عندما نوينا الذهاب إلى بعض مواقع عمال الأشغال العمومية حيث يزاولون عملهم اليومي بالطرقات، احتفظت ذاكرتنا بالهتافات التي رددوها خلال وقفاتهم الاحتجاجية التي نظموها على مستوى المديرية العامة بحسين داي، حيث طالبوا بتحسين ظروف عملهم ورفع أجورهم وترسيمهم وكذا تنديدهم بالتهميش الذي يعيشونه فضلا عن المخاطر التي تهدد حياتهم. غير أن تلك الصيحات التي صدرت عن العمال، قلّت حدتها عندما اقتربنا من بعضهم على انفراد وحاولنا التحدث عن معاناتهم ومشاكلهم المهنية والاجتماعية، حيث أبدوا تحفظا في التصريح لنا بما يختلج في نفوسهم وما يعيشونه في مهنة كان يفترض أن تكسبهم بعضا من الكرامة والحقوق، كيف لا وهم الذين يسهرون على نظافة شوارعنا الضيقة منها والواسعة، ويتواجدون في الطرقات السريعة بشكل دائم خاصة في فصل الشتاء. وعندما قصدنا شارع طرابلس بحسين داي غير بعيد عن المديرية العامة للأشغال العمومية في حدود منتصف النهار، وجدنا الطرقات خالية من العمال المكلفين بتنظيف الشوارع، والأمر عادٍ جدا لأن الفترة مخصصة للراحة وتناول وجبتهم الغذائية على تواضعها، على أن يعودوا إلى نشاطهم في حدود الواحدة زوالا. وبينما كنا نلهث وراء أصحاب البدلات البرتقالية، رمقت أعيننا أحدهم وهو يتجه صوب محكمة حسين داي، ففضلنا الانطلاق معه في رصد وكشف أغوار معاناة عمال هذه المهنة. وللأمانة لم نجد أي صعوبة مع هذا العامل خلافا لما وجدناه فيما بعد مع عمال آخرين، حيث لم يلبث أن وافق على الحديث إلينا، وحتى نضعه في وضعية مريحة، طلبنا منه أن يرافقنا إلى السيارة وهو ما قبله على الفور، وبدون مقدمات بدأ هذا العامل في سرد يومياته وظروفه المهنية، حيث ردّ علينا عندما استفسرناه عن الوجهة التي كان يريد الذهاب إليها قبل التقائنا به: “أنا الآن بصدد الذهاب إلى محكمة حسين داي للمطالبة بالتعويضات عقب تعرضي لحادث مرور في بحر سنة 2011، أجبرني على دخول قسم الانعاش بالمستشفى، حيث فقدت ذاكرتي لمدة 20 يوما، بعد أن أصبت على مستوى الفم، ورغم إصدار المحكمة قبل أشهر حكم يقضي بمنحي 20 مليون سنتيم كتعويض، إلا أنني لم أستلم الشيك لحد الآن رغم أنه جاهز". ومع انتقاده للإجراءات التي تمت إلى غاية اليوم، لم يتوان هذا العامل الذي علمنا فيما بعد بأنه يدعى “عبد الرزاق" وهو رب عائلة، فقد ذكر بأن محامي شركة الأشغال العمومية تكفل بملفه في العدالة، وأنه يحمد الله أولا على أن ذاكرته عادت اليوم إليه تدريجيا: “لقد عالجت على حسابي الخاص وتعرضت لفقدان الذاكرة تماما لمدة 20 يوما، وحاليا ما زلت أعاني من الصدمة". عاد هذا العامل للحديث عن الظروف التي يعيشها عمال الأشغال العمومية والتي اعتبرها قاسية جدا مقابل أجر زهيد جدا: “أنا أتقاضى شهريا 15 ألف دينار وأعيل عائلة تتكون من الزوجة وطفلين، ومن أجل توفير حاجيات عائلتي ألجأ يوميا إلى ممارسة بعض النشاطات التجارية خارج أوقات العمل، حيث أبيع “الكسكروت" والأقمصة الرياضية، لأن ما أجنيه من عملي لا يكفيني وأصارحكم بأنني أعمل فقط من أجل الاستفادة من الضمان الاجتماعي، وإلا لكنت غادرت مؤسسة الأشغال العمومية دون رجعة". هكذا لخص لنا هذا العامل ظروفه المهنية، وبهذه النبرة حاول نقل معاناته وتأقلمه مع الأوضاع التي يعيشها رفقة زملائه، وكم هم كثيرون. من بين الانشغالات التي خرجنا بها من خلال حديثنا مع عمال الأشغال العمومية، هاجس العمل دون وثائق، وهي النقطة التي سبق أن أثارها كل العمال الذين شاركوا في الوقفة الاحتجاجية التي نظموها قبل أسابيع، وهو ما حاول أحدهم ويدعى “صالح" إبرازها لنا بنوع من القلق والقنوط وبعض من اليأس: “تصور أننا نعمل دون أي وثيقة تثبت بأننا ننتمي إلى مديرية الأشغال العمومية، والدليل الوحيد الذي يشير إلى هويتنا هو البدلة البرتقالية التي نلبسها، لكنها غير كافية، فكم من مرة لا نجد ما نجيب به بعض أعوان الأمن عندما يطلبون منا إظهار وثيقة العمل". هذا العامل الذي يشتغل منذ 5 سنوات تقريبا لم يكتف بهذا الحد وهو يروي لنا مسيرته المهنية المليئة بالمشاكل والصعوبات: “لعل أكثر ما نعانيه هو خطر حوادث المرور التي نتعرض لها باستمرار، وأتذكر أن عاملا تعرض لحادث مرور بعد أن دهسته حافلة قبل ثلاثة أشهر وتوفي على الفور تاركا وراءه عائلة من ثلاثة أطفال، ناهيك عن وجود العديد من العمال الذين يعانون من إعاقات خطيرة". وهو يتحدث لنا بمرارة عن حوادث المرور، قدّر “صالح" وجود 40 عاملا بين قتيل وجريح ذهبوا ضحية أخطار عملهم بالطرقات: “بالإضافة إلى هذا، فقد توفي عامل كان يعاني من مرض السكري، حيث سقط على الأرض وبعد أسبوع توفي رحمه الله"، وما حزّ في نفس هذا العامل هو جميع هذه الإعاقات والحوادث لم يتم التكفل بها من طرف الشركة. ما يحزّ اليوم في نفوس عمال الأشغال العمومية المتواجدين خاصة في الطرق السريعة هو إرغامهم على مغادرة أماكن عملهم عندما تمر الوفود الرسمية، وهو ما اعتبروه أمرا مهينا كونهم يؤدون عملا شريفا: “بصراحة لم نفهم لماذا يتم إرغامنا على الاختفاء عن الأنظار عندما تمر الوفود الرسمية الجزائرية والأجنبية". بهذه النبرة المليئة باليأس، روى لنا “محمد" الذي يعمل على مستوى الطريق السريع المؤدي إلى المطار، ولم يكن الوحيد الذي استاء لهذا السلوك الذي يمارس ضد عمال الأشغال العمومية المتواجدين بالطرق، وتبقى صيحة عمي مولود الذي قضى سنوات طويلة في هذه المهنة الأكثر وقعا عندما تحدث بنبرة حزينة ومليئة بالاستفهامات والتساؤلات: “لست أدري لماذا يأمروننا بالانسحاب من مواقع عملنا، هل يستحي مسؤولونا من رؤية ضيوف الجزائر لعمال يسهرون على نظافة الشوارع والطرقات، وإعطاء وجه جميل للعاصمة، بصراحة أنا شخصيا لم أجد أجوبة لهذه السلوكات التي مست جل العمال دون استثناء". إذا كانت مساعينا لنقل عينات من يوميات عمال الأشغال العمومية الذين التقيناهم بالطرقات، قد مكنتنا من نقل بعض الصور عن ظروفهم القاسية، فإن الحال لم يكن كذلك، عندما توجهنا إلى ما يشبه مستودع أو لنَقُل المكان الذي مُنح للعمال القادمين من خارج العاصمة للمبيت فيه، الذي يقع بالخروبة. كان بعض العمال قد عادوا إليه خلال فترة الراحة التي تمتد من منتصف النهار إلى الواحدة زوالا، حيث وجدناهم داخل ما يشبه شاليات مترامية ينامون بها، وفيما مُنعنا من التحدث إلى هؤلاء العمال من طرف أعوان الحراسة لأننا لا نملك تصريحا من مسؤولي مديرية الأشغال العمومية، لم يرغب بعض العمال في الإدلاء بأي تصريح، رغم أن نظراتهم وهندامهم يخبىء الكثير من المعاناة، ورغم إلحاحنا إلا أن محاولاتنا باءت بالفشل، وعندما كنا نهم بمغادرة المكان، تبعنا ثلاثة عمال إلى خارج مقر سكناهم، وقد لمسنا من وجوههم أنهم يريدون قول شيء أو أشياء كثيرة إلا أنهم مترددون، وهو ما شجعنا على استدراجهم ومحاولة إقناعهم بالحديث إلينا، قبل أن يخرج أحدهم عن صمته ويقول: “الظروف هنا قاسية جدا، فنحن نفترش الزنك والكارتون، ونعاني من البردوة في الشتاء، كما الحرارة في الصيف ناهيك عن انتشار الناموس وعدم نظافة الشاليات التي نبيت فيها". وهو يخرج ما في جعبته، علمنا أن هذا العامل قدم من مدينة عين الدفلى رفقة حوالي 30 عاملا يسكنون ببعض المدن الداخلية المتاخمة للجزائر العاصمة: “في الحقيقة هناك شاليات مقبولة نوعا ما، فيما توجد أخرى في وضعية كارثية". نفس الصورة رسمها لنا “عبد النور" القادم من مدينة الشلف، حيث وصف الظروف التي يبيتون فيها بالشاقة: “بالإضافة إلى أننا نفترش الأرض، فإننا نتولى إعداد وجباتنا الغذائية خاصة العشاء داخل الشاليات"، ولم يجد هذا العامل من وصف يشخّص به ظروف العمال الذين يبيتون في تلك الورشة سوى كلمات الحڤرة والتهميش والخبزة المرّة، وبالمختصر فقد وصف هذه المهنة بالأشغال الشاقة.