التقيت بالطاهر وطار، لأول مرّة، عام 1978 بقاعة الكابري في شارع أرزقي حمامي - شاراس سابقا - بالجزائر العاصمة· سلّم لي جائزة من جوائز القصة وقال لي شيئا ما يتعلق بالكتابة· كانت تلك اللحظة مثيرة في حياتي، والتقيت به لاحقا في عدّة مناسبات، بداية من مطلع الثمانينات· اشتغلت معه كأمين عام للجاحظية ورئيس تحرير مجلة القصة، ثم مدير تحرير مجلة التبيين، ونائب الرئيس مكلف بالعلاقات الثقافية· ومع الوقت انسحبت من الجمعيات والتكتلات لأسباب خاصة، غادرت أجواء العاصمة في وضع مأساوي، راسلني الطاهر وطار مرّات وهاتفني عدّة مرات، لقد قرّرت أن أبتعد بهدوء· كان علي أن أرتاح· سأحتفظ ما حييت بصور كثيرة عن هذا الكاتب الرائع، بمزاحه ومزاجه ونميمته وقلقه ولحظات انكساره· لن أزعم أبدا بأنني عرفته جيّدا، ولن أدّعي ذلك رغم الفترة الزمنية الطويلة التي جمعتنا بمقرّ الجاحظية وخارجها، في مناسبات كثيرة وفي الأسفار· قرأت أعماله الكاملة صفحة صفحة، الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والمذكرات والكتابات الصحفية، وكنت أناقشه في بعض القضايا الفنية والجمالية، بعيدا عن الصدامات غير الضرورية· عندما كتب ''الولي'' أرسل لي المخطوط مع الروائي محمد ساري، وهاتفني بعد فترة وجيزة لمعرفة رأيي في الثامنة أو التاسعة ليلا· قرأت الرواية في ليلة وقلت له ما أراه·· كنت دائما أحتفظ ببعض رؤاي إلى أوقات أخرى، لم يكن ذلك تواطؤا، بل تقديرا لتجربة كبيرة في الرواية العربية، رغم التحفظات التي لن تقلل أبدا من قيمته كروائي امتلك طاقة سردية كبيرة وخصوصية قلّما تتوفر لدى الكثير منا، المقلدين والحداثيين· أظن أن وطار سيترك فجوة كبيرة جدا، وليس بمقدورنا ترميمها بكتابات تحتاج إلى شحذ البصيرة واللغة والتجربة والمكابدة· ثمّة شيء في أعماله يتعذر عدم الالتفات إليه بمحبة وتقدير، إنه حداثته الأصيلة التي تنطلق من بيئته ومن ذاته وتراثه والأشياء الصغيرة التي تحيق به· قلت له ذات مرّة: تعجبني كثيرا رواية ''الحوات والقصر''، هذه الرواية على بساطتها فيها عبقرية لا تضاهى· لقد هربت من الأدلجة وطرحت موضوعا إنسانيا كبيرا ومتواترا، بطريقة سردية حيادية ومدهشة· قال لي وقتها: هذا صحيح، كيف انتبهت إلى هذا؟ تحدثنا مرارا عن هذا النص، وكان كثيرا ما يحدثني عن شخصيات حقيقية وردت في بعض القصص والروايات:'' في الشهداء يعودون هذا الأسبوع '' و''اللاز'' و''عرس بغل'' و''الزلزال'' و''تجربة في العشق''، وهناك شخصيات عرفتها عن قرب وفاجأتني طريقته المدهشة في تشكيلها· لم أصدق ذلك، أرى الشخصية في الواقع ثم أتابعها على الورق وأقول في نفسي: ''هذا عمل شيطاني من صنع الطاهر وطار''· عادة ما كنا نجلس في المكتب ونتحدث في الشأن الثقافي، كانت رواياته الأخيرة مثيرة للجدال· أذكر أنه عانى بعض الوقت من مواقف الآخرين الذين آخذوه على '' انقلاب'' موقفه الإيديولوجي، وإذ سألني مرة أجبته بأني لا أِؤمن بالثبات، ولا بالأيديولوجيات التي تقتل الفن أو تسطحه، وأن مشكلة بعض النقد والكتاب تكمن في هذه النقطة بالذات· كان وطار يشعر بحصار من قبل عدة جهات، بداية من روايته ''الشمعة والدهاليز'' التي كانت منعطفا أخر في مسيرته، مرورا ''بالولي الطاهر يرفع يديه إلى السماء''، و''الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي''· قال لي أشياء كثيرة عن هذا العدول الذي حدث في أعماله الأخيرة وموقفه من الفتنة الجزائرية، ثم كيف انقلب عليه بعض ''المنتمين''، خاصة بعد محاولة التوسط لرأب الصدع العظيم الذي أنتج كل ذلك الدم المراق· أذكر جيدا كيف قال لي مطمئنا: ''عمّك الطاهر ديمقراطي، لست أفضل من الشعب''· كان يقصد التسعينيات وبداية التراجع عن المسار الديمقراطي لعزل الجبهة الإسلامية للإنقاذ· كان شارع رضا حوحو شارعا مخيفا في تلك الفترة المأساوية من تاريخنا، وكانت الجاحظية لا تتوقف عن النشاطات، بحسب إمكاناتها· تحدثنا مرارا عن الجانب الأمني في حيز غامض يضم مقر الجاحظية··كنت أشعر بالرعب في سياقات، لا يمكن ألا تفكر في اعتداء· أما عمّي الطاهر فكان يضحك مازحا: ''من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ودار أبي سفيان هي الجاحظية''· في ذلك الوقت كان الموت يأخذ الأصدقاء واحدا واحدا، أما الآخرون فقد هاجروا الوطن حماية لأنفسهم، وظل الطاهر وطار رابضا هناك لا يريم· كان قلقا جدا من أقلام كثيرة وأحاديث اتهمته بالتراجع عن مواقفه القديمة المتواترة في ''اللاز'' و ''عرس بغل'' و ''الزلزال'' و''العشق والموت في الزمن الحراشي''· قال لي عدة مرات بأنه متضايق، وكنت أبصر سحنة وجهه، ولا أعتقد أني سأنسى تلك الفترة التي أوشك فيها على الانهيار· كان صباحا من صباحات الفجيعة الوطنية، هاتفني عمي الطاهر في إطار عمل· شربنا شايا، كان ذلك ديدن الجاحظية، نظرت إلى وجهه الأسود، كان يرتعد، قال لي: ''أنا متعب وأفكر في أمر خطير لن تصدقه''· أما أنا فقد فهمت ذلك الأمر جيدا، لقد حدثني عنه في فترات سابقة عندما يحس بالضغط والعزلة، ثمة أشياء لا داعي لذكرها ، خاصة لما تتعدى الجانب الحياتي إلى الأفق الروحي والفلسفي· دامت علاقتنا قرابة عشرين سنة، وخلال هذه السنوات عرفت قضايا كثيرة وتعرفت على كتاب ونقاد وفنانين وشخصيات، لكني عشت صراعات لم أكتب عنها، حاولت ألا أكون طرفا في نزاعات كانت تبدو لي طارئة· حدثني عن علاقاته مع الناس ومع الأسماء الكبيرة، وكثيرا ما أخبرني بأنه يكتب نصا جديدا، أو بصدد التفكير في كتابته· كنت أعرف أنه سيكتب مذكراته، علمت بذلك عندما كنا ذاهبين في سيارته من العاصمة إلى برج برج بوعريريج لتقديم محاضرة في النادي الأدبي الذي كنت أرأسه، بدعم من السيد عياشي السعيد والسلطات الولائية· قال لي آنداك إنه سيكتب مذكراته، وقدم لي الخطوط العريضة· أعجبت بمحتوى المذكرات الفرضية التي قصّها علي، لكني لم أجد ما ذكره عندما طبع الجزء الأول، أظنه ترك الأساس لأجزاء أخرى· ما حكاه لي كان مثيرا وفي منتهى الجدية، ومختلفا عما طبع، اندهشت في حقيقة الأمر عندما صدرت المذكرات في ذلك الشكل وبتلك الطريقة· قال له المشرفون على النادي بعد انتهاء المحاضرة: ''نقدم لك تذكرتين للذهاب إلى الحج رفقة حرمك'' ··· كان موقف وطار صارما ونهائيا،إذ اقترح عليهم صب قيمة التذكرتين في حساب الجاحظية ليستفيد منه الناس· كنت أضحك كثيرا عندما ألتقي بعمي الطاهر الذي اشتهر بنميمته الراقية، كما يقول عن نفسه· بيد أني أظل قليل التعليق، لم أكن أرغب في كسر الحواجز التي بيننا· هناك السن والتجربة والممارسة السردية، وهي قضايا أوليتها أهمية كبرى في حياتي· حدثني الطاهر وطار مرارا عن علاقاته بعبد الحميد بن هدوقة ومحمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد ومراد بوربون والطاهر جاووت ورشيد بوجدرة، وغيرهم· لم نكن نتفق دائما، كان لي منطلقي الأكاديمي، وكانت لوطار منطلقات أخرى، لكننا لم نكن نختلف كثيرا، وإذا كانت هناك اختلافات فإنها تبقى في إطارها الأخلاقي، لم أكن أصرح بمواقفي· حاولت مرارا رأب الصدع، خاصة لما تقع تجاوزات هنا وهناك، كنت أتألم لذلك لقناعتي بأننا نكمل بعضنا البعض من حيث أننا نختلف ونتناغم· كان عمي الطاهر حساسا جدا من تصريحات بعض الكتاب الاقتصائية، أو تلك التي تدعو إلى قتل الآباء تأسيسا على طروحات حداثية مبهمة، لكنه سرعان ما يهدأ· كان عمي الطاهر سريع الالتهاب، لكنه لا يحقد· كثيرا ما كان يريد معرفة موقفي من بعض صوره العجيبة، وكانت عجيبة فعلا· يقول لي ما رأيك؟ ثم يسبقني: ''لن يجد هذه الصورة سوى عمي الطاهر''· أعتقد أن ذلك كان صحيحا تماما· هناك أخيلة خاصة بمملكته، وإنه ليعتذر علينا صياغتها بتلك الطريقة، وقد تتجلى هذه الصور على المستوى الشفوي كذلك· كان يعيش أجواءه الروائية في مقر الجاحظية، يعلق على الأشخاص، لا أحد ينجو من عينيه ولسانه، وإذ لا يجد من يعلق عليه يعلق على نفسه، يذهب إلى ماضيه وينبش هناك إلى أن يجد حكاية· وما أكثر تلك الحكايات التي لا تنضب، وما أروع طريقته في سردها وهو يبتسم أو يضحك على نفسه، بإفراط أحيانا· قال لي مرة أحبُّ رؤية تاكسانة التي تتحدث عنها كثيرا، كان ذلك بمناسبة تنظيم أحد ملتقيات بجامعة جيجل· في السادسة مساء وصلنا إلى القرية، التفّ حوله الشباب، كأنه بركة سقطت من السماء في تلك الأعوام العصيبة· كان وطار يقرأ الوجوه علامة فعلامة، لا أدري من أين اكتسب تلك العبقرية في علم الفراسة، ولا أظن أن هناك من ينافسه في هذا الفن· لذلك يشكل عوالمه بدقة· جلسنا في مقهى زين الدين المطل على دشرة أولاد الشيخ، هناك حيث ولدت ذات شتاء، أخرج عمي الطاهر آلة التصوير والتقط صورا عديدة، لا أدري ماذا فعل بها· كان معجبا بالطبيعة، قال لي لو أنك تقضي شهرين هنا، في كل سنة، سيريحك هذا، لكنه لم يكن يعرف الحقائق الأخرى· في غضون ساعة حفظ الوجوه وتقاسيمها وأشكالها، وإذ خرجنا من تاكسانة، تأمل جبل بني خطاب حيث كان يتمركز الجيش الإسلامي للإنقاذ، على بعد كيلومترين من تاكسانة· لم يعلق، عكس ما فعله عندما مررنا قبل سنوات بجبال الأخضرية، قال لي وقتها: ''هذه الجبال الجميلة لم تستثمر، لذا سكنتها الجماعات والحرائق، هذا البلد مسكين''· كثيرا ما كان عمي الطاهر يحدثني عن زعماء عرفهم في حياته، شخصيات تاريخية قرأت عنها في الكتب أو سمعت عنها، كان يعرف عنها تفاصيل دقيقة، تمنيت أن يكتب عنها في مذكراته، وكنت ألح عليه أحيانا· كان ذاكرة مليئة بالأسرار والتفاصيل المثيرة، لقد شحذته التجربة وتعلم من الاحتكاك أمورا دوّنها وأخرى صاغها في قصصه ورواياته بذكاء، لكنه أغفل جوانب أخرى متعلقة بالشق التاريخي· قلت له في الثمانينيات ونحن في شارع العربي بن مهيدي: ''أوشكت أن تقضي على عبد المجيد بولرواح بطل الزلزال، لكنك لم تفعل ذلك وأخذته إلى المستشفى''· أذكر أنه قال لي دون تفكير: ''أفق البلد غانم، واحتراما للصدق التاريخي فقد تركته على قيد الحياة، قد يموت وقد يرجع بقوة، إني لا أرى المستقبل جيدا''· بعد أعوام فهمت مقصده، وبعد أعوام أخرى قد نفهم أسباب قلقه ولحظات تصدعه وكآبته العميقة، تلك التي لا تظهر في جلسات الجاحظية وفي مكتبها الوطني، وبعد سنين طويلة سيفهم هذا الجيل أن هناك اسما رفع صوت الجزائر عاليا، وسيعرف لماذا لا تترجم أعماله في الوقت الذي تنقل فيه أعمال أخرى لا ترقى إلى مستوى روائعه· رحم الله أديبنا الطاهر وطار الذي كان زمنا وذاكرة، كان يتكئ على الوطن ويتكئ الوطن عليه من خلال مواقفه ودفاعه عن الهوية ودعوته إلى تحصين الذات· لقد دخل في صراعات لا حدود لها دفاعا عن هوية الجزائر وعن شخصيتها وتاريخها، وقد عاش أديبا مجتهدا باحثا عن الأشكال الجديدة في أطر سردية لا تفقد النص فرادته وأصالته·