لقد أرشد الإسلام أبناءه إلى ضرورة العناية بالضعفاء والمعاقين، الذين أُصيبت أجسامهم وحواسُّهم بأمراض مزمنة، وأصبحوا يعيشون أوضاعاً صعبة نتيجة لذلك، فديننا الإسلامي الحنيف لا ينظر إلى هؤلاء على أنّهم عبء على المجتمع، فكلُّ واحد من هؤلاء هو مواطن صالح يستطيع أن يخدم دينه ووطنه كبقية أبناء المجتمع، ذلك أنه مما ينبغي أن يدركه الناس أنَّ المعاق في ابتلاء شاء الله أن يَبتلي به الناس، والإسلام يحثُّ أبناءه على الصبر في مواجهة متاعب الحياة ومصائبها، لقوله عليه الصّلاة والسّلام: _عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له_. (أخرجه مسلم)، ويقول أيضاً: _إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة_، يريد عينيه (أخرجه البخاري). ولا شك في أن التسميات السلبية مثل »المتخلفين عقلياً« تترك أثراً سلبياً، ولكنَّ هناك تسميات إيجابية تعطي انطباعاً جيِّداً لهم في المجتمع، فالإسلام حثَّنا على مناداة الإنسان بأحبِّ الأسماء إليه. لقد اهتمت أحكام الشريعة الإسلامية بالضعفاء والمعاقين اهتماماً عظيماً، حيث إنَّ النصوص الشرعية تحثُّ أبناء المجتمع الإسلامي على وجوب رعايتهم والوقوف بجانبهم ليحيوا حياة كريمة، فقد طالب القرآن الكريم المسلمين بكفِّ الأذى المعنوي عن المعوق، كما ورد في قوله تعالى: »يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ..« (سورة الحجرات، الآية 11). كما بيَّن عليه الصلاة والسلام فضل هذه الشريحة الضعيفة، فقال: _هل تنصرون، وترزقون إلا بضعفائكم؟_(أخرجه البخاري)، يعني أنَّ النصر والرزق يأتيان من الله ببركة هؤلاء، كما ووضع الإسلام قاعدة تدفع عنهم المشقَّة والحرج، فقال تعالى: »لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا« سورة البقرة، الآية 286. وقد كرَّم الإسلام جميع أبنائه دون تمييز لجنس أو لون، وأوجب رعاية أفراد المجتمع والإحسان إليهم، وبيَّن أنَّ لكلِّ فرد دوره في المجتمع، وفي مقدمتهم المعاقون، فهم جزءٌ مهم من مكونات المجتمع، ولهم دورٌ بارز في رفعته والنهوض به كغيرهم من الشرائح، بل وقد يتفوقون على غيرهم في كثير من الأحيان، حيث نبغ عدد كبير منهم، فتولوا رئاسة الجامعات والمعاهد العلمية، وألفوا المجلدات خدمة لدين الله، فمنهم على سبيل المثال: الإمام محمد بن عيسى الترمذي صاحب كتاب السنن، وهو من أشهر علماء الحديث وكان ضريراً، وكذلك الإمام الأعمش شيخ المحدثين، كان أعمش العينيين، والإمام قالون أحد أشهر أئمة القراءات كان رجلاً أصم لا يسمع، وعطاء بن أبي رباح الفقيه المعروف الذي كان ينادى عنه في موسم الحج _لا يفتي الناسَ إلا عطاء بن أبي رباح_، حيث حدّث أحد خلفاء بني أمية أبناءه عنه قائلاً: يا أبنائي تعلموا العلم فو الله ما ذللت عند أحد إلا هذا. عطاء بن أبي رباح كان رجلاً يصفه الذين ترجموا له بأنه كان أسود، أفطس، أعرج، أشلّ، وكذلك ابن الأثير صاحب الأصول كان مصاباً بمرض في ركبته ولم يستطع الأطبّاء معالجته، فقال لهم: دعوني إنني لما أصبت بهذه العاهة ألَّفت »جامع الأصول« ويتكون من أحد عشر مجلداً، وكذلك »النهاية في غريب الحديث« ويتكوّن من أربعة مجلدات، لقد كتب- رحمه الله- هذه المراجع العلميّة، وهو مقعد لا يستطيع القيام، وكذلك سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي كان الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية_رحمه الله_ فقد كان فاقداً للبصر، إلا أنه كان عَلَماً من أعلام الشريعة، وإماماً من الأئمة المجتهدين، وغير هؤلاء كثيرون، رحمة الله عليهم جميعاً. وقد استطاع النّبي_صلى الله عليه وسلم_ بحكمته دمجَ هذه الشريحة المهمة دمجاً كاملاً في المجتمع الإيماني، حيث كلَّفهم بأعمال جليلة، كما قام هؤلاء بجهد كبير في خدمة الدعوة الإسلامية، ونضرب لذلك أمثلة منها:- عبد الله بن أم مكتوم، وهو من الصحابة الأجلاَّء رضي الله عنهم أجمعين وكان أعمى ذهب إلى النّبي- صلى الله عليه وسلم - ليجلس معه، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم لانشغاله بدعوة صناديد قريش وسادتها لعلَّ الله يشرح صدورهم، فجاء عتاب الله لنبيِّه عليه الصلاة والسلام في آيات تتلى إلى يوم القيامة »عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَن جَاءهُ الأَعْمَى... « سورة عبس، الآيتان 1-2. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرم ابن أم مكتوم في تعامله دائماً، فإذا ما رآه كان صلى الله عليه وسلم يستقبله قائلاً: _أهلاً بمن عاتبني فيه ربِّي_، كما ولى رسول الله_ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم على المدينة في بعض الغزوات، فهو يتولى الخلافة نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك دليل على تفعيل دور المعوقين ومدى الثقة بهم واحترام هذه الفئة الخاصة من المجتمع الإسلامي، كما جعله مؤذِّناً له، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: _إنَّ بلالاً يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أمِّ مكتوم_ أخرجه البخاري. عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان من السّابقين الأوّلين في الدخول في الدّين الإسلاميّ الحنيف، وهو غلامٌ معلَّم، كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام وكان رضي الله عنه أول من جهر بالقرآن الكريم بمكة، كما كان عليه الصلاة والسلام يحبُّ أن يسمع القرآن الكريم منه، وكان يحسب من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: _قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له_ أخرجه مسلم. وكان عبد الله رضي الله عنه من أشدِّ ذوي الإعاقات في المجتمع، إعاقات بدنية، حيث كان رضي الله عنه قصيراً جداً بالنِّسبة للقياس الجسدي، ولكنّه كان عملاقاً في مقياس العطاء والعمل، ويؤيِّد ذلك ما جاء في كتب السيرة أنَّ ابن مسعود صعد شجرة ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء منها، فنظر أصحابه رضي الله عنهم إلى دقة ساقيه فضحكوا منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: _ما تضحكون؟ لَرِجْلُ عبد الله يوم القيامة في الميزان أثقل من جبل أحد_، (ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/289.) لقد تمكَّن ذلك الصحابي الصغير جسداً أن يصبح عملاقاً، وأن يحكم العراق، وهكذا كان عبد الله بن مسعود، حيث استطاع وهو في إعاقته أن يتبوَّأ مواقعَ متقدمة في الحياة، ولم يذكر أحدٌ في سيرته أنّه من ذوي الإعاقات، لأنّ الأمة نظرت إلى علمه وعطائه وفضله، كيف لا وهو أحد أساتذة القرآن الكريم في عهد النبوّة وما بعدها. - عمرو بن الجموح أحد الصّحابة الكرام رضوان الله عليهم وكان أعرج، فلما جاءت غزوة أحد ورأى أبناءه يتجهزون للقاء العدو، نظر إليهم وهم يتوهّجون شوقاً إلى نيل الشهادة والفوز بمرضاة الله، فأثار الموقف حميته، وعزم على المشاركة في المعركة، لكنَّ الفتية أجمعوا على منع أبيهم، فهو شيخ كبير طاعن في السن، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج، فقالوا له: يا أبانا إنّ الله عذرك، فعلام تكلف نفسك ما أعفاك الله منه؟! فغضب الشيخ من قولهم أشد الغضب، وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوهم، فقال: يا رسول الله، إنَّ أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير، وهم يتذرعون بأنِّي أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنّة، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لأبنائه: _دعوه، لعل الله عزَّ وجلَّ يرزقه الشهادة،_فخلوا عنه إذعاناً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتقى رضي الله عنه شهيداً في غزوة أحد، إنه رجل صدق الله، فأكرمه الله بالشهادة. وفي الختام، نوجه نداء إلى أبناء أمتنا العربية والإسلامية بضرورة مساعدة هذه الشريحة، ليحيوا حياة كريمة، فمازال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردد على مسامعنا _هل تُنصرون، وترزقون إلا بضعفائكم؟_ أخرجه البخاري. الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة