ألقت المجزرة الدموية التي وقعت فجر يوم أول أمس السبت، بميدان رابعة العدوية بين صفوف المعتصمين من جماعة الإخوان المسلمين وبين قوات الجيش والشرطة بظلالها على الأزمة في مصر، وقد باتت كل الاحتمالات قائمة من أن يكون هذا الحدث الأخطر منذ عزل الرئيس مرسي مقدمة لحرب أهلية قد لا يتم تفاديها إلا بمبادرة جادة تشارك فيها جميع أطراف الصراع وتستهدف أساسا سبل البحث عن مصالحة شاملة لا تقصي أي طرف وتتطلب من الجميع الالتزام بما يمكن أن تسفر عنه مثل هذه المبادرة. كان نجم الإخوان المسلمين في مصر قد صعد فجأة إلى السماء مع ما عرف بثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت بحكم الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك وبتغول أبنائه والحاشية التي كانت تحيط به، اعتقد بعض الناس أن الدكتور مرسي الذي قيل بأنه قد سرق الحكم من بقية إخوانه الإخوانيين، وأنه كان أشطر حتى من خيرت الشاطر نفسه وهو الرجل الذي كان يُعتقد أنه سيتولى حكم مصر سيكون الأمل الجديد لتلك الجماهير المطحونة بفعل الفقر وتراكم المشاكل الاجتماعية الحادة من بطالة وسكن خاصة بالنسبة لتلك الفئات الشبانية الثائرة التي تصدت بصدور عارية لحكم مبارك وكانت السبب في إسقاطه، ولم تكن تعتقد أن ما توهمت بأنه ثورة سيتحول إلى مجرد انتفاضة مسروقة من طرف من كانوا يعيشون في الظل وتحت الأرض على امتداد أكثر من ثمانية عقود وهم جماعة الإخوان المسلمين. كان ظن الناس في أم الدنيا أرض الكنانة مصر وكما توهم قبلهم ناس كثيرون من أبناء الجزائر في مطلع التسعينيات مع جماعة الفيس أن حكم الإخوان المصريين سيجعل الخير يعم والعدل يسود كل ربوع مصر وأن الناس "الغَلَابَة" والمحرومين والمُعْدَمين خصوصا سيعيشون جنة الدنيا مع الوافدين الجدد على الحكم في مصر الجديدة بعد أن ظل الخطاب الديني الحماسي الشاحن للمشاعر والمشبع بالأحلام الوردية والمُدَعم بالآيات القرآنية الكريمة والمسند بالأحاديث النبوية الشريفة سَيُدْخل المصريين كافة إلى عدل وعدالة العمرين العادلين: بن الخطاب وبن عبد العزيز رضي الله عنهما، بل وتوهم آخرون أن تنبعث من جديد حضارة مصرية لاهي بالفرعونية الجاهلية ولا هي بالدولة الغارقة في الحكم المطلق، إذ بات الناس يتوقعون أن تعيد مصر الجديدة للعرب والمسلمين أمجاد الماضي على غرار دولة العباسيين والأمويين وحتى الأندلسيين عبر جمهورية إخوانية عادلة انطلاقا من أدبيات حسن البنا وسيد قطب ويوسف ندا والهضيبي ومحمد عاكف انتهاءً بمحمد بديع وكل التراث التاريخي للفكر الإخواني الذي يعتمد القرآن كدستور جديد للدولة، وذهب الخيال بكثير من الناس أن حكم الإخوان لن يكون استنساخا لتجربة أردوغان غول وحزب العدالة والتنمية في تركيا بل أنه سيكون أكثر تفتحا وإشعاعا وتقدما لكثير من شعوب المعمورة عبر القارات الست التي يتواجد الإخوان بأراضي 72 دولة من دولها المختلفة في العرق واللون والطبيعة الجغرافية. ولكن وقبل أن ينقضي عام على تولي مرسي الحكم في مصر بدا وكأن هؤلاء الإخوان قد فقدوا بوصلتهم في تسيير الدولة خصوصا بعد أن صرح المهندس ونائب رئيس جماعة الإخوان خيرت الشاطر، من قلب العاصمة الأمريكيةواشنطن أن الإخوان لا يضيرهم إطلاقا إقامة دولة مدنية في مصر، كما أن أحد منظريهم وقادتهم البارزين وهو عصام العريان، تحدث من جامعة القاهرة أن الإخوان مع دولة مدنية ديمقراطية لا مع دولة دينية، وقبل ذلك تحدث الدكتور مرسي نفسه بمجرد انتخابه رئيسا لمصر وبشكل مبهم عن ضرورة إقامة الدولة المدنية في مصر فيما فُهم من قبل البعض أنه محاولة لزحزحة تدخل العسكر في القرار السياسي لقاهرة المعز، لكن عددا من الناس بما فيهم بعض الذين انتخبوا الإخوان راحوا يتململون في ظل تفاقم المشاكل الاجتماعية وعجز حكومة الدكتور قنديل التي أتى بها مرسي، وتحول ذلك التململ إلى ما وصف بثورة 30 جوان، حيث خرجت ملايين المصريين مناهضين لمرسي وراحوا يهتفون بسقوط حكم الإخوان ككل. وإذا كانت الثورات قد ابْتُذلَت إلى الحد الذي تعدد فيه مفهوم هذا المصطلح لدى كل فريق وبات شعار الثورة والثورة المضادة يصنع الحدث في المشهد الشارعي في مصر بين ميدان رابعة العدوية الذي تحول إلى مبكى إخواني بامتياز يندب فيه المؤيدون لمرسي حظ الشرعية الموؤودة وترتفع فيه الأصوات المنادية بعودة الدكتور المعزول وإلا فإن الجهاد سيكون هو الحل لاسترداد الحكم المسلوب، وبين جماهير ميدان التحرير الذي أضحى ساحة استعراض للقوة ضد حكم الإخوان بدعوى أنهم عجزوا بعد مرور عام كامل على توليهم لحكم لم يتمكنوا فيه سوى من ملء رؤوس الشعب بالخطب الفارغة بدل إشباعهم ب "العيش" بل وحتى بالفول الأكلة اليومية للمواطن المصري البسيط. كان ميلاد جماعة الإخوان المسلمين قبل 86 عاما مضت على يد الشيخ حسن البنا بمدينة الإسماعلية كجمعية دينية خيرية تدعو إلى الموعظة الحسنة ومكارم الأخلاق وهذا قبل أن تنتقل قيادة الجماعة إلى العاصمة المصرية عام 1932. ولم يظهر توجه جماعة الإخوان المسلمين نحو السياسة سوى في عام 1938 عندما عَرَضت في إحدى وثائقها ما وصفته بالحل الإسلامي للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، ثم راحت تعارض مع حزب مصر الفتاة الدستور المصري لتلك الفترة من الحكم الملكي على أساس أن الدستور الوحيد الذي يجب أن يُعتمد هو القرآن الكريم، كما عارضت الجماعة مفهوم القومية المصرية والعربية الذي كان طاغيا في تلك الفترة واقترحت بديلا له وهو مفهوم القومية الإسلامية. وقد اصطدمت الجماعة بحكومة النقراشي الذي لجأ إلى حل جماعة الإخوان. وبعد انتصار ثورة يوليو 1952 للضباط الأحرار وتولي عبد الناصر الحكم إثر زحزحة اللواء محمد نجيب تقرب الإخوان من قائد الثورة الفعلي البكباشي الصعيدي جمال عبد الناصر خاصة أن مجموعة من الضباط الأحرار كانوا ذوي ميولات إخوانية، إضافة إلى أن الإخوان أيدوا تلك الثورة ضد الملك فاروق في وقت مبكر. ولكن ذلك العشق الإخواني لتلك الثورة لم يدم طويلا وخاصة بعد أن رفض عبد الناصر أية وصاية من الإخوان على توجهاته السياسية. وكان حادث المنشية بالإسكندرية عندما تم إطلاق النار على عبد الناصر وهو يخطب فوق المنصة من طرف شخص قيل بأنه كان من جماعة الإخوان الفتيل الذي أشعل نار الحرب على الإخوان من قبل جماعة عبد الناصر الذي زج بالعديد منهم في السجون. وقد كان قمع الإخوان من قبل رفاق ناصر عنصرا أدى إلى عودة هؤلاء إلى الدهاليز تحت الأرض منذ ذلك التاريخ وإلى غاية وفاة عبد الناصر ومجيء السادات عام 1971 إلى الحكم، حيث بدأت أحوالهم تتغير وبدأوا يخرجون من جديد من تحت الأرض. وقد حاول السادات التقرب إلى الإخوان حتى أُطْلق عليه وصف "الرئيس المؤمن" ولكن ذلك لم يشفع له عند جماعة الإخوان الذين اغتالوه شر قتلة في حادثة المنصة الشهير يوم 6 أكتوبر 1981 أثناء الاحتفال العسكري الضخم بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر 1973. وبعد هذا المسار الطويل للإخوان في مصر التي تعتبر الحاضنة الأم لقيادتهم الأولى ولأفكارهم وأدبياتهم فما انعكاسات ما يحدث في الشقيقة مصر بعد أن سال الدم بينهم وبين أضدادهم؟، بل وما مستقبل الإخوان في مصر والعالم العربي والإسلامي عموما وحتى بالنسبة لجماعاتهم التي تنتشر في مختلف قارات العالم؟ يبدو لي من خلال سير الأحداث المتسارعة في مختلف المدن المصرية وخاصة في القاهرة وانتقال المظاهرات والتجمعات إلى العنف والعنف المضاد من قبل الطرفين وتصاعد لغة التهديد والتهديد المضاد، أن الأوضاع تتجه للأسف إلى انسداد سياسي وهو ما من شأنه أن يدفع إلى العنف المسلح خاصة بعد ظهور العديد من المؤشرات عن ذلك وخصوصا حادثة انفجار السيارة المفخخة بالعريش في شبه جزيرة سيناء والعمليات الإرهابية التي طالت عددا من أفراد الجيش المصري خصوصا في سيناء وسقوط عشرات القتلى والجرحى من المعتصمين بما فيهم المعتصمون قرب مقر الحرس الجمهوري والتي صاحبها ارتفاع أصوات من قادة الإخوان تدعو للثأر لدماء أولئك القتلى وهو ما فهم بأنه عملية تبني للفكر الجهادي الذي هو واحد من أبجديات وأدبيات الفكر الإخواني، حيث كان من بين شعاراتهم عند النشأة هي: "القرآن دستورنا و الجهاد سبيلنا|. وكان رد فعل القوات المسلحة المصرية أن العمليات التي طالت عددا من أفراد الجيش المصري سيتم ردعها بالقوة اللازمة في ظل محاربة الإرهاب. فهل أن عملية تنحية مرسي والاستمرار اليومي في التجمعات والتظاهر والانتقال إلى العنف بما فيه العنف المسلح عبر عمليات باتت توصف من قبل المؤسسة العسكرية بأنها عمليات إرهابية بدأت أصابع الاتهام توجه فيها للإخوان وفي مقدمتهم الرئيس المعزول في محاولة لمحاكمتهم بتهمة تسببهم في مقتل عدد من العسكريين والتخابر مع دولة أجنبية ستكون من بين العناصر المفعلة لعنف مسلح قد يؤدي من جهة إلى أزمة أمنية بكل ما يمكن أن تخلقه من عنف وعنف مضاد قد يتحول إلى إرهاب قد تشارك فيه جماعات مسلحة حتى من خارج مصر ولجوء الجيش إلى الرد بقوة على ذلك مما سيؤدي إلى عودة الإخوان إلى الدخول تحت الأرض من جديد، وقد يؤثر ذلك كله على وضع الإخوان والإسلاميين في مختلف جهات العالم ويطرح علامات استفهام على مستقبلهم ليس في مصر وحدها ولكن في الوطن العربي كله وأساسا في تونس التي باتت مهددة بأزمة أمنية وسياسية حادة إثر اغتيال أحد قادة المعارضة. رغم أن الوضع العام لإخوان الجزائر وخصوصا بالنسبة لجماعة حمس يختلف عما هو عليه أمر إخوان مصر، فإن مستقبل إخوان الجزائر عبر محاولة الوصول إلى رأس السلطة يبقى مرهونا بمآل إخوانهم في مصر نظرا للعلاقات الوطيدة التي تربط قادة الجماعة في البلدين وتأثر إخوان الجزائر بنظرائهم في مصر، صحيح أن الأمر يختلف بالنسبة لمسألة المشاركة في الحكم بالنسبة لإخوان الجزائر، الذين يتواجدون منذ حوالي عشريتين من الزمن في مختلف دواليب الدولة ومؤسساتها، رغم أن هذه المسألة تكون قد أضرت بهم حيث يلاحظ عبر الاستحقاقات التشريعية تراجع شعبيتهم بالنظر إلى النتائج المحصل عليها خصوصا في بعض الولايات التي كانت تعتبر معقلا هاما لهم. ومهما يكن من أمر فإن مشاعرنا تبقى مشدودة إلى مصر، ذلك أن ما يصيب هذا البلد الشقيق من مصائب ومحن لا قدر الله يجعلنا ندعو من صميم قلوبنا أن يعجل الله بفك عقدة أرض الكنانة ويحل أزمتها المتصاعدة، لأن شعبها الطيب يجب أن يتعظ بما وقع لأشقائه في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي عندما أصبحت الجماعات الإرهابية تقتل باسم الدين الإسلامي حتى الأئمة فوق المنابر والأطفال الرضع في حجر أمهاتهم والنساء الحوامل والشيوخ والعجائز بدعوى الاحتجاج على توقيف المسار الانتخابي. ويبقى في النهاية أن العنف المسلح إن تصاعد في مصر خصوصا بعد الأحداث الدامية في رابعة العدوية لن يحل على الإطلاق المشاكل التي يعاني منها المواطن المصري البسيط، ولكنه كفيل بتجذير أزمة متعددة الأوجه سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية وحتى عرقية ودينية نظرا للواقع الذي تعرفه مصر حاليا. بل إن من شأن ذلك أن يجعل مصر تنكفئ على نفسها وينهي الدور الاستراتيجي الذي كان يمارسه هذا البلد الضارب في الحضارة، وهو أمر لا يخدم في النهاية سوى المشروع الغربي وخصوصا إسرائيل التي استفادت من هذا الربيع العربي الدموي بامتياز. لقد شكك الكثير في بداية الأزمة من أن المواطن المصري بطبعه ميال إلى عدم الانجرار وراء العنف، ولكن هؤلاء نسوا أن العنف لا يجلب إلا العنف وأنه لا وجود لشعب هادئ وشعب عنيف إلا في أذهان من لا يعرفون حقائق التاريخ وطبائع الشعوب. وإنه لا يسعني في النهاية إلا أن أدعو مع كل الشرفاء في هذا العالم أن يحفظ الله شعب مصر ويبعد عنه شبح مأساة وطنية كما اكتوينا نحن في الجزائر بآثارها المدمرة وكادت لولا شرفاء هذا الوطن والجيش الوطني الشعبي ألا تبقي على الأخضر واليابس وتدمر أسس الدولة الوطنية. وإنه على إخوان مصر كي لا تضيع مصر في برك من الدماء والدموع وفي حرب أهلية مدمرة أن يعرفوا أن صراعهم ليس مع أحفاد عبد المنعم رياض وسعد الدين الشاذلي وأبطال عبور حرب أكتوبر ولكن خلافهم كان وسيبقى مع أحفاد بن غوريون ودايان وإشكول وإلي عازر وشامير ورابين وشارون وغولدا مائير والبقية الباقية من أقطاب الفكر الإرهابي الصهيوني. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته