عدد غير قليل من إخواننا الإفريقيين والآسيويين الذين يتشوقون إلى معرفة الإسلام في منبعه، وكذلك ستحوي طلابا من أقاصي البلاد حتى إذا أكملوا دروسهم وتفقهوا في الدين رجعوا إلى قومهم ليبثوا الدعوة إلى الدين القويم، وهذا عمل يحتاج إلى أمد طويل حتى يؤتي أكله، ولكنه الطريق السوي لبث الدعوة وتوصيلها إلى أقصى المعمورة عن طريق هذه الجامعة والمنتسبين إليها"، إن هذه الرغبة في التوسع والإحتواء التي تأججت شعلتها لدى النخبة السياسية من توطيد وجودها على الصعيد الإقليمي جعلتها تلقي بكل ثقلها على الدفع بحليفتها النخبة الدينية للإندراج في هذه العملية حتى وإن أدى بها ذلك إلى السماح لمنافسيها الدينيين من المذاهب الأخرى مشاركتها والاقتسام معها رأسمالها الرمزي، وهذا ما جعل النخبة الدينية باسم المصلحة العامة والمصلحة السياسية للطبقة الحاكمة أن تحني رأسها للإرادة السياسية دون التعبير بشكل واضح عن قلقها ومعارضتها ولو إلى حين.. ويعتبر كلا من محمد بن ابراهيم وعبد العزيز بن باز أهم ممثلي هذه النخبة، بحيث كانا الأقرب إلى السلطة السياسية للعبور نحو هذا التوجه، وذلك لما كانا يتميزان به بالمقارنة مع المتشددين الآخرين من واقعية ومرونة وحرصا على ألا يتفكك خيط العقد التاريخي بين المؤسستين، ولذا كان محمد بن ابراهيم وراء تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينةالمنورة التي لم تكن مع ذلك تأوي سوى 25٪ من الطلبة السعوديين من ذوي المذهب الحنبلي الوهابي، وبرغم الميل الذي أبداه عبر تنازله التكتيكي فلقد أدرك الشيخ أن المذهب الذي سهر على نضارة تشدده بدأ بالنحول والتراجع أمام من جلبتهم السلطة السياسية لظروف أملتها موازين القوة المستحدثة على الصعيد السياسي، وبعد وفاة الشيخ سار على خطاه، الشيخ عبد العزيز بن باز الذي ذهب إلى حد إصدار فتوى عام 1993 تضفي الشرعية على إقامة السلام مع إسرائيل. هل يعني ذلك أن النخبة الدينية التقليدية فقدت استقلاليتها التي حافظت عليها لعقود أمام المؤسسة السياسية؟! تعلق الباحثة مضاوي الرشيد بأن العلماء الوهابيين الرسميين قد أضاعوا وساطتهم ذات الطابع المستقل بين الحكومة والمحكومين أمام تعاظم واتساع رقعة نفوذ التيكنوقراطيين الذين جلبوا الخبرة عبر تعلمهم في الخارج، بحيث أصبحوا أكثر سيطرة وهيمنة على مفاصل الدولة، وهذا ما جعل العلماء الرسميين مجرد مظلة شرعية لما يقدم عليه السياسي.. وفي نظرنا ليس التكنوقراطيون هم فقط ممن راحوا ينافسون النخبة الدينية الرسمية التي أضفت نوعا صارما من تقسيم المهام والأدوار بينها وبين السلطة السياسية، وذلك في فترة المنتصف الثاني من القرن العشرين ليمتد ذلك إلى نهاية القرن وبداية القرن الواحد والعشرين، فلقد دخل منافسون جدد ولاعبون سيوظفون هم الآخرون تأويلهم الخاص للدين من زوايا ثقافية مغايرة واستراتيجيات مختلفة كورقة في معترك التنافس بينها وبين النخبة الدينية الرسمية ذات المسار الطويل والتجذر داخل المشهد السياسي الديني السعودي.