هي فعلا منارات مضيئة في درب الظلام المطبق من كل الجهات، هم أولئك الذين تمردوا على ما فرض عليهم من عتم دامس يعيشون فيه طوال أيام الحياة، لينيروا الطريق لسواهم من بني البشر، وليقدموا إليهم، من هناك، من منطقتهم المعتمة ضيقة المساحة واسعة الامتداد، ما جادت به محاولات بذلوها للنظر من زاويتهم غير المألوفة لسواهم من أبناء جلدتهم وإخوانهم. لم يكن الصحابي الجليل الكفيف عبد الله بن أم مكتوم... مجرد واحد من صحابة الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" بل جسد حالة إنسانية استثنائية فريدة من نوعها، لأنه لم يركن إلى إعاقته البصرية، ويتخذ منها حجة للاستسلام والدعّة... بل كان أكثر إقبالا من غيره على طاعة الله والجهاد في سبيله. فهو... الذي عوتب فيه النبي "صلى الله عليه وسلم" من فوق سبع سموات، وهو الذي أنزل الله في شأنه قرانا، يتلى إلى يوم القيامة. إنه عبد الله بن أم مكتوم... مؤذن الرسول "صلى الله عليه وسلم"- وكان رضي الله عنه - قرشيا، تربطه بالرسول صلة رحم، فقد كان ابن خال أم السيدة خديجة بنت خويلد... رضي الله عنها. شهد ابن أم مكتوم... بعثة النبي الكريم في مكة، فشرح الله صدره للإيمان، وكان من السابقين إلى الإسلام، وعاش محنة المسلمين في مكة، فصبر وثبت أمام الابتلاءات، فلم تلن له قناة، ولا ضعف له إيمان. وقد بلغ من إيمان ابن أم مكتوم، وحرصه على حفظ القرآن الكريم، أنه ما كان يترك فرصة إلا اغتنمها، ليتعلم من النبي "صلى الله عليه وسلم" قراءة القرآن الكريم. ولد ابن أم مكتوم مبصرا لكنه سرعان ما فقد بصره، وهاجر إلى المدينةالمنورة بعد مصعب بن عمير، قبل أن يهاجر إليها النبي "صلى الله عليه وسلم" وقبل بدر... قال البراء: "أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يُقرئان الناس القرآن". ولما هاجر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" إلى المدينة وبني مسجده الشريف، وشرع الأذان في السنة الثانية للهجرة... اتخذ الرسول الكريم ابن أم مكتوم وبلال بن رباح مؤذنين له، فكان بلال يؤذن في المسجد للصلاة، وابن أم مكتوم يقيم لها... فكان عبد الله وبلال أول مؤذنين في الإسلام.وفي شهر رمضان... كان بلال يؤذن بليل ويوقظ الناس، وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر، لا يخطئه، فيمسك الناس عن الطعام بأذانه... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بلالا بلبل ينادي فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم". وكان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يستخلف ابن أم مكتوم على المدينة في تلاواته، فيصلي بالمسلمين، ويتولى أمورهم. وكان رضي الله عنه يرغب في الجهاد، غير أن فقدان بصره كان يمنعه من ذلك، وإن كان قد نال الشهادة كما كان يرغب ويمني نفسه، في معركة القادسية في العام "14" هجريا، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب "رضي الله عنه". أنزل الله تعالى في عبده المؤمن بن أم مكتوم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، ذلك أن الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" كان كثير التصدي لسادات قريش، وشديد الحرص على إقناعهم بالإسلام... فالتقى ذات يوم بعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وعمرو بن هشام المكنى ب "أبي جهل"، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة... وأخذ يفاوضهم ويناجيهم ويعرض عليهم الإسلام، وهو طامع في أن يستجيبوا له، أو يكفوا أذاهم عن أصحابه، وفيما هو كذلك... أقبل عليه عبد الله بن أم مكتوم... يستقرئه آية من كتاب الله، ويقول: "يا رسول الله - علمني مما علمك الله - فأعرض الرسول الكريم عنه، وعبس في وجهه، وتولى نحو أولئك النفر من قريش، وأقبل عليهم، آملا في أن يسلموا، فيكون إسلامهم عزا لدين الله، وتأييدا لدعوة رسوله، وما إن قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه معهم، وأراد أن يذهب إلى أهله، حتى أمسك الله عليه بعضا من بصره، وأحس كأن شيئا يضرب برأسه. ثم أنزل الله قوله تعالى: "عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى، فأنت له تصدى، وأما من جاءك يسعى، وهو يخشى، فأنت عنه تلهى، كلا إنها تذكرة. فمن شاء ذكره. في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة، كرام بررة". ومنذ ذلك اليوم... ما فتى والرسول الكريم يكرم نزل عبد الله بن أم مكتوم، ويدنيه من مجلسه إذا أقبل، ويسأله عن شأنه، ويقضي حاجته. وقد بلغ من إكرام النبي "صلى الله عليه وسلم" لابن أم مكتوم... أن استخلفه على المدينة عند غيابه عنها بضع عشرة مرة، وكانت إحداها يوم غادرها لفتح مكة. كان ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - صواما قواما، لم يره أحد إلا في عبادة، ولم يمنعه أنه أعمى أن يدافع عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، ويدفع عنه ما يؤذيه... في العام الرابع عشر للهجرة... عقد خليفة المسلمين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - العزم على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة، تزيل دولتهم وتقوض دعائم ملكهم، وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين، فأمّر الفاروق على جيش المسلمين الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، ووصاه وودعه، ولما بلغ الجيش القادسية... برز عبد الله بن أم مكتوم لابسا درعه، مستكلا عدته، وندب نفسه لحمل راية المسلمين والحفاظ عليها، أو الموت دونها، والتقى الجمعان في أيام "3" قاسية عابسة، فكانت حربا، لم يشهد لها تاريخ الفتوح مثيلا، حتى انجلى الموقف في اليوم الثالث عن نصر مؤزر للمسلمين، وكان ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء، وكان من بين هؤلاء الشهداء الأبرار عبد الله بن أم مكتوم... رضي الله عنه... فقد سقط صريعا مضرجا بدمائه، معانقا راية المسلمين.