‘'إن بلادي غنية بالمعادن والأحجار الكريمة المدفونة تحت ترابها، ولكنني أومن بأن أعظم ثروة تملكها هي أبناؤها الذين يفوقون الذهب والماس قيمة وأصالة''. أ سجن "بولسمور" ومقدمات الحوار: في سنة 1979 منحت لمانديلا جائزة جواهر لال نهرو لحقوق الإنسان في الهند، وتسلمها نيابة عنه صديقه "أوليفر تانبو"، الذي كان وراء حملة "اطلقوا سراح مانديلا" أو "فري مانديلا" منذ مارس 1980، وخلال هذه الفترة صعّدت حركة "أمخو نتو ويسيزوي" (أمكا) من أعمالها الفدائية التي قطعت مراحل طويلة من التطور. وفي عام 1981 رشح مانديلا للرئاسة الفخرية لجامعة لندن، وجاء ترتيبه بعد ابنة ملكة بريطانيا الأميرة "آن"، وبعد أكثر من ثمانية عشر في سجن جزيرة "روبن"، نقل ورفاقه "ولتر سيسولو، وريموند مهلابا، وأندرو ملانغيني" إلى سجن "بولسمور" الذي يقع في ضاحية " توكاي" على بعد بضعة أميال جنوب شرق "كيب تاون"، بحيث وجدوا في حجرة "كغرفة في فندق من فئة خمس نجوم"، فكانت نقلة بعيدة ومفاجئة لم يعرفوا لها تفسيرا. وفي ماي 1984 زارته زوجته "ويني" وابنته "زيني" وحفيدته الصغرى، فكانت أول زيارة مفتوحة حيث عانق زوجته وقبلها بعد إحدى وعشرون سنة، وسنة 1984 هي السنة التي اختارته الجبهة الديمقراطية المتحدة كحركة سياسية شعبية قوية رئيسا لها، وكذلك السنة التي بدأت فيها عروض المفاوضات مع النظام العنصري، فجعلت مانديلا يعلن صراحة بأن "الأحرار وحدهم هم القادرون على التفاوض، أما السجناء فلا يحقوا لهم أن يبرموا الاتفاقيات"، إنها السنة التي فاز فيها الأسقف ‘'ديزموند توتو'' بجائزة نوبل للسلام. وفي عام 1985 زار مانديلا "كوبي كوتسي" وزير العدل، فكان بمثابة غصن الزيتون بين الحزب الوطني الإفريقي والحكومة، وبعد عدة لقاءات خاصة قدمت الحكومة أول عرض عام 1987 لمانديلا بتشكيل لجنة محادثات بدأت تشتغل في السرية. في ماي 1988 وبعد عدة اجتماعات انتهت إلى نتائج إيجابية إذ أخبر مانديلا في شتاء 1988 بأن الرئيس "بوتا" سوف يلتقي به. كان اللقاء في ال 14 جويلية واتسم بالود والمرح بحضور لجنة المحادثات المكونة من "كوبي كوتسي" وزير العدل والجنرال "ويلليمس" مفوض السجون والدكتور "نيل برنارد" مدير جهاز الاستخبارات، وعندما طلب مانديلا إطلاق سراح السجناء السياسيين بدون شروط اعتذر الرئيس بأن الأمر ليس من إمكانياته. وفي أوت 1989 استقال الرئيس، وجاء من بعده "دو كليرك" رئيسا بالوكالة الذي التزم بالتغيير والإصلاح، فأطلق سراح "ولتر سيسولو" وسبعة آخرين من رفاقه يوم ال 10 أكتوبر 1989 وشرع في تفكيك لبنات النظام العنصري الواحدة تلو الأخرى، مثل فتح شواطىء جنوب إفريقيا للمواطنين من كل الأجناس والأعراق، وإعلانه عن حل جهاز إدارة الأمن القومي، وهو جهاز سري أسس لمحاربة القوى المناهضة للتفرقة العنصرية. وفي 13 ديسمبر التقى مانديلا مع الرئيس "دو كليرك" وكتب لزملائه يقول بأنه رجل يختلف كل الاختلاف عن أسلافه من رجال الحزب الحاكم، فهو "رجل يمكن العمل معه سويا"، وقد تحقق ذلك في 2 فبراير 1990 عندما وقف الرئيس أمام البرلمان معلنا عن "رفع الحظر عن الحزب الوطني الإفريقي وحزب المؤتمر القومي الإفريقي والحزب الشيوعي وإحدى وثلاثين منظمة سياسية كانت ممنوعة"، وأعلن عن إطلاق سراح السجناء السياسيين، وألغى عقوبة الإعدام، ورفع حالة الطوارئ. ب الحرية لرجل الحوار والسلام والمصالحة: في ال 9 فبراير 1990، استدعى الرئيس "دو كليرك" مانديلا وأخبره بأنه سيطلق سراحه في اليوم التالي، فاعترض وطالب تأجيل هذا الموعد لمدة أسبوع وأكد على ضرورة خروجه من بوابة سجن "فيكتور فيستر"، فقبل الاقتراح الأخير والتزمت الحكومة بتاريخ الإفراج أي 11 فبراير، الذي كان يوما صحوا من أواخر أيام الصيف في "كيب تاون". وفي وسط من الحشد الجماهيري خرج مانديلا وزوجته "ويني" من بوابة سجنه الأخير، وعندما رفع قبضة يده في السماء، صاح الحاضرون بصورة مختلفة لأول مرة منذ سبعة وعشرين عاما، فقد ولد من جديد أو على الأقل ها هو يبدأ الحياة من جديد في الواحدة والسبعين من عمره. لقد حرص مانديلا على خدمة مواطني جنوب إفريقيا كخادم متواضع للسلام والديمقراطية والحرية للجميع، لأنه أحب أعداءه ولم يحمل أي ضغينة نحوهم، لأن "البيض مواطنون في جنوب إفريقيا، ونريدهم أن يشعروا بالأمان وأن يعلموا أننا نقدّر ما قدموه من مساهمات في بناء هذا البلد وتطوره" على حد تعبيره، ولأن "الحرية التي لا يعيش الناس في ظلها في سلام ليست حرية حقيقية على الإطلاق". لقد واصل مانديلا نضاله من أجل إقفال مصانع الموت خاصة بعد الأحداث الدامية في إقليم "نتال"، حيث كان الزولو في حركة انكاتا يقتل الزولو المنخرط في المؤتمر الوطني الإفريقي، ودعم المحادثات مع الحكومة التي بدأت في أوائل شهر ماي وانتهت إلى مذكرة "غروت شور"، التي ألزمت الطرفين بالعملية السلمية من خلال المفاوضات، وألزمت الحكومة برفع حالة الطوارئ. وبعد جولات إلى دول إفريقية وأوروبية وأمريكية، عاد لوطنه للدفع قدما بعملية تطبيع الأوضاع بعدما صارت البلاد في حالة أكثر سوءا وعدد ضحايا العنف في ارتفاع. وفي ال 6 أوت، وقعت الحكومة والحزب الوطني الإفريقي على "محضر بريتوريا" اتفق بموجبه على توقيف النضال المسلح، ولكن العنف استمر خاصة بين أعضاء انكاتا وأنصار الحزب الوطني الإفريقي. وفي 20 ديسمبر 1991، بدأت المفاوضات الحقيقية تحت مظلة "من أجل دولة ديمقراطية في جنوب إفريقيا"، ويرمز له بالحروف الأولى المكونة لاسمه بالإنجليزية أي (كوديسا) بمشاركة ثمانية عشر وفدا يمثلون جميع الاتجاهات السياسية في جنوب إفريقيا بالإضافة إلى مراقبين من الأممالمتحدة ودول الكمنويلث ومجموعة الدول الأوروبية ومنظمة الوحدة الإفريقية، لقد جاءت هذه المفاوضات على مرحلتين أي (كوديسا1) و(كوديسا2) ولكنها لم تنته إلى اتفاق، بل تعقدت الأمور بعد تصاعد العنف، ولولا اجتماع مانديلا مع دو كليرك لإيجاد أرضية عمل مشتركة لاجتناب مآسي ومذابح أخرى انتهى بإعلان ‘'وثيقة التفاهم'' التي تجاوزت العقبات السياسية التي ظهرت في (كوديسا2) وأبرزها جمعية دستورية منتخبة تجيز الدستور الجديد وتتولى المجلس التشريعي الانتقالي للحكومة الجديدة. وفي 3 جوان 1993، انتهت المفاوضات إلى تحديد موعد لأول انتخابات عامة غير عنصرية قائمة على مبدأ التصويت للجميع وهو 27 أفريل 1994 وغيرها من القضايا الديمقراطية التي جعلت "مانديلا" و«دوكليرك" يفوزان بجائزة نوبل للسلام عام 1993 لأن المرء لكي يحقق "السلم مع العدو، عليه أن يعمل جنبا إلى جنب مع ذلك العدو حتى يصبح شريكا له". وبعد إجراء الانتخابات فاز الحزب الوطني الإفريقي بمائتين واثنين وخمسين مقعدا من مجموع أربعمائة مقعد في المجلس الوطني، ومع ذلك ظل مانديلا يذكر الجماهير بأن "نضال التحرير لم يكن حربا ضد مجموعة عرقية بعينها بل ضد نظام الظلم والقمع"، لأن لا أحد يولد وفي نفسه "كراهية لأحد بسبب لونه أو أصله أو دينه، فالكره يكتسب، وما دامت لدى الإنسان قدرة على أن يتعلم الكره فهو قادر أن يتعلم الحب، لأن الحب أسهل وأسلس على قلوب البشر من الكراهية والبغضاء"، وفي 10 ماي تم تنصيبه رئيسا للبلاد وألقى خطابا جاء فيه: "لقد حققنا أخيرا تحررنا السياسي، وها نحن نتعهد بتحرير جميع أبناء شعبنا من قيود الفقر والحرمان والشقاء ومن كل أنواع العنصرية والتعصب.. فلتعش الحرية. اللّهم احفظ إفريقيا". في الأخير أقدم هذه الترانيم لمانديلا: مانديلا .. يا محرر العقول. لقد خلدك صبر أيوب برقصات شعبك، واحتضنك سجّان يوسف فأسقطت أقنعة الهموم، لأن البابا والإمام وكل رئيس من تراب.. أيها النهر الخالد .. على درب غاندي وثوار الجزائر، كيف جعلت القيود أصفادا من ذهب؟ كيف صار السياج التزاما بالحرية؟ مانديلا .. يارمز السلام. كنّا نسمع صوتك بين الكتب، وعندما تعود اللاقالق نحرر عصافير القفص، لتهاجر للقدس أو بيت لحم، فكيف جعلت الشمس تضيء في الليل؟ وكيف صار السواد وشاح المحبة والأفراح؟ عفوا سيدي لست شاعرا.. ولكن أتذكر بأنني رفضت الأبارتايد وأنا طفل، لأن "مامبو" كان محبوبا في قريتي، والثور الأسود والغناوي من رموز فرحتي. انتهى *جامعة وهران—أ.د.صايم عبد الحكيم