مدننا عادلة في توزيع الحزن والقنوط والغبار والصخب والخبث من المؤسف أن تتحول بعض الجامعات إلى مصانع لتقوية البؤس والمآسي يهجو الكاتب المبدع سعيد بوطاجين مدنا لا تترك أثرا في روحه وينبه في هذا الحوار إلى خطر التدهور الذي تعاني منه بعض الجامعات. ويطرح مترجم نجمة كاتب ياسين قضية الاستغلال غير الأدبي لرواية الكبلوتي، إلى جانب قضايا أخرى يثيرها بعفويته وصراحته المعهودة وغضبه المستديم. حاوره: نورالدين برقادي تاكسانة، مسقط الرأس والفؤاد، خصصت لها كتابا، وهي دائمة الحضور في مقالاتك، حيث وصفتها في إحدى المرّات بمدينة الكرز والملائكة، كيف قضى السعيد بوطاجين طفولته بهذه المدينة ؟ هذه القرية هي أفضل جامعة وأحسن كوكب عرفته. ما زلت أعدّها قطعة من مجرّة بهية مليئة بالعفوية. لقد زرت مدن الناس وتشرّدت. عرفت ناسا مهمين وشخصيات مرموقة وفنادق فخمة، لكني أدركت، مع الوقت، أن لا شيء يعوّض تلك العلامات العظيمة التي أثثت طفولتي بسعادات لا حدّ لها. كان أهلي فقراء، وقد خرجنا من الثورة بعناقيد من الشهداء الذين ينامون الآن مطمئنين في مقبرة قرب بيتنا. هؤلاء جزء منّي ومن ذاكرتي، كما اليرقات والتربة والناس التعساء وحكايات الجدات والنسوة وجبل صندوح الذي يحرس القرية ويحفظ آلاف القصص. لم أعش طفولتي كالمحظوظين من أبناء البلد، وما أكثر هؤلاء، كنت بائسا جدا ومقهورا كأكواخ الطين والديس، لكنّي تعلّمت كثيرا من فقر الناس ويتمهم، ومازلت، إلى اليوم، أجرّ معي تاكسنة حيث يمّمت. إنها وطني الآخر المليء بالتوت والكرز والله والملائكة، وهي مائي وحداثتي الحالية والآتية. الجزائر العاصمة، باريس، تيزي وزو، ميلانو، خنشلة، أم البواقي، تبسة، بسكرة، جيجل.. حدائق كتبت على أوراق أشجارها خلال رحلتك الأكاديمية والإبداعية. ما هي خلاصة هذا الترحال؟ وما هو المكان الذي أثر فيك أكثر؟ علاقتي بالأماكن سيئة جدا، خاصة إذا كانت متخصصة في صناعة الفناء، مثل مدننا قاطبة. بي حنين إلى مدن الغرب وبعض المدن العربية الدافئة، المليئة بالتاريخ والإحالات الدالة. أما مدننا فهي عبارة عن أشباح. إنّها قاسية ومخيفة وميتة، ميتة ومرعبة. أخرج من هذه المدن منهكا، ولا تبقى في رأسي سوى ذكريات معدودة. لا يمكن الحديث عن مفاضلة بين هذه الأماكن، لأنها عادلة في توزيع الحزن والقنوط والغبار والصخب والخبث. أميل كثيرا إلى رمال الجنوب وفراغه الرائع، إن كان هناك فراغ. هناك أشعر أني أمتلك نفسي، ولو قليلا. وهناك أبصر أفضل. أرى الحيّز على حقيقته وأرى التاريخ والمدّ والعدم ورحلة الوقت والموت. أمّا عن خلاصة الترحال فلا شيء. قبضة ريح مضروبة في قبضة ريح أخرى. عبث حقيقي وأوهام لا حصر لها. أدركت أن لا شيء يعوّض الحياة التي مرت بقربي بسرعة، دون أن أحياها. « ما حدث لي غدا »، «وفاة الرجل الميت»، «اللعنة عليكم جميعا»، «حذائي وجواربي وأنتم»، «أعوذ بالله»، «تاكسانة، بداية الزعتر آخر جنة»... هذه بعض عناوين إبداعاتك، ما نوع التربة التي تصنع منها لغتك؟ أبحث باستمرار عن الطاقة الكامنة في اللفظ، كما يفعل الشعراء الجادون. هناك دائما إمكانات تعبيرية وشحنات دلالية يمكن استثمارها تأسيسا على الحفريات وتفعيل الطاقة الذهنية. يمكن للسياقات أن تمنح الكلمة قوّة تأثيرية أخرى، معنى آخر. وهناك المفارقات التي اشتغل عليها لتعليق المتلقي بمجانبة أفق الانتظار أو خرقه. أرى ذلك مهمّا وذا قدرة على إثارة أسئلة تجعل النص حيّا، قابلا لمجموعة من القراءات التي تهتم بالمعنى والشكل الناقل له. أميل إلى قدرات البلاغة وما تتطلبه من اجتهاد بحثا عن ممكنات ابلاغية مفارقة للمعيار المتواتر. الألفاظ محيطات، ولكلّ سياق خصوصية معجمية وطريقة في التعامل معها. أمّا العدول عن الأنماط فأعتبره إحدى هذه الطرائق الممكنة، بشرط أن لا يكون مجرّد ترف ذهني لا وظيفة له، مجرد ادعاء زائف يعتقد أنه يدخل في باب التجريب أو الحداثة. أنا لا أميل إلى هذه الرؤى التي لا تنبني على منطق مؤسس لسانيا وجماليا ودلاليا ووظيفيا. الأزمنة عند السعيد بوطاجين متداخلة وتفتقد للترتيب الواقعي (ماضي، حاضر، مستقبل)، وكمجتمع يمتد عندنا الماضي إلى الحاضر وجزء من المستقبل، برأيك متى نخرج من التاريخ ونساهم في صناعة التاريخ؟ عادة ما أفكر كثيرا في مسألة الأزمنة، كما تحدث عنها الروائيون وعلماء السرد، أو كما استقبلها خطأ بعض كتابنا وأسندوها إلى الحداثة. هناك مغالطات مفهومية ناتجة عن قصور في استيعاب النظريات الغيرية ومختلف الاجتهادات. الترتيب الواقعي له وظيفته، وللزمان المركب وظيفة إن تمّ استثمارها جيّدا، في علاقة بنية الشخصيات المعقدة بالبنية النصية كمنتوج يعكس حالة سديمية ما، أو حالة من الغموض والاضطراب والتشظي. كما أشارت إلى ذلك الدراسات الغربية التي أصدرت عن تجربة. قد تكون لهذه البنية علاقة بالسيرورة التاريخية التي أشار إليها محمد أركون بكثير من الصفاء. قلت لي متى نخرج من التاريخ لنصنع التاريخ؟ إن أنا فهمت سؤالك فنحن خارجون عن التاريخ منذ قرون. ربّما انتهى عقلنا مع مقدمة ابن خلدون واجتهادات المناطقة. ومنذ ذلك الوقت ونحن نحفظ ، مهملين قوّة الموروث وقيمته، غير آبهين بالعقل. ولم تستطيع الاستثناءات أن تكون مؤثرة. كل الأنظمة العربية ضد البحث وضد العقل، الجامعات كذلك. نحن بصدد صناعة أجيال لا يهمّها الفكر. ولا يمكن في حالتنا نحن، الحديث عن شيء اسمه صناعة التاريخ. يبدو هذا التفكير أسطوريا وغير مقبول، واقعنا لا يشجع سوى على هجرة الأدمغة، ولو إلى الجحيم، أما هذه الجامعات فإنها تشبه مقرات الحزب الواحد، هناك حيث تضطهد الروح والكلمة. مع ذلك أحيي بعض المؤسسات العربية وبعض الشخصيات التي تحاول إخراجنا من هذا الجحيم الذي ينتشر بسرعة فائقة. ذكرت في الندوة التكريمية المقامة على شرفك بالمركز الجامعي بخنشلة 2009، ذكرت مايلي: ".. إذا كانت هناك كتابة متشردة في البلد، فإنها كتابتي قاطبة، لم يحدث أن كان لي مكتب أو غرفة او حيز أو جغرافيه. كتبت متسكعا، على الحجر وعلى ركتبيّ وفي بيوت الناس وفي السيارة وفي المقاهي.."، هل لهذا التشرد الكتابي إيجابيات؟ ما زلت أستقبل طلبة الماجستير وقسم الدكتوراء في الرواق وفي ساحات الكليات التي مررت بها لا توجد مكاتب خاصة لذلك. ولم يحدث أبدا ان تحصلت على مكتب أشتغل فيه طيلة السنوات الثلاثين التي قضيتها مدرسا وباحثا. هذا أمر متعب ومشين. أما اليوم فلست بحاجة إلى متر واحد. ألفت التسكع. لقد غدا جغرافيتي التي لا يحدها حد. تكفيني حقيبتي وأصابعي. الحمد لله. بالمناسبة، أنا ممتن لمن فكر في الندوة التكريمية، مع أنها عادت عليّ بخسارة كبيرة. هناك ناس في هذه الدنيا يريدون ان تكون كسولا وثرثارا وذليلا. وهناك من يحبون موتك، وسيكونون سعداء جدا لو حدث ذلك في أقرب وقت ليقرأوا عليك الفاتحة بالعبرية الفصحى. أقول لهؤلاء لا يشرفني أن تمشوا في جنازتي، ستفسدون عليّ موتي.الإيجابيات؟ قد تعيش الأحداث والوقائع ككاتب معني بهذا الدمار لأنك قريب منه، لأنك فيه. وسيكون ما تكتبه صادقا في جهة ما ومؤلما، رغم التجليات الساخرة التي ليست سوى جزءا من المأساة الكبيرة التي تقوّض كل شيء، كل شيء، ومن المؤسف حقا أن تتحول بعض الجامعات إلى مصانع لتقوية البؤس والمآسي. في العشريتين الماضيتين اختار عديد الكتاب ركوب الطائرة أو الباخرة صوب برودة أوروبا أو حرارة الخليج, ما هي مبررات بقاء السعيد بوطاجين في وطن أصبح فيه الشرف لغير أهل القلم؟ الناس أحرار في خياراتهم, ومن يعيشون خارج البلد ليسوا أقل وطنية من الذين ينهبون الوطن من الداخل، ويعيثون فسادا من الداخل أيضا. الكتاب والمثقفون الذين هاجروا الجزائر لهم مبرراتهم وقناعاتهم. لم يختلسوا أموال الأمة. وهذا مهم. علينا أن نهتم بأولئك الذين أخذوا معهم البنوك بدلا من محاكمة الأقلام المتشردة في بلدان الناس، مطرودة من بلدانها. يحدث أن يشعر الإنسان بأنه مهاجر غير شرعي في بلده. وهذا هو إحساسي في السنين الأخيرة: وهو شعور عام لا يمكن إخفاؤه، الناس كلهم "حراقة" في هذه الجغرافية التي تحبس أنفاسك بالخطب المتدنية والممارسات المنحطة، في السياسة والدين والاقتصاد والتسيير. أشرت في الخبر الأسبوعي إلى أن الذين ذهبوا إلى أوروبا وأمريكا ودول الخليج كانوا أذكياء ومحظوظين، ولا داعي للأسف. أنا أصاب بالغثيان عندما أسمع الحديث عن استرجاع الأدمغة. يبدو لي هذا الكلام رديئا ومقززا. لماذا لا نتركهم وشأنهم؟ كأننا نبحث عنهم ليتقاسموا معنا بؤسنا. لا غير، ليصبحوا متدنيين ومنحطين وغير منتجين ونمامين. أنا أفكر جديا في مغادرة البلد، ولن أندم على ذلك. شبعت، كما يقال في تعبيرنا الشعبي, لا يمكن أن أستمر أكثر. أرض الله واسعة. المؤكد أني سأتهم بقلة الوطنية. لقد سئمت هذه الكلمة التي استثمرت لأغراض دنيئة. هناك ناس وطنيون جدا يملأون معداتهم بأرزاق الفقراء واليتامى ويذهبون إلى المناصب السامية وإلى المساجد. لكنهم لا يعرفون الله والوطن. هذا هو واقعنا ومنطقنا, وهذا طيننا. كتبت مؤخرا في جريدة وطنية: "أشعر بخجل مر عندما أفكر في الجيل الذي سيأتي بعدنا، بعد جده السعيد بوطاجين ومشتقاته وحاشيته ومن لف لفه، لقد أعددنا له فراغا بحجم ناطحات البؤس، سيلعننا أبناؤنا، لا خير فينا..."، كيف ينظر السعيد بوطاجين إلى المستقبل إنطلاقا من مؤشرات اليوم؟ لست متفائلا بالمستقبل إن أنا أسست على معطيات الحاضر. ثمة مؤشرات كثيرة تدل على صدوع ، الخراب لا ينتج سوى الخراب. لنتأمل مدننا وبيوتنا المسيجة بالحديد، الخوف يسكن خلايانا، وهذه علامة سيئة، هذه ليست مدنا، بل زنزات في الهواء الطلق، ثم ماذا قدمنا للشباب؟ وحدها الاختلاسات ناجحة، وإذا حدث أن حررنا جهاز العدالة فسنذهب إلى السجن كلنا، سيذهب الفاسد والساكت على الفساد العام الذي ينخر المجتمع من ألفه إلى يائه. لا أجد مشاريع حقيقية تحصن هذا الجيل والأجيال القادمة. إننا نبني أوهاما ونقنع أنفسنا بأنها مشاريع مستقبلية تؤهلنا لغزو الكواكب، ومن المؤسف أن نصدق هذا الكذب. إنه لأمر غريب ألا نبصر واقعنا بعيون صادقة، ألا نتسم بالشجاعة الكافية للحديث عن حقيقتنا، بإيجابياتها وسلبياتها. أعتقد أن النفاق فعل فعلته في كل الميادين، وليس من السهل تربية النفس على الصدق، لأن الصدق نظيف جدا، وكلما كنت صادقا كلما اقتربت من الهم والموت. مؤسساتنا عاطلة ورؤيتنا ظرفية، ولا يمكن التفكير في المستقبل تأسيسا على التقاليد الترقيعية التي تميز ثقافتنا، وإذا كان الشباب يهربون من البلد بطرائق انتحارية ومأسوية فلأنهم يبحثون عن مستقبلهم في جهات أخرى، ولو كانت في بطن الحوت. علينا أن ندرس هذه الظاهرة بموضوعية لنعرف إلى أين نحن ذاهبون، مع أن الدراسات لا تنفع كثيرا في هذه الفوضى المبرمجة التي يتم التخطيط لها بالبطن والأمعاء. سيجد الجيل القادم عمرانا كارثيا وأرضا مستلبة وثقافة هشة وعقلا متخصصا في بناء المستودعات والمآرب والسطو على الممتلكات، وكل أشكال الجريمة المنظمة وغير المنظمة. قال عنك الروائي الحبيب السايح: «...السعيد بوطاجين قامة أكاديمية مؤكدة وقامة معرفية ثابتة وظاهرة قصصية نادرة، لكنه إنسان حلّته أخلاق العلماء، إنه عالم الجزائر السيميائي الموعود، ولن يؤلم كثيرا أن لا تعرفه الجزائر الآن، أو في زمن قريب، فإن الجحود شيمة هذا الجيل ومؤسساته..»، أستاذي الكريم، لماذا لا نعرف قيمة الكبار إلا بعد رحيلهم ؟ لم يحدث في التاريخ البشري أن بنيت حضارة بالطبل والمزمار وكرة القدم والخطب الحماسية التي لا معنى لها. الطاقات الجزائرية استفادت منها دول أخرى لا تخطط انطلاقا من عقلية الطبل والمزمار والريع. شخصيا، لا أنتظر شيئا، لقد نفضت يداي من هذا الغبار العارم، ومع أني أحزن لما أجد أبناء البلد يبنون بلدان الآخرين، فإني أرى ألا خيار لهم، إما أن يعيشوا على الكفاف، منهارين عصبيا، أو أن يرحلوا، والأمثلة لا تعد. أمر آخر: عليهم، إن مكثوا هنا أن يتدربوا على كل أنواع الكذب والكسل والمداهنات وطأطأة الرأس. بين "رأس المحنة" بالخبر الأسبوعي و"السرد بالصورة" بالجزائر نيوز، جرعات التشاؤم مضاعفة في الحالة الأولى، هل الواقع في حاجة إلى طلاء أسود أم إلى شيء آخر؟ السرد بالصورة مقالات أكاديمية إلى حد ما، وعادة ما تهتم بمسائل تقنية متخصصة، أما رأس المحنة فهو أنا وأنت والآخر، هناك سريالية وعبث وسخرية ونكتة، طريقة لنقل هذا الواقع الغريب الذي يعجز أمامه أكبر كتّاب الدنيا، لا يمكن أن تضيف السواد للأسود، كما لا يمكنك الهرب من الظلام بالجري في الظلام، كما يقال، لذا، عليك أن تجتهد للتعبير عن اللامعقول، وذاك ما فعلته، بداية من عنوان الأعمدة. ترجمت رواية "نجمة" للمرحوم كاتب ياسين، أين تكمن قوة النص الكاتبي؟ نعم. كل ترجمة هي مقاربة من المقاربات الممكنة، أما هذه الرواية فيجب أن يهتم بها متخصصون، الأيادي غير الآمنة كثيرة، وعادة ما استثمر هذا النص لأغراض غير أدبية. قد أتحدث عنها لاحقا، لقد حدثت مظالم ومفاسد مردها استغلال الرواية لأهداف أخرى، غير مقاصد الكاتب. رواية "نجمة تائهة" للكاتب جان ماري غوستاف لوكلوزيو، هي آخر ما ترجمته، ماذا أعجبك في هذا العمل؟ ترجمت هذه الرواية بالاتفاق مع مدير دار العلوم ناشرون ببيروت, وقد نشرت هناك. هذا العمل مهم لأنه يتناول الصراع العربي الإسرائيلي من زاوية نظر أخرى, مختلفة قليلا عن الرؤى السياسية المعيارية, وهو عمل متقن من حيث السرد والبناء. ختاما، ما هو آخر ما أوحى به قلم الكاتب السعيد بوطاجين؟ أشتغل حاليا على بعض القضايا المتعلقة بالمصطلح الجديد, في النقد وفي الأدب, كما أهتم ببعض القواميس لنقلها إلى العربية, أضع اللمسات الأخيرة لكتاب نقدي وأكتب رواية, أقرأ كثيرا ما يكتب في الجزائر وخارجها. لكني أعيش مرارة حقيقية, حالة اكتئاب لا تنتهي. تحياتي لك ولجريدة النصر التي تعلمت منها كثيرا مذ كنت بحجم خنصر.