بالمعنى الذي تسيغه مضاوي الرشيد عبر مجموعاتها التعريفية للصحويين، فإن الصحوة في جوهرها هي عبارة عن نشاط سياسي يتخذ سيره تحت أضواء التفسير الديني خاصة عندما يعمل الصحويون على استخدام لغة الماضي قصد التحكم في الوقت ذاته في الحاضر والمستقبل وذلك بالإعتماد على التقنية الحديثة. إن هذه الولادة التاريخية لجيل الصحوة الأول على الأراضي السعودية تكشف عن حركة انتقال قلقة ومعقدة من التصور الإخواني للدين وممارسته وذلك عبر لقاءاته الجديدة مع موروث قائم ونافذ ويتمتع بالحظوة والسلطة المهيمنتين على مجتمع قيد التحول من حالة التقليد والانغلاق إلى حالة الإنفتاح على ذاته الجديدة المتنامية، ذات مركزية سياسية دينية على تخومها ذوات أخرى، مهمشة وصامتة بحكم الإنكماش الذي فرض عليها بالقوة خلال القرنين السابقين اللذين كان مسرحا لبناء الإمارة والسلطة السعوديتين عن طريق القوة المسلحة المتحالفة مع تيار الوهابية التوسعية عن طريق القوة والردع وفرض الإذعان.. كما أن هذه الولادة التاريخية لجيل الصحوة أملاها أيضا المشروع السياسي الجديد لجيل جديد من الحكام، مثله بامتياز الملك عبد العزيز والملك فيصل لأسباب موضوعية، ومن هنا فإن هذا الجيل الأول وما سيليه من أجيال سيجعل من الصحوة الطاقة المرتبكة والقلقة التي ستنطوي على المراجعة وإعادة النظر في السلطة الرمزية للوهابية وإرثها الديني والثقافي لكن أيضا للسلطة السياسية الممثلة في الطبقة الحاكمة من أسرة آل سعود.. فلقت هذه الولادة باعتبارها حركة تاريخية جديدة مرحلة أكثر تعقيدا يمكن أن نطلق عليها مرحلة ما بعد الوهابية.. وهي مرحلة لا نعرف كم ستستغرق من وقت ومن أجيال لتحقق اكتمالها وتنجز ملامحها وخصوصيتها... وكانت النتيجة الأولى لتشكل مرحلة ما بعد الوهابية، هو الاختفاء شبه الكلي لمصطلح الوهابية والوهابيين من المدونة الرسمية السعودية بحيث تم استبدال الوهابية بمصطلح عام ومطاط وشمولي، وهو مصطلح السلفية، وهذا اللجوء إلى التوظيف الجديد لمصطلح السلفية لا يعود فقط للمعنى القدحي للوهابية الذي سبق وأن استعمله الأجانب والخصوم، بل يعود إلى محاولة تخلص الطبقة الحاكمة الممثلة في آل سعود من كل منافس على مستوى التسمية فيما يتعلق بهوية النظام القائم والدولة التي انتقلت من الإمارة إلى حقبة الدولة.. سعى الصحويون منذ اللحظة الأولى إلى تأسيس هوية خاصة بهم حاولت التموقع خارج النهج التقليدي للوهابية في تأويلها للدين وفي نظرتها إلى الماضي، ماضي السلف الصالح.. فالعودة للدين في نظر الصحويين لا تنحصر فقط عند الفهم الحرفي لمسألة التوحيد والذي يعني عند أسلافهم الوهابيين، تطهير العقيدة من الشرك، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة بناء الدولة على أسس جديدة أخرى.. وذلك ما يعني عندهم تأسيس الدولة الإسلامية الحقة من خلال التطبيق الشامل للشريعة المنطوية على رفع “الحظر عن مجال السياسات الخارجية والعلاقة مع العالم.. ودور السعودية الخارجي" وإخراج كل ذلك من الدور الحصري للطبقة السياسية الحاكمة، وكذلك إعادة النظر بصورة جذرية لتلك النظرة الرسمية التي عملت على فصل الدين عن السياسة عبر إعادة إدماج السياسي بالديني... وبعبارة أخرى فإن الصحويين أرادوا تجريد السلطة السياسية من احتكارها للسياسة الذي يجعل العلماء مجرد أدوات لها في تنفيذ سياساتها مما يجعلها تنفرد بدائرة صناعة القرار السياسي وما يتلو ذلك من صناعة للقرارات الأخرى.. وفي لحظة النشوء هذه، انقسمت الصحوة إلى تيارين أساسيين، تيار معتدل يرى وجوده مستمدا من شرعية النظام القائم، وهو بذلك يقبل بالطبقة الحاكمة وأسرها كأولياء للأمر، فهو يرفض الطعن في شرعية آل سعود السياسية باعتبارهم مؤسسي الدولة والممثلين الرمزيين للجماعة الدينية والوطنية.. لذا، فهو لا يعتمد سياسة الخروج على الحاكم والإنقلاب عليه فهذا يمثل دعوة للفتنة والفوضى وسبيلا إلى تقويض الدولة والنظام الشرعي وأمة الإيمان.. وعلى هذا الأساس فإن فكر هذا التيار يعتمد على أسلوب المطالبة السلمية للسلطة للإستجابة إلى مطالب الإصلاح.. أي أن هذا التيار المعتدل يسعى إلى إصلاح الدولة والنظام من الداخل عبر توسيع رقعة المشاركة في عملية صناعة واتخاذ القرار... أما التيار الثاني، فهو تيار متشدد، راديكالي يرفض جملة وتفصيلا الأسس التي يقوم عليها النظام، ويطعن في شرعية العائلة الحاكمة، والمتعاونين معها.. لكنه مع ذلك فهو يحصر مقاومته في الطرق السلمية لكن إن تعذر ذلك فهو لا يرى من حل، إلا عن طريق العنف المسلح، وهذا ما سيظهر جليا لدى فصيل من الصحويين الذين سيلجأون إلى العنف المسلح والإرهاب في فترة التسعينيات، بحيث يسميهم البعض، بالسلفيين الجهاديين.. وتسميهم السلطة السعودية بفئة الضالين.. وبغض النظر عن هذا التقسيم العام الذي اقترحه أكثر من مراقب، فإن الصحوة برغم تميزها عن الخطاب الوهابي التقليدي في نقطة أساسية رئيسية تتعلق بإعطائها الأهمية البالغة للتدخل في الشأن العام وتفكيك الاحتكار للمجالين، السياسي والإجتماعي الديني، فإن الصحوة انطوت منذ نشأتها كتيار فكري ومطلب إصلاحي يدعو إلى التغيير على ست حساسيات.. ويمكن تلخيصها فيما يلي: 1 الحساسية البناوية: وترجع هذه الحساسية إلى التلاميذ الأوفياء من الإخوان لأطروحة حسن البنا التي صاغها في بداية دعوته من أجل إقامة الدولة الإسلامية من خلال اعتماد أسلوب المناصحة بمراسلة الملوك والأمراء والرؤساء الذين لا يجب في كل الأحوال الخروج عليهم، ولقد ساعد هذا النهج جماعة الإخوان المسلمين لأن تتسع رقعتها داخل مصر في عهد الملك فاروق، ففتحت لها أبواب النشاط الإجتماعي والثقافي والديني وقامت بإنشاء عدة نوادي وجمعيات خيرية بمساعدة الدولة، وأصبح لديها منشوراتها وجرائدها وشبكاتها التي مكنتها من إيصال خطابها الدعوي الذي منح في الوقت ذاته صدقية وشرعية للحكام الذين كانوا يولونها بالرعاية.. وتجنبت كل مواجهة واصطدام مع الحكومة أو الملك، وهذا ما مكنها من أن تتحول إلى قوة حقيقية منافسة للقوى السياسية الأخرى حتى وصفها البعض، أي جماعة الإخوة المسلمين، أنها “دولة داخل دولة" وكانت استراتيجيتها على صعيد الخطاب تقوم على إعادة الأسلمة للأفراد والجماعات وبالتالي على إعادة صياغة المجتمع على مستوى بناه الفكرية والأخلاقية والسلوكية بشكل سلمي ومتدرج، ولم يكن يعنيها، على الأقل على مستوى الخطاب المعلن الوصول أو الإستيلاء على السلطة.. ولم يطرأ أي شيء جديد على هذه الإستراتيجية إلا بعد أن قام أفراد من تنظيمها الخاص المسلح باغتيال النقراشي رئيس حكومة الملك فاروق عام 1948. وهذا ما جلب السخط على تنظيم الإخوان وأفقده تلك الهالة التي كان يتمتع بها في أعين الأنصار والمتعاطفين والمحبين.. وبرغم أن الشيخ المؤسس حسن البنا تبرأ ممن أقدموا على عملية الاغتيال، واصفا إياهم “ليسوا بإخوان، وليسوا بمسلمين" فإنه دفع حياته ثمنا لهذا التوجه الراديكالي لمجموعة من تنظيمه، بحيث تعرض لعملية اغتيال عام 1949.. وعندما تعرض الإخوان لمحنة قاتمة أدت بهم إلى المعتقلات والسجون والمحتشدات والمنافي وفي وقت الصراع مع جمال عبد الناصر خلال الخمسينيات والستينيات تبلور هذا التيار البناوي لتكون دعوته سلمية ومتجنبة كل اصطدام مع السلطة، ومثّل هذا الإتجاه القاضي حسن الهضيبي الذي ألّف كتابا عن التيار المتشدد داخل التنظيم أسماه “دعاة لا قضاة" مركزا على الجانب السلمي للدعوة.. ويكون الإخوان الذين اكتووا بنار الاضطهاد قد استوعبوا الدرس، ورأوا في مصلحتهم مهادنة الأنظمة على المستوى السياسي، والتوجه إلى المجتمع والأجيال الجديدة من خلال بناء استراتيجية جديدة تقوم على التربية والدعوة السلمية والتعاون مع الأنظمة الحاكمة لإنقاذ مشروعهم من الموت والإنقراض.. ولقد وضع ممثلو هذا التيار كل ثقلهم عندما استقدمتهم السعودية في الخمسينيات والستينيات لأن يجعلوا من استراتيجيتهم الجديدة العمود الفقري لدعوتهم، وهذا ما تلقفه وأوصى به في نفس الوقت حكام السعودية الذين كانوا بحاجة إلى الإخوان في معركتهم الجديدة ضد القومية وحلفائها من جهة، ومن جهة ثانية بحاجة إلى إعادة صياغة الإيديولوجيا الدينية التي احتكرها حلفاءهم السابقين من علماء الوهابية الذين لم يتمكنوا من تجاوز نزعتهم التقليدية والبدائية في ظل عالم متحول.. وكانت الحساسية البناوية تركز في خطابها على مواجهة تأثيرات الغزو الثقافي، والأثار السلبية للتبشير وعلى إعادة الأخلقة المانحة شرعية وصدقية لأولي الأمر باعتبارهم حراس الدين والعقيدة والمصلحة العامة، وسعى أفراد هذه الحساسية إلى التكامل مع توجهات الممثلين التقليديين للمؤسسة الدينية في السعودية وذلك من خلال إضفاء الشرعية على تعاليم المؤسس محمد بن عبد الوهاب، وتبني زي السعوديين في الملبس والمظهر.. كما عمل ممثلو الحساسية البناوية على أن يكون دورهم في المشهد الديني والثقافي العام متخفيا وثانويا فاسحين المجال أمام فاعلين جدد من جيل الصحوة السعوديين والعلماء السعوديين المخضرمين..