موقف الكاتب والفيلسوف الفرنسي المثير للجدل جان بول سارتر(1905-1980) من القضية الفلسطينية ظل سنوات مرفقا بالشك، والمرونة وعدم الوضوح، وبعد تسلمه شهادة “دكتوراه فخرية" من جامعة القدس، بالسفارة الإسرائيلية بباريس (1976)، صرح بشكل ديبلوماسي، لا يخلو عن عدم ثبات الرؤية قائلا: “قبلت الشهادة لغرض سياسي، ولتوطيد العلاقة بين الشعب الفلسطيني الذي أدعمه وإسرائيل التي أعتبرها صديقة". عبارة رومانسية في واقع سياسي مشتعل، جاءت أربع سنوات قبل رحيل الكاتب وأربع سنوات بعد توقيعه مقالا غير معروف(صدر في صحيفة La cause du peuple، صحيفة أسستها مجموعة من المثقفين - أغلبهم في الثلاثينيات -، تخرجوا مثل سارتر من مدرسة الأساتذة. يطلق عليهم تسمية “الماويين". وصل دعم “الماويين" للقضية الفلسطينية حدّ رشق سفارة الأردن بباريس بزجاجات المولوتوف الحارقة بعنوان “عن الإرهاب"، ساند فيه حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم، وعن أرضهم، مهما كلفت القضية من دم وعنف وضحايا، مباشرة عقب اعتداء كومندوس فلسطيني على إسرائيليين خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ(1972). مقال يكشف واحدا من المواقف غير المعروفة عن سارتر الذي غيّر لاحقاً رأيه ومال إلى مساندة إسرائيل سياسيا. «غاية الإرهاب هي القتل" كتب صاحب “الجدار" في المقال نفسه، مضيفا: “إنه سلاح قاتل، لكن المستضعفين لا يمتلكون وسيلة أخرى" مبررا بالتالي ما حصل شهر سبتمبر 1972 بميونيخ (ألمانياالغربية آنداك)، لما قامت مجموعة فلسطينية مسلحة(تطلق على نفسها اسم أيلول الأسود) باختطاف واغتيال أحد عشر عضوا من الوفد الأولمبي الإسرائيلي، وشرطيا ألمانيا. كيف يبرر فيلسوف بحجم وقيمة سارتر حق الفلسطينيين (بوصفهم مستضعفين) ممارستهم العنف المسلح، في النضال من أجل الأرض، ثم ينقلب على رأيه، بعد بضع سنوات، ويصير داعما لإسرائيل ولأطروحة الدوليتن المتجاورتين، وينفي الإرهاب شكلا ومنطقا، ويعتبره فعلا يتنافى مع طبيعة العمل السياسي والمنطلق النضالي؟ ويكتب يف. ك، في مقال نقدي تعقيبا على مقال جان بول سارتر: “جاءت مباركة سارتر للإرهاب ضمن سياق دفاعه عن الحركات التحريرية، ويقصد هنا تحديداً الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. الفلسطينيون رفضوا عام 1947 قرار الأممالمتحدة القاضي بتقسيم البلد إلى دولة عربية وأخرى يهودية، ثم تعرضوا للاحتلال عقب حرب الستة أيام(1967)، وبانت فرصة استعادة أرضهم جد ضئيلة بسبب افتقادهم للسلاح ولدعم القوى السياسية". ويواصل سارتر كشف وجهة نظره عن واقع الصراع العربي- الإسرائيلي بداية السبعينيات: “السلاح الوحيد الذي يتوفر عليه الفلسطينيون هو الإرهاب (...) إن فرنسا التي قبلت التفاوض مع إرهاب جبهة التحرير الجزائرية التي قادت حرباً ضد الفرنسيين ليس أمامها سوى قبول التفاوض مع الفلسطينيين. هذا الشعب المهجور، المخدوع والمنفي". وجاءت خلاصة سارتر من ربطه بين المقاومة الفلسطينية والمقاومة الجزائرية ضد فرنسا، ومن حق الطرفين في الدفاع عن الأرض، مع نقطة مشتركة تجمع بينهما هي اختلال الموازين العسكرية. فجان بول سارتر أكد دعمه لعمليات جبهة التحرير في الجزائر ضد الفرنسيين، مدنيين، نساء أو أطفالاً، مع العلم أن المقاومين الفلسطينيين يقومون بالفعل نفسه في الشرق الأوسط. في 5 سبتمبر 1972 صباحاً، اقتحم ثمانية مسلحين فلسطينيين جناح الرياضيين الإسرائيليين في ميونيخ. لم تكن نيتهم القتل، بل فقط احتجازهم ومقايضتهم بمائتين وثلاثة وأربعين أسيراً فلسطينياً في السجون الإسرائيلية. لكن، وقع إسرائيليان ضحية الاقتحام، وأُلقي القبض على تسعة آخرين وتمّ إخراجهم من القرية الأولمبية، ثم اقتيدوا إلى مطار ميونيخ، حيث طلب الكومندوس الفلسطيني طائرة تنقلهم إلى بلد عربي لا يمانع في استقبالهم. ووقع ما لم يكن في الحسبان بعد تدخل الشرطة الألمانية وسقوط ضحايا من الجانبين. ويضيف سارتر ببرودة دم: “لا بد من الإقرار بأن عملية ميونيخ كانت ناجحة"!!. جاء مقال سارتر في أكتوبر1972، أي بعد شهر من العملية، ونشرت الصحيفة نفسها (La cause du peuple)مقالاً سبق مقال سارتر بحوالي الشهر جاء فيه: “كل الذين يعيشون في إسرائيل ليسوا دعاة لفرض الشقاء على الشعب الفلسطيني. لذلك وجب التفريق بين الإسرائيلي العادي والجندي". كان سارتر حينها الوحيد الذي دافع عن مرتكبي الاعتداء في وقت كانت تنشر فيه الجرائد الأخرى برقيات ومقالات التنديد. ولم يجد إلى جانبه سوى الكاتب المتمرد جون جينيه، المقرب من الأوساط الفلسطينية، والذي عبّر عن العملية بطريقة ساخرة قائلاً: “إنما هي مجرد لدغة حشرة على رقبة ألمانيا الثخينة". ويضيف سارتر: “التنديدات العنيفة التي نشرها أصحاب القلوب الكبيرة في الصحف ليست تعني لا الإسرائيليين ولا الفلسطينيين. كما لو أنهم يقولون من الممكن أن نقتل إسرائيليين في بلدهم، ولكن من المهم احترام شرف الألعاب الأولمبية. هذه التظاهرة المقدسة التي أسسها اليونانيون القدامى. هذه الردّة كانت منتظرة. ومن غير الممكن اعتبارها فعلاً منحطاً. لو أن العملية وقعت في إسرائيل فإن الصحف كانت ستكتفي بمقال واحد لا أكثر". سارتر الذي رفض تسلم جائزة نوبل للآداب1967(كما رفض جوائز وتشريفات أخرى، مثل ميدالية جوفة الشرف)، قبل تسلم دكتوراه فخرية من جامعة القدس، أضاف، في صالون السفارة الإسرائيلية بباريس، وبحضور وزيرة الثقافة الفرنسية اليسارية السابقة فرنسواز جيرو، قائلا: “إذا كنت اليوم منشغلاً بإسرائيل فأنا منشغل أيضاً بالشعب الفلسطيني الذي عانى كثيراً. فمن خلال الجمع بين الطرفين يمكن إيجاد حل لمشكلهم. أؤمن بهذا الحل ولذلك قبلت تسلُّم الدكتوراه الفخرية التي أرى فيها عنصر سلام". ستة أشهر قبل هذا التاريخ وبعد الإعلان عن اسمه لتسلم الدكتوراه صرح سارتر لصحيفة “تريبين جويف": “قبلت هذا التكريم تعاطفاً مع إسرائيل"، فبداية من 1973شرع الفيلسوف الفرنسي في تغيير بعض آرائه بعد التعرف إلى شخص “بيني ليفي" الذي عمل سكرتيراً له. حيث سجلاً معاً محادثة حول الحرية والسلطة. كان بيني ليفي يعيش فترة البحث عن هويته اليهودية ووجد سارتر إلى جانبه ليساعده. وأعادا معاً اكتشاف الفيلسوف الفرنسي اليهودي، ذي الأصول الليتوانية إيمانويل ليفيناس، والذي درسا أعماله في وقت سابق. كما توطدت جداً، في الفترة نفسها، علاقة سارتر مع المفكرة والمختصة في علم التلمود، آرلتألكايم، التي تبناها عام 1964. هذان الشخصان ساهما، بشكل كبير، في مساعدة سارتر الذي كان عاجزاً عن القراءة والكتابة. “كنت أرى الأضواء والألوان، لكنني لا أفرق بين الأوجه ولا بين الأغراض" هكذا عبر سارتر عن حالته في 1976، سنة التغير السياسي في حياته، من دعم القضية الفلسطينية إلى الاعتراف بإسرائيل.