شهد التاريخ البشري قصص نجاحات تلهم كثيرين، ولعل أكثر هذه القصص تأثيرا تلك التي تتعلق بأشخاص عانوا من صعوبات لكنهم تحدوها ووقفوا أمام كل المعوقات التي واجهوها، لأنهم يؤمنون بأنهم يستطيعون تحقيق أفضل الإنجازات، وهذا ما أثبتته قصص لبعض هؤلاء الأشخاص الذين تركوا أثرا كبيرا على الحياة رغم إعاقاتهم المختلفة. يعتبر ابن المقفع من أئمة اللغة والأدب ذائعي الصيت في تراثنا العربي، وأحد أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلماً، وصاحب مصنفات فريدة في نصح الولاة وإدارة الدولة أسهمت في إثراء علوم اللغة العربية، وتطوير علم السياسة الشرعية، وكابد دسائس الساسة الفاسدين الذين تخوفوا من كتاباته ونقده، فاتهموه بفساد دينه وقتلوه. ولد عبدالله بن المقفع نحو سنة 106 ه، وكنيته أبو محمد، وأبو عمرو، وكان اسمه روزبة قبل أن يسلم، وذكرت كتب التراجم أن أباه من سلالة بحرينية، وكان يتولى الخراج للحجاج بن يوسف الثقفي أيام إمارته على العراق، فسرق من مال الخراج، فعاقبه الحجاج بأن ضربه على يده إلى أن تقفعت يداه، أي تورمت وتيبست، فسمي المقفع. ونشأ بالبصرة في ولاء بني الأهتم، وهم أهل فصاحة وأدب فكان لهذه النشأة تأثير عظيم في ميله لعلوم اللغة العربية وشغفه بالأدب، وطلب العلم وتلقى دروسه الأولى في الفارسية وتعلم العربية في كتب الأدباء، واشترك في سوق المربد الذي كان يعد جامعة للأدباء والشعراء، وذاع صيته لكثرة علمه وفضله وكرمه وذكائه، وسعة معرفته وجرأته في الحق وأصبح من المقربين من الوزراء والولاة، وعمل كاتباً لداود بن هبيرة في دواوينه من ولاة الدولة الأموية، وفي عهد الدولة العباسية استخدمه عيسى بن علي بن عبد الله ابن عم الخليفة المنصور، وعمل كاتباً لسليمان بن علي أيام ولايته على البصرة. واشتهر بالوفاء والصدق والمروءة وإغاثة الملهوف وتقدير الصداقة، ومن القصص التي تدل على حسن خلقه، أنه لما قتل مروان بن محمد، آخر خلفاء بني أمية، اختبأ عبد الحميد بن يحيى كاتب الدولة الأموية الشهير، عند ابن المقفع، وكان صديقه. وخلّف ابن المقفع -رحمه الله- مصنفات في أنواع العلوم خاصة اللغة العربية والأدب والنوادر تشهد على سعة عقله وعبقريته وفصاحة بيانه العربي، وأنه صاحب المدرسة الرائدة في النثر الفني، حيث يعد أول من أدخل إلى مؤلفات العربية المنطق اليوناني وعلم الأخلاق والاجتماع، كما تميزت كتاباته بالحرص على مخاطبة الخليفة أبي جعفر المنصور في موضوعات ضوابط نظم الدولة، وبيان علاقته بالحكم وبالرعية وعلاقة الرعية به، وصلاح الحكم ووجوب الشورى، ونقد النظم الإدارية في عصره وإظهار عيوبها. وكان أول من عرّب وألف ورفع في كتبه النثر العربي إلى أعلى درجات الفن الأدبي، ولذا عدوه مؤسس الكتابة العربية، ومن أهم مؤلفاته الأدب الكبير، والأدب الصغير، والدرة الثمينة والجوهرة المكنونة،، والتاج في سيرة أنو شروان، وأيساغوجي، ورسالة الصحابة، وكليلة ودمنة، وبقيت الكتب التي كتبها أو نقلها عن الفارسية أو الهندية، أو اليونانية مرجعاً، لأن الكتب الأصلية ضاعت. وبسبب مكانته وعلمه وقربه من الولاة ونضاله لإصلاح مجتمعه حاول بعض حساده الانتقاص من شأنه واتهموه في عقيدته وأنه من أتباع زرادشت، وأن إسلامه كان للمحافظة على روحه وللتقرب إلى العباسيين، ولكن ذهب كثير من المؤرخين إلى دحض هذه الفرية وبينوا أنه لا شيء في كتبه، أو أقواله يثبت هذه التهمة، وذهب كثير من الدارسين إلى أن روح الإسلام وفضائله وقيمه تفوح من سائر كتاباته. كما اختلفت التراجم التي ترجمت له في سبب المحنة التي تعرض لها، وأدت إلى مقتله والطريقة التي قتل بها وفي سنة وفاته أيضا، ورجحت المصادر التاريخية أنه قتل في سنة 142 ه/759م، وهو في مقتبل العمر، ولم يتجاوز السادسة والثلاثين عند موته، بسبب الشدة التى تعرض لها عندما كان كاتباً لعيسى بن علي الذي أمره بعمل نسخة من كتاب الأمان ليوقع عليه الخليفة أبو جعفر المنصور، أماناً لعبدالله بن علي عم الخليفة المنصور الذي خرج عليه لما كان والياً على الشام، فطارده المنصور فلجأ إلى أخويه سليمان وعيسى في البصرة فطلب المنصور منهما تسليمه فرفضا أن يسلماه إياه الا بعهد أمان مكتوب يمليان شروطه، فوافق المنصور على ذلك فطلبا من ابن المقفع أن يقوم بكتابة عهد الأمان فكتبه وتشدد فيه على الخليفة وبالغ فى صياغته وأفرط في الاحتياط عند كتابة هذا الميثاق بين الرجلين، حتى لا يجد المنصور منفذا للإخلال بعهده.