لقد مرت قرابة خمسين سنة عن ذلك البهاء، عن الطفولة والفقر الجميل الذي عشناه بعد حرب استفاد منها العفاريت.. .. كنت أعبر أحراشا وشعابا ما بين بني عزيز وجيملة، ما بين سطيفوجيجل. لم يكن هناك أي شيء يدعو إلى التوقف، لا أثر للحضارة في هذا الخلاء الموحش، كل ما تم تشييده عبارة عن فوضى سيقضي عليها الجيل القادم إن شاء الله، إن كانت له ذائقة، وإن كان يدرك مفهوم العمران وقيمته ودلالته عبر التاريخ البشري. أما الطرق فتدعو إلى التفكير في مصير المال العام، في منطق هؤلاء المشرفين على شؤون الرعية، سواء كانوا متحزبين أم لا، الفساد حيث يممت، هناك فساد ناجح، وإخفاق واضح في تسيير الشأن العام وتجسيد المشاريع المستقبلية، كأن تعديل الدستور واستحداث أحزاب أخرى ومضاعفة أعضاء المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة كافٍ لرفع الغبن عن المواطن ووضع المال في مكانه المناسب. كيف يفكر رؤساء البلديات والدوائر؟ وكيف يفكر الناس وأصحاب المال ورجال الأعمال؟ الأمور سائبة. كان يلزمني استعارات الشعراء للتعليق على الخراب، وكان يجب المرور من هناك عدة مرات لمعرفة حجم العبث، وبعد خمسين سنة من الاستقلال والخطب الحماسية جدا. لقد تم التركيز على بعض الجهات، على بعض المدن، على أحياء خاصة في الواجهة، دون الأخرى، ودون الاهتمام بمصير المدن المعزولة والأرياف التي تنتمي لعصر آخر. الأرياف الجزائرية طردت المستعمر، لكنها طردت من البلد بأموال النفط والاستهتار العام وسوء التخطيط وكثرة الكذب على الناس والترقيع الفج الذي خلق مدنا وقرى لا تشبه مدن وقرى الدنيا، أشياء موحشة وصماء ومخيفة ومزعجة. مررت في الطريق بكثير من المقابر التي خصصت للشهداء. الشهداء قد يستشهدون “مرات" عندما يدفنون عندنا. كانت المقابر خربة في عدة جهات، مهملة وقد انكسرت الشواهد وضاعت الراية وذهب الطلاء، وغدت مرعى للماعز والأغنام والبقر. لا حظَ لشهداء المناطق النائية التي لا يزورها الوزراء والولاة. قيل لي لقد خصص السيد رئيس الجمهورية أكثر من 360 مليار لترميمها، أي ما معدله 76 مليار لكل ولاية. لكنها ظلت كما هي، منسية وعارية. ربما ذهبت الأموال إلى الآخرين ما دمنا مستعدين للمتاجرة بكل شيء، وما دمنا حريصين على النهب المحلَف. الشهداء أيها الناس أفضل من وجوهنا ومن ثقافتنا وحداثتنا ومناصبنا ونقاشاتنا، وسأظل مؤمنا بذلك، ولن أصدق الفاتحة التي تقرأونها على أرواحهم، كذبا ورياء. لن أصدق ما حييت ما يقال عنهم في المناسبات الرسمية وفي الاجتماعات النفاثة التي بمقدورها صناعة قارة من الأوهام. بعد ساعتين من السير وصلت إلى دائرة جيملة، كان هناك جبل صخري يحرسها، وكان شاهقا، شبهته بجبل قاسيون الذي يرعى العاصمة السورية دمشق. ثم جبل تامزقيدة الذي أصبح أسطورة في بعض الموروث الشفهي. كانت هذه المنطقة مرعبة في التسعينيات، مثلها مثل جبل بوحنش وجبل بابور، حيث كان يقيم أفراد من الجماعة الإسلامية المسلحة. تذكرت ما قاله لي الأديب الطاهر وطار ونحن في طريقنا إلى البرج مرورا بالأخضرية حيث يقيم جبل الزبربر: “حسنا فعلت الجماعات المسلحة، لم نستطع استغلال الغابات للسياحة الجبلية منذ الاستقلال، فاستغلها آخرون وفق تصوراتهم وأهدافهم". وهناك الفوضى العمرانية المقيتة، مستودعات ومآرب وإسمنت وطوابق مكشرة. يا إلهي. كأن القبح قدرنا، إلى أين نتجه بهذا الفهم الاستعجالي الذي ينم عن قلة النباهة ووفرة التوحش؟ ثمة شيء رائع لاحظته في هذه الرحلة، كما في تنقلاتي الكثيرة، شيء متقن الصناعة ومدهش، جميل وفاتن، ملهم وفائق العبقرية، ذلك الشيء هو الذي خلقه الله وبقي كما هو منذ قرون: الجبال والغابات والوديان والدفلى والمناظر الساحرة التي لم تصلها المشاريع الفاسدة وعقول المفسدين، وتمنيت أن لا تصلها في هذا الظرف الفاسد، أن لا يصل إليها الجزء الأكبر من فهمنا، هذا الذي لا يحتكم إلى أي تخطيط، إلى أي منظور جمالي، ذاك الذي لا علاقة له بأية نظرة مستقبلية، الذي لا يلتزم بأية مقاييس، ما عدا مقياس الترقيع الفج والنهب المقدس الذي استفحل في المجتمع برمته. من القمة إلى القاعدة. توقفت قليلا عند مشروع سد جنجن الذي لا يبعد كثيرا عن بيتنا القديم. كان محروسا من قبل الجنود خوفا عليه وعلى الشركة الأجنبية التي تهتم بإنجازه. لا أدري متى سينتهي، كما مشروع الطريق الذي سيربط جيجلبسطيف، مرورا بتاكسانة. لا بد أن هذا الطريق سيكون مهما إن تمَ إنجازه في الوقت المناسب. لكن المشاريع عندنا كالسلاحف والحلازين المعتوهة، تنطلق ولا تصل إلا نادرا، أو متأخرة بسنين، بعد أن تأكل أموالا خرافية كافية لبناء مدن جديدة وبلد جديد. كل واحد يقضم الميزانية بطريقته، عندما يجد إلى ذلك سبيلا، من المير إلى سائق الحمير، ومع ذلك فنحن نصلي ونصوم ونهتم بالنوافل وكيفية الوضوء ونقول إن شاء الله وما شاء الله، ونملأ المساجد أيام الجمعة. من هذا الذي ينهب إذن ويفسد إن كنا نصوم ونؤمن بالخالق؟ وادي الرحى. كنت في السادسة من عمري آتي إلى هنا لطحن القمح عند شخص يدعى بن السوَال، أحمل كيسين على ظهر حمار وأنطلق بعد صلاة الفجر رفقة أبناء العمومة، وكنا نعود إلى أكواخنا متأخرين. لم تكن لنا لا بيوت ولا كهرباء ولا كراريس ولا وسائل نقل، ولم يكن لنا خبز. أحرقت فرنسا كل شيء، وقتلت ناسنا الرائعين الذين لم يتركوا سوى الأرامل واليتامى والفاقة والحزن. تذكرت الوادي جيدا، ولم أعثر على الرحى. هاجر الناس المداشر في التسعينيات ولم تبق سوى الأطلال تنظر إلى الوراء، وفي الفراغ العظيم الذي حل محل الرحى والذرة والصبار ونوار الدفلى والمراعي القديمة. لقد مرت قرابة خمسين سنة عن ذلك البهاء، عن الطفولة والفقر الجميل الذي عشناه بعد حرب استفاد منها العفاريت. عرفت لاحقا أن الرئيس الراحل أحمد بن بلة اجتمع في وقت ما مع المجاهدين والضباط في هذه المنطقة الغابية التي كانت تؤمَن الجنود، وكانت مشتعلة باستمرار في ذلك الوقت البعيد عندما كان الرجال رجالا. وبعد عشرين دقيقة بلغت الدشرة التي ولدت فيها: أولاد الشيخ. كانت مقبرة الشهداء تعيسة، لقد اهتمت بها الدولة الجزائرية قبل أعوام خلت، ثم تركتها للنسيان. هنا دفن الأعمام الذين أبادتهم أمنا فرنسا التي أصبحت قدوتنا وكعبتنا الشريفة. قد لا يحتاج هؤلاء الشهداء إلى فاتحتنا الكاذبة وأدعيتنا الوقحة، بقدر ما يحتاجون إلى تنظيم قبورهم وترميمها ببعض أموال النفط التي تبدد هنا وهناك. للمقابر حق في الحياة الكريمة، ولا أحد أهل لهذا المال أكثر من هؤلاء لأننا نعيش في بلدهم. أما نحن فقد أكلنا حقنا من البلد ونقلنا الباقي إلى البلدان الأجنبية. يجب محاكمة المحاكم. لا أدري كيف قفزت إلى البال مأثرة الشيخ الفاضل عبد الحميد بن باديس رحمه الله: لو اتحد العلماء على حقهم كما اتحد غيرهم على باطلهم لسعدت الأمة ونجت من بلاء كبير. في أحد نوادر هذه الضيعة خبأ جدي السلاح استعدادا للحرب، وقد بدأ أول هجوم على المعمرين في سنة 1945، لكن العالم الجليل الشيخ بلقاسم بن منيع التاكساني (أحد المقربين من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) نبه إلى ضرورة التنسيق والتريث. وفي هذه الضيعة كان مركز الثوار لاحقا. ما زالت الآثار قائمة. من هنا مرَ عدة قياديين وجنود وضباط. كان ذلك في زمان الرجال الحقيقيين الذين سلاما على أرواحهم العظيمة. كان البلد مليئا بالرجال والمؤمنين في ذلك الوقت البعيد. عندما اشتعلت الفتنة الوطنية رحلت كل العائلات وتركت ذكرياتها في أولاد الشيخ، كما تخلت عن الأرض والحقول والماشية والينابيع الجليلة، مثل كل العائلات الجزائرية التي كانت تسكن في القرى المهددة، وكان ذلك واضحا حيث مررت. تفقدت شجرة الكرز التي كتبت عنها “اللعنة عليكم جميعا"، وكان جبل صندوح يقابلني، لي هناك حكايات مع الزعتر والمسغبة وحذاء الخال. لم تبق الجبال كما كانت عليه، اسودت جهات منها بفعل الحرائق الغامضة التي لا تتوقف. كانت محنة شجر البلوط كبيرة. عندما جاء الروائي مالك حداد إلى تاكسانة كان يتباهى بتلك الجبال الفاتنة في مؤلفه الانطباع الأخير. لم يكن الفلين مهددا كما اليوم. وكان هناك صفصاف على حواف الطرق. ثم جاء إخوتنا العباقرة، المولعون بالحرق والتخريب. لم أتوقف في تاكسانة (تقول بعض التحقيقات لقد استعان بها عروج وخير الدين بربروس لصد الأسبان)، مررت بالمحلات الجديدة والدور المبثوثة هنا وهناك، وكان آذان العشاء يرتفع من الجامع الوحيد. كان جامع الشيخ بلقاسم جالسا على الرابية، كما تركته قبل سنين. هناك تعلمت العربية والقرآن قبل عشرات الأعوام. كبرت القرية. أعلنت تاكسانة منطقة محرمة في 1959، ثم رفع العلم الوطني قبل وقف إطلاق النار بشهور. وظل السكان يحتفلون باستقلالهم الخاص إلى وقت قريب. هذه القرية التعيسة قدمت للبلد مئات الشهداء ونخبة من الجامعيين والباحثين والإعلاميين والكتاب والإطارات. لا أدري كيف ولماذا. ربما بفعل الفقر والتحدي. وفي هذه القرية (في دوار بني خطاب) تحصن الجيش الإسلامي للإنقاذ بقيادة أحد أبناء المنطقة. على بعد عشرين كيلومتر تقع مدينة جيجل. الظلام: التاسعة ليلا. كنت أستمع في السيارة إلى الأغاني المغربية الملتزمة التي ترافقني باستمرار: جيل جيلالة، ناس الغيوان، المشاهب. أعدت مرات كثيرة أغنية: “يا عجبا، ذيب الغابة، جايب الغنم وراه". ذاك ما شعرت به قي الأحراش والمستنقعات والشعاب والممهلات والحفر. وكنت أقول يجب أن أرفع دعوى قضائية ضد وزارة الحفر والممهلات لأنها بددت وقتي وأفسدت سيارتي وخربشت أحشائي وملأت رأسي بالطنين، وسأطالب بتعويضات بدل دفع غرامات (الشركة الجزائرية للتأمينات تفرض عليك في بعض الجهات تأمين البيت لتأمين السيارة. ما هذا العبث بالمواطن؟)، ولماذا لا يتقن الجزائري عمله رغم أن الرسول (صلعم) أوصى بذلك؟ أم أن رسول الجزائريين ليس إلا مجرد أحاديث نبوية لا تنتقل إلى التجسيد؟ رسولكم العظيم سلوك أيها الناس. ولماذا ننجز مشاريع منكوبة ثم نلجأ إلى الترميمات التي لا تنتهي؟ ثم نبرر الفشل الفاحش بفشل آخر أكثر فحشا وحمقا. هل أوصى رسولكم بهذا؟ وتذكرت سباب الشاعر عادل صياد وجنونه الواعي. هناك لحظات لا تصلح للتحليل، وهناك سياقات لا ينفع فيها العلم والدراسات الإستراتيجية. ظهرت ممهلات جديدة في الطريق إلى جيجل. وتذكرت مستغانم: هناك أميار يتباهون بعدد الممهلات المنجزة، دون أية مواصفات. في الولاية قرابة 400 ممهل فوضوي، كما أكدت بعض الصحف، والواقع أن هذا العدد ضئيل، إضافة إلى الممهلات الرسمية المرعبة المنتشرة في كل مكان... فقط في كل مكان. وقريبا ستوضع ممهلات في ساحات المدارس وفي بيوت الناس، حفاظا على أمنهم وسلامتهم، وفي الجو كذلك، لأن الطائرات تحلق بسرعة كبيرة في أجواء المدن والقرى، وعلى الأميار الإكثار من الممهلات كحل وحيد للتقليل من حوادث المرور. الطبيعة مدهشة في جيجل: البلوط والزان والصفصاف والضرو والريحان والأزهار وبذلة الربيع والمناظر الخرافية للبحر والجبال والتلال والينابيع وحقول الخضر والفواكه، وكل ما صنعه الله دون أن تتدخل اليد البشرية المحلية المتخصصة في التشويه السخي. من ينظر إلى المسافة من الخارج يدرك نوعية السياحة. لا يوجد مطعم عائلي محترم من سطيف إلى غاية جيجل، ولا مقهى للأسر عبر هذا المسلك الذي يصلح للجيوش والمحاربين والدبابات، وليس للسيارات النفعية والسياحة. ما زلنا بعيدين عن ذلك. الأولوية اليوم للسطو على المناصب ونهب العقار والشركات واقتسام الريع. سأفكر الليلة في الجنويين واليهود والأتراك وقبائل كتامة التي أنتسب إليها. يجب أن أنسى متاعب الطريق، من الأحسن أن أبحث عن مصطلح آخر يحل محل هذه الكلمة. الطريق (؟؟؟) ما معنى الطرق الوطنية؟ مع ذلك فهناك إنجازات لا يمكن نكرانها. ما زال هناك في البلد أمل، وهناك طرق مقبولة. سأقضي يومين في جيجل، ثم أشد الرحال إلى عنابة، مرورا بميلة وقسنطينة.