السعوديون اكتشفوا أن العلماء الرسميين المحليين الذين لعبوا دورا تاريخيا في تطويع المجتمع السعودي لصالح النخبة السياسية الحاكمة أصبحوا غير قادرين على لعب دور جديد ضمن السياقات الحديثة والتحديات الكبرى التي أصبحت تواجههم.. ومن هنا فكر حكام السعودية ليس فقط في الاعتماد على نخبة دينية بقدرتها إعادة صياغة جديدة للمشهد وحسب، بل نخبة قادرة على إعطاء نفس جديد للجانب الكلاسيكي من المشهد السياسي الديني في السعودية ثم تجديده من خلال خبراتها المكتسبة.. ومن اللحظات الأولى لتدشين هذه المرحلة الجديدة وضعت الحكومة السعودية خطة شاملة تضمنت إصلاح التعليم والمنظومة التربوية وإعادة هيكلتهما على أسس حديثة وخلق منابر جديدة مثل وسائل الإعلام والنشر لإعادة بناء الخطاب الديني الجديد المتماشي والحقبة الجديدة من عمر الدولة والسلطة السعوديتين، فاندرج إنشاء جامعة الرياض التي أخذت فيما بعد اسم الملك سعود وأصبحت عبارة عن جهاز جديد ضمن المنظومة الشاملة في عملية إعادة إنتاج المعرفة المطلوبة وفي الوقت ذاته أداة لصناعة انتجلنسيا دينية جديدة، لتتدعم بجامعة أخرى عام 1967 وجامعة جدة وملحقتها بمكة، لتتحول هذه الملحقة بدورها إلى جامعة أم القرى عام 1981 وكذلك انضافت إليهما جامعة الإمام محمد بن سعود أسست في العام 1974، وبالإضافة إلى هذه البنية التحتية للتعليم أوكلت مهمة تخطيط البرامج، وكذلك الإشراف على معظم كليات هذه الجامعات الناشئة وأقسامها المتخصصة إلى كوادر الإخوان المسلمين القادمين بشكل خاص من مصر.. وأيضا من سوريا والعراق، فمثلا أصبح مانع القطان على رأس قسم الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود ومحمد الراوي مشرفا على قسم التفسير، في حين قام أساتذة مثل محمد عبد الوهاب فايد وعلي جريشة ومحمد المجدوب باستثمار الجامعة الإسلامية بالمدينة، وأصبح الإخواني السوري محمد المبارك صاحب كتاب “الفكر الإسلامي والغرب" على رأس كلية الشريعة بجامعة جدة التي فتحت أبوابها لمحمد قطب وعلي الطنطاوي ومحمد حب الناقة كأساتذة ولسيد سابق ومحمد الغزالي، الأول كمشرف على قسم الدراسات العليا، والثاني كمشرف على قسم الدعوة وأصول الدين.. وسيلعب الإخواني السوري محمد المبارك الذي أوكلت إليه مهمة وضع البرنامج الدراسي والتربوي لكل من كليتي التربية والشريعة بجامعة مكة دورا مفصليا لتشكيل اللبنة الإساسية لفكر وايديولوجيا الصحوة التي تدعمت بمادة مستحدثة أطلق عليها، عنوان مادة “الثقافة الإسلامية" وبحسب الباحث الفرنسي فإن مادة الثقافة الإسلامية هي التي كانت بمثابة المفتاح على عالم الإسلام السياسي بالنسبة لشاب كان يدرس بكلية الإقتصاد، والذي سيعرف فيما بعد، بزعيم القاعدة أسامة بن لادن.. وفي ظل هذا المناخ من التشجيع والرعاية من المؤسسة السياسية، انخرط الإخوان في وضع الأسس المادية لما كانوا يطلقون عليه بعملية أسلمة العلوم الإجتماعية والإنسانية بل وحتى العلوم الإعلامية وكان المنطلق هو جامعة الملك عبد العزيز بجدة فصاغوا دروسا للطلبة السعوديين اليافعين المتعطشين إلى المعرفة والخطاب الجديدين تحت عناوين شتى مثل الإقتصاد الإسلامي وعلم النفس الإسلامي وعلم الإجتماع الإسلامي لتتسع الرقعة إلى كليات وجامعات أخرى مثل جامعة الإمام محمد بن سعود.. لكن هذا المد والزحف داخل المؤسسة التعليمية كان له بعض المقاومة المعلنة حينا، والمستترة حينا آخر من قبل العلماء الرسميين الذين راحوا يشعرون أن زلزالا قيد الحدوث تحت أرجلهم وهذا ما جعلهم يتمترسون خلف قلاعهم التقليدية حول دفاعهم المستميت عن تدريس مادة العقيدة التي كانت هيمنتهم المطلقة فلم يسمحوا بتدريسها لمن كانوا يطلقون عليهم صفة “الأجانب" مستثنين في ذلك فقط العناصر المنتمية إلى جماعة أنصار السنة التي كانت موالية لمذهبهم الحنبلي الوهابي... وأمام تلك الفورة الإخوانية بدأت المؤسسة الدينية تشعر ببعض التململ من هذه الهجمة غير المنتظرة على قلاعها العقدية ومجال نفوذها على المجتمع، فالشبان المتمدرسون من الجيل الجديد راحوا يتحررون من قبضتهم ويغيرون من نظرتهم إلى السلطة الدينية التي فتحوا أعينهم وآباؤهم عليها ومثل هذا التململ الممزوج بالنقد الأقرب إلى العتاب إلى هؤلاء “الأجانب" لكن أيضا إلى السلطة السياسية التي أطلقت أيديهم ومنحتهم أكثر مما يجب أن تمنح لهم من سطوة ونفوذ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ الذي رفض الهيمنة المتعاظمة للإخوان على مجال التعليم من خلال محاولات توحيده، لكن هذا التململ سرعان ما انذوى بعد وفاة الشيخ الوهابي ليواصل الإخوان تحت رعاية المؤسسة السياسية مشروعهم، فانتقلوا من دائرة التعليم إلى المحيط العام للمنظومة التربوية فأنشأوا تقليدا جديدا لم يكن الوهابيون يعرفونه من قبل، وهو المجال الإجتماعي المكمل لمجال التعليم.. فالمجال أو الفضاء الإجتماعي بكل ما يحمله من دلالات ورأسمال رمزي كان يشكل حجر الزاوية بالنسبة للإخوان على مستوى نقل الإيديولوجيا من مستواها النظري والفكري إلى المجال المادي الواقعي.. فاستحدثوا أدوات وهياكل جديدة، لترجمة الخطاب إلى لغة وواقع ملموسين فأنشأوا ما سمي بلجان التوعية الإسلامية على مستوى عدة مؤسسات تربوية داخل مختلف مدن ومناطق المملكة وأدى ذلك بدوره إلى تشكيل اللجنة العليا للتوعية الإسلامية، ومن مهامها الإشراف العام والتنسيق لمختلف النشاطات الإجتماعية للجان، وكان يشرف على اللجنة العليا الإخواني السعودي حمد السليفي وقام هذا الأخير بدوره بتأسيس الندوة العالمية للشباب الإسلامي.. وإلى جانب اللجان باشر الإخوان بتأسيس ما أطلقوا عليه بحلقات تحفيظ القرآن، والجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن وامتد تواجد هذه الهياكل على طول وعرض التراب السعودي وكان المنخرطون في مثل هذه النشاطات من الشباب يعدون بالآلاف ونتج عن هذا المناخ انتقال الإخوان إلى مرحلة جديدة من إعادة الأسلمة وهي أسلمة النشاط الطلابي وذلك من خلال إقامة المخيمات الإسلامية التي لها جدول أعمال في إعادة التكوين وغرس مبادئ الإيديولوجيا الإخوانية الممثلة في أدبيات فقهية وسياسية، لمنظرين مثل سيد سابق، وسيد قطب وعبد القادر عودة وطبعا رسائل وكتابات المعلم المؤسس حسن البنا.. ولم تقتصر هذه المخيمات التي كانت بمثابة مراكز حقيقية لإعادة إنتاج إنسان جديد وفق مدونتها الفكرية والعقدية على عطل نهاية الأسبوع، بل امتدت إلى العطل الصيفية.. كان الإخوان من خلال تجربتهم الجديدة يعملون ليس فقط على إعداد أنصار جدد، وأتباع جدد، بل كانوا يضعون الأسس الحقيقية لمشروعهم الشامل الذي لم تمكنهم مصر الناصرية من وضعه كمرحلة أولى في تأطير المجتمع للوصول به بعد ذلك إلى رأس الدولة، وهو الإستيلاء على السلطة كنتيجة منطقية وتاريخية لهذا المسار.. لكن هل كان الإخوان يسعون بالفعل الوصول إلى السلطة في المملكة العربية السعودية وهي التي منحتهم اللجوء في أسوأ الفترات التي كانوا يعيشونها؟!. طبعا، يقول البعض لم يكن الإخوان يفكرون كجماعة أو كحزب للوصول إلى الحكم، لكنهم كانوا يعملون على إنتاج جيل جديد من السعوديين يكون بديلا للعلماء الرسميين على صعيد فرض الحراسة على سلوك الحاكم وعلى توجهات المجتمع في الوقت نفسه.. ومثلما أسلفنا فإن مثل هذه الديناميكية المدعمة من السلطة السياسية أفرزت صراعات وتناقضات ضمن السياق العام لميلاد ظاهرة الصحوة والصحويين. من هم، إذن، هؤلاء الصحويون؟! يقول الداعية عائض القرني صاحب الكتاب الشهير “لا تحزن" وهو في الوقت ذاته أحد ممثليها “الصحوة هي تجديد الدين مع الإبقاء على أصالته، أي أننا نعود إلى الدين من أجل التعامل مع القضايا المعاصرة والجديدة التي تسيطر على المدنية والمجتمع.. الصحوة تعني العودة إلى الجذور بعد فترة اغتراب طويلة ووجود كامن". هناك فكرتان رئيسيتان في تعريف عائض القرني للصحوة، الفكرة الأولى تتعلق بالتجديد للدين من حيث تأويله في مقاربة القضايا الإجتماعية الجديدة والمستحدثة التي لم تعرفها المجتمعات الإسلامية السابقة ولا المسلمون في الفترات المبكرة للإسلام.. وهذه القضايا قد لا نجد لها في المتن الإسلامي إجابات وهذا ما يفرض على المسلم الحديث والمعاصر أن يجتهد في إيجاد إجابات تتلاءم وعقديته على ضوء الإجتهاد، أي القراءة الخلاقة للنص المؤسس وهو القرآن، ولسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وهذا في الحقيقة يمثل الإتجاه المعاكس والمناقض للوهابية والسلفية باعتبارهما تفسيرا حرفيا للقرآن والسنة.. وهنا يصب عائض القرني في إيديولوجيا الإخوان الذين هم في نظر العلماء الرسميين أقرب منهم إلى المفكرين من علماء الدين.. وفي نظر سلمان العودة، وهو من أبرز وجوه هذه الحركة، فإن الصحوة هي عبارة عن حركة تقوم أساسا “على إنكار المنكر بشكل علني، كما أنها تعتبر إنكار المنكر ليس فقط من شأن الدولة وعلمائها الرسميين، بل هو قضية الجميع". نسجل هنا ملاحظتين من خلال تعريف سلمان العودة للصحوة، إنه يتموقع خارج الفهم الوهابي لتغيير المنكر، فالمنكر هو ليس خاصا بالسلطة ومؤسساتها ورجالها الدينيين بل يتجاوزها لأن يصبح مسألة تهم الأفراد والمجموعات الناشطة داخل المجتمع.. إنه يعبر عن معارضته لاحتكار السلطة ونخبتها الدينية في مكافحة الإعوجاج والفساد ليوسع مسألة النقد والإعتراض للسلطة المضادة التي قد يمثلها العلماء والدعاة المستقلون عن السلطة السياسية، أو ممثلو قوى إجتماعية أخرى داخل المجتمع لا تتوافق وتوجهات السلطة وحلفائها.. وهو بهذا التغيير يسعى إلى إحداث قطيعة في مسألة التعاطي مع التغير التي حصرها العلماء الوهابيون والسلطة السعودية نفسها بين أيدي أولياء الأمر.. وتسعى مضاوي الرشيد إلى اقتراح مجموعة من التعريفات عن الصحوة والصحويين، فهي تصفهم مرة بالمجموعة غير الثابتة والمرنة ضمن جماعة المؤمنين، ومرة ترى أن حركة الصحوة لا يمكن النظر إليها باعتبارها ظاهرة إلا ضمن الإطار السعودي كحركة تناضل لتعيد أسلمة الشؤون السياسية 1 وناشطوها لا يؤدون شعائرهم الدينية بحكم العادة وحسب بل “كثيرا ما يبدون وعيا لارتباطهم لا بتلك الشعائر فحسب بل بالشأن العام كذلك"2، كما ترى مضاوي الرشيد أن دائرة الناشطين الصحويين هي دائرة مفتوحة وغير تقليدية باعتبارها تضم “علماء دين مدربين رسميا ممن يعدون أعضاء في فئة العلماء، إضافة إلى الرجال العاديين، وبعض الصحويين من العلماء والأطباء والمهندسين والكيميائيين والكتاب والصحافيين، لكن يحتمل أن تكون دراسة الدين جزءا من تعليمهم، لذلك فهم يتمتعون جميعا بدرجة معينة من المعرفة الدينية تمكنهم من تكوين بعض الآراء الخاصة بالنصوص الدينية، وهذا ما يدرجهم في الفئة التي تعرف بالمفكرين الإسلاميين الذين يكونون فئة بين العلماء التقليديين والعلمانيين، لكنهم لا يعدون شيوخا يصدرون الفتاوى وإن كانوا يعرفهون الحديث معرفة تكيفهم لتناول نصوصه وتفسيرها عند الضرورة" 3 وهم بذلك كله يدركون عكس التقليديين كما ترى مضاوي الرشيد دلالة تعددية التفسيرات والمعاني التي يمكن إضفاؤها على النص الديني..