يتناول الباحث عمار بلخوجة سيرة شخصية حيمود براهيمي المشهور ب "مومو" من زاوية جديدة. في كتابه "مومو الشاعر المبارك"، ينشر لأول مرة قصائد غير معروفة، تحاكي فلسفته في الحياة، وعلاقة العشق السرمدية ب "بهجته" الجزائر. المدينة التي سكنت الروح، فدافع عنها بصراحة شديدة أزعجت الكثيرين حوله، ممن قرروا "نبذه" ومقاطعته أدبيا وإعلاميا. يعترف عمار بلخوجة، في مقدمة عمله أن الخوض في سيرة حيمود براهيمي كان ضربا من المغامرة، وعدم اليقين في العثور على شيء جديد يمكن أن ينفض الغبار على حياة رجل ارتبط دائما بمدينة سيدي عبد الرحمن، وتوفي بها في الفاتح جوان 1977. وبفضل الدكتور محمد مداسي، توصل بلخوجة إلى إثراء رصيده الوثائقي، الذي لم يكن في بداية الأمر سوى قصاصات من الملحق الأدبي ليومية "المجاهد"، حيث نشرت بعض القصائد في السبعينات. ومداسي كان يحتفظ بمجموعة نادرة من أعمال "مومو" وكذلك صديق آخر الشيخ عمر شلابي باعتباره من أشد المعجبين بشخصية حيمود. والفضل في توفر المادة التي ستشكل لاحقا مرجعية هذا الكتاب الصادر عن منشورات "الإبريز"، يعود في الأصل إلى الشاعر ذاته: "عندما كان مومو يحب شخصا، كان يهديه جزءا من أحلامه، ويمنحه نسخة من قصائده المكتوبة باللغة الفرنسية. لم يكن يدري أن سلوكه هذا سيعود عليه بالفائدة مستقبلا. إذ سمحت أولى الأشعار التي أهداها بطبع كتاب "مومو سحر الكلمات" للزهاري لبتر، على حد قول بلخوجة في معرض حديثه عن حيثيات إنجاز هذه المغامرة. فقد أصبح من "الواجب" -يعقب المؤلف- أن تنصف الذاكرة الجماعية أحد أعلامها المغيبين، رفيق محمد زينات السينمائي الجميل، وأن تحتضن المكتبات الجزائرية القصائد "الحيمودية" أخيرا، وتحتل مكانتها المستحقة على رفوف الثقافة والفن. قرأ بلخوجة القصائد المجهولة إذن، فاكتشف مساحات لامتناهية من الأفكار والجمال، فخلص إلى أن: "أشعار حيمود ليست اجتهادا أدبيا فحسب، بل روحي أيضا. ذلك أن هذه الشخصية النبيلة، تسحر النفس، وكشاعر مبارك، يسافر بك عبر الجمال المنتهى. يكشف لك أسرار ورموز وأبعاد المكان" ويضيف: "في الحقيقة حيمود ابراهيمي لم يكن شاعر القصبة الذي عرفناه، كان أيضا الميتافيزيقي الذي نجهله". منشورات "الإبريز" الفتية في الساحة الوطنية للنشر، حاولت أن تمنح "مومو" غلافا يمكن أن يكون بمثابة البرواز الذي يحمل صورة شخصية لطالما تثير ألف تعليق وتعليق كلما هم أحد منا بذكره. الأصفر الغالب على الغلاف يشبه الذاكرة التي بدأت تفقد نصاعها بمرور الوقت، وفي القلب تبقى الذكرى بالأبيض والأسود، لونان يصبحان الأصل بعد أن يفقد المرء ألوان الحياة. لكنها صورة تذكارية معبرة، توقع البقاء هاهنا، ترفض الانحلال في دخان الوقت المستعجل. عاش "مومو" يتألم كلما سقطت قطعة من المدينة القديمة للجزائر العاصمة، مع كل حجر فتته نوائب الزمن، كان صاحب اللحية البيضاء يبكي اندثارها. يغضب بصوت عال لحظة اختفاء مربعات الزليج المسروق أو المسحوقة بضربة مطرقة بليدة. كان "مومو" يحن إلى ألوان أرض الدار الزاهية، وإلى جدرانها الوفية للأزرق المتوسط، كان يلوم الجزائر المستقلة على إهمالها لذاكرتها، لم يترك لسانه حبيس خوفه من الآخر، فانتشرت انتقادات حيثما حل، يقول أن القادة الجدد فرطوا في ماضيهم. لعله "اللسان السليط" السبب في وجود زمرة من الحاقدين والناكرين لدوره كشاعر ومثقف ورجل سينما ورياضة. كان "مومو" يشعر بالقلوب الضيقة من حوله، من العيون شبه المغمضة حينما يبدأ في الكلام، ولعلها البصيرة أيضا، وقد قال يوما لمحي الدين بشطارزي: "صراحتي أضرت بمصالحي". صرامته في الرأي، جعلت السلطات السياسية في البلاد آنذاك، تتعامل معه بحذر وريب. ويضيف مؤلف الكتاب في معرض استنتاجاته أن "مومو" طوق إعلاميا، ولهذا لا نعثر اليوم للرجل على حوارات أو بورتريهات أو تسجيلات، أو أرشيف معين يقدم الرجل لأجيال اليوم. حتى حواره مع ليلى بوطالب (في الثمانينات) القناة الاذاعية الثالثة، لا أثر له الآن؟ لا شيء بقي من إرث مومو الأدبي رغم أن عطائه بدء من سنوات الخمسين من القرن العشرين. لا شيء يطفئ نار حسرته على "بهجته" سوى الكلمات. وإذا لم تكن تخرج شعرا كانت تتحول إلى كلمات طائشة تصيب كل متهم في اندثارها. ظل حيمود ينتقد اللامبالاة التي يظهرها العام والخاص حيال المدينة القديمة للجزائر العاصمة، يواسيها في وحدتها ومرضها المتأزم، يخبرها في نكبتها أنه يحبها وأنها ستظل معشوقته، ويرفض أن تكون لغيره. يخبرنا بلخوجة أن: "الأشعار التي كتبها "مومو" عن القصبة، لم تكن مجرد أبيات تحكي الحنين إلى الماضي. ولا تروي قصة حب غابرة. كان كل مقطع من قصيده يفصل حالة شعورية أعمق بكثير من الكلمات التي قد يقرأها الواحد منا بسرعة". فالقصبة ثم القصبة وأخيرا القصبة... هكذا اختار الشاعر المبارك مجال وجوده، وعلى مقاس "البهجة" انطلق في تفكير فلسفي عميق في أسئلة سافر بها بعيدا، فكانت المنطلق لعوالم ثانية، ولمعت في عينيها أضواء أوروبا المغرية، إلا أنه كان يراسلها ويبني في غربته أبياتا تؤسس لتفاعله معها. عشق براهيمي للقصبة لا يختلف عن حكاية قيس مجنون ليلى، ولا غيرهما من الثنائيات المخلدة في كتاب العشق الإنساني. مومو -يقول بلخوجة- استحوذت عليه القصبة واستحوذ هو عليها، وحينما كان يردد "يا بهجتي" في أكثر أشعاره، كان يشرع في حوار طويل صريح مع هذه الأرض التي أحبها. "البهجة" فهمت تحذيرات عاشقها، عرفت أنها لن تكون لغيره، أنها حرمته وعزته وأرضه. كان ل "مومو" نظرة شاملة، ممتلئة، غادقة في المشاعر حيال القصبة. تأملها كعاشق مجنون ابتداء من منارته القريبة من اليابسة. "المول" بحد ذاته يعد موقعا مقدسا، معبدا للتأمل في هذه المدينة التي تدير ظهرها للبحر، دون أن تحرم نفسها من زرقته. عند "المول" كان هو يستحوذ على البحر. كان الأزرق ملكا له. ومعه كان ينسج خيوط أفكاره ليغرسها عميقا حينما تنتابه رغبة الغوص إلى أعمق نقطة يتحملها جسده. في عمق البحر، كان الشاعر يستذكر عظمة الخالق. كان يصلي تحت الماء، كلما اكتشف خبايا البحر، المتوارية عن الأنظار. يخبرنا بلخوجة على ضوء رحلته الاستكشافية لعوالم "الرجل السمكة" كما كان يحب أن يصف نفسه، أن الراحل حيمود تصالح مع البحر المتوسط، وعاش معه في وئام دائم، ولأنه أخلص في حبه له، ساعدته القوى الخفية في تحطيم الرقم القياسي العالمي في الغطس. متغلبا على رياضيين فرنسيين بالدرجة الأولى في ألعاب رسمية، لولا تنكر المنظمين له فقط لأنه جزائري أو عربي مسلم. أما العاصميين فكان صاحب الشعر الطويل المنسدل واللحية المتناثرة يثير إعجابهم فلم يبخلوا عليه بالتصفيق. لعلها هتافات أثلجت صدره في تلك اللحظة، رسمت على سحنته ابتسامة ذكية ولعلها ماكرة من يدري؟ كثيرا ما نعت بالشخص الغامض، لم يكن في الواقع سوى رجلا عميقا في أفكاره. وبدل السعي لفهمه، حاد الغير عن البعد الفلسفي في نصوص حيمود براهيمي. كانت إجاباته ضربا من التفلسف والخوض في اللاملموس، لدرجة أن إجاباته الصحفية وحواراته كانت انفجار كلمات يصعب على المتلقي غير الحذر تقبلها في سياقها العميق. هذا بعض ما حلله بلخوجة في كتابه، ويؤكد أن تصريحات "غطاس الصحراء" غالبا ما كانت تؤول بالخطأ، بعيدا عن حقيقته الداخلية، و المشوهة لأصله كإنسان عالمي الهوية والديانة والثقافة والإبداع. في إحدى إجاباته عن سؤال من أنت؟ رد قائلا لأحدهم: "أولا أنا لست كائنا مخنثا، أنا رجل زوج. والأمر مختلف"، ويشرح القصد من كلامه بالقول: "رجل زوج هو اتحاد القلب بالروح، وعندما يحدث ذلك لابد من عامل ثالث يبرز أو يتضح أكثر هو العقل ليربط بين القلب والروح". تذكرت وأنا أقرأ كتاب عمار بلخوجة، ما رواه لي عزيز بوكروني ممثل وفنان عاشق للسينما، عن شخصية مومو المستفزة: أثناء عملية تمشيط ليلية، يقول بوكروني، اقتحم جنود الجيش الاستعماري الفرنسي بيت مومو وهو يصلي، في وضعية الوقوف، مستقيما ضاما يديه إلى صدره. فراح الضابط يعتذر سريعا ويتأسف على قطع صلاته. والسبب أن مومو كان يعلق صليبا على الجدران، فما إن شهده العسكري اعتقد أن حيمود يتضرع للمسيح عيسى وليس الله. وهي الحادثة التي رددها الشاعر لأصدقائه المقربين الذي تفهموا طباعه، ولم يضيعوا في متاهاته الفلسفية والوجودية. كثيرة هي الروايات التي نسمعها من هذا وذاك عن حيمود براهيمي، منها ما يصدق ومنها تشعر أن مبالغة ما في سلوك الشاعر، جعلت منه شخصا غريب الأطوار، خارق، متمرد، بئر أسرار يغرق من يمعن النظر في أعماقه. لهذا يأتي الكتاب ليشرح الجزء الممكن في شخصية مومو، قراءة في نصوص كتبت بوعي كبير، وإدراك لحالة العالم وتحركاته. يلفت عمار بلخوجة الانتباه إلى قوة "الشاعر المبارك"، قدرته على اختراق صفحات الزمن بالأبيض والأسود، فيخترق حجاب الوقت، ليبحر في ما ورائه. فقد كتب عن عسر العيش في الجزائر المستقلة، وفتح أبياته على آلام الشباب الفاقد لسبل الانفجار الإيجابي. أصبحت الجزائر في نظر مومو سجنا مفتوحا على السماء، لا مفر منها سوى البحر، حيث الموج يصادق الإنسان وينقله لأرض أكثر رحمة. لمرفأ جميل يداعب الحلم. كان حيمود يعرف أن الضغط سيولد الانفجار، وقد أنصفه التاريخ في 1988. وعن وقائع 1991 كتب الشاعر يقول: "عندما تعجز الأخلاق على توجيه الحياة، يختل النظام الوطني. والنظام هو وفاق أفكار متداولة تراقب الحركة اليومية في أدق الردود. فإذا كان اليأس يدفع شباب اليوم إلى الهجرة، ليس خطأنا" مضيفا: "عندما يكف البلد عن الإصغاء للكبار يصبح عالم ضائع". العنوان: Momo le poète béni المؤلف: عمار بلخوجة الناشر: الإبريز السنة: 2012 عدد الصفحات: 142 ص