بعد جولة استغرقت أربعة أيام من المفاوضات "الشاقة" بين إيران والدول الست (الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن + ألمانيا)، وبعد 19 جولة من المفاوضات المتعددة التي امتدت لنحو عشر سنوات، جرى يوم السبت 23 / 11 / 2013 في جنيف، إبرام اتفاق تمهيدي لحل أزمة الملف النووي الإيراني بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ومفوضة الشؤون الخارجية الأوروبية كاثرين أشتون، وبحضور وزراء خارجية الدول الست المشاركة في المفاوضات. كان الاتفاق متوقعا على نطاق واسع، بعد حملة العلاقات العامة التي قام بها الطرفان الإيراني والأمريكي، لتهيئة الرأي العام في بلدانهم لحدوث تقارب بين خصمين تاريخيين في أعقاب فوز الرئيس روحاني بانتخابات الرئاسة الإيرانية الصيف الماضي. بل كان الاتفاق جاهزا للتوقيع في جولة المفاوضات السابقة التي جرت مطلع شهر نوفمبر 2013. لكن تأجل ذلك إلى الجولة الأخيرة، نتيجة ظهور بعض العقبات التي عطلته. يعد اتفاق جنيف اتفاقا مرحليا موقتا، يمتد لستة أشهر قابلة للتجديد بموافقة الطرفين، ويمنح الفرصة لاتخاذ إجراءات لبناء الثقة، وإطلاق مفاوضات جدية للتوصل في نهاية المطاف إلى اتفاق شامل بخصوص البرنامج النووي الإيراني. وبحسب منطوقه، يهدف الاتفاق إلى ضمان سلمية البرنامج النووي الإيراني، ومن هذا المنطلق التزمت طهران بتعهدات تُقلص بصورة كبيرة أنشطتها النووية، من أبرزها تحييد مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة عشرين في المئة من خلال تحويل نصفه إلى أوكسيد لتلبية الحاجة إلى إنتاج وقود مفاعل طهران البحثي، وتخفيض نسبة تركيز اليورانيوم في النصف الآخر من عشرين إلى أقل من خمسة في المئة شريطة عدم استخدام تقنية إعادة التأهيل. والتزمت إيران أيضا بعدم ممارسة نشاطات تخصيب اليورانيوم بنسبة تفوق خمسة في المئة خلال فترة الاتفاق، مع عدم القيام بأي نشاط يرمي إلى تطوير منشآت إنتاج الوقود النووي في "نطنز" و«فوردو". ووافقت أيضا على وقف العمل في بناء مفاعل "آراك" الذي يعمل بالماء الثقيل ومخصص لانتاج البلوتونيوم، ووقف تصنيع الوقود اللازم لتشغيله. كما تعهدت بعدم تشييد أي منشآت نووية جديدة خاصة بتخصيب اليورانيوم، وعدم القيام بأي عمليات إعادة تأهيل للمواد النووية أو تشييد منشآت لها القدرة على إعادة التأهيل. وتضمن الاتفاق التزام طهران بقبول المزيد من عمليات الرقابة الدولية الدقيقة على أنشطتها النووية، بدءا بتزويد الوكالة الدولية للطاقة الذرية بمعلومات محددة عن تصاميم منشآتها النووية والمباني المشيدة في جميع هذه المنشآت والنشاطات النووية الجارية فيها، وتقديم معلومات عن المناجم وعمليات الاستخراج والمصادر الأولية، وتزويد الوكالة بمعلومات تقنية عن مفاعل "آراك". في المقابل، تلتزم دول مجموعة الدول الست (5+1) تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، في شكل "محدود وموقت ومحدد الأهداف ويمكن إلغاؤه"، في حال عدم الالتزام بالاتفاق. في حين تُبقي غالبية العقوبات على قطاعات النفط والمال والمصارف. وبموجب ذلك، تفرج الدول الغربية عن نحو 7 ملايير دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في الغرب. كما التزمت الدول الست تعليق إصدار مجلس الأمن أو الاتحاد الأوروبي، أو الولاياتالمتحدة، خلال فترة الاتفاقية، أي عقوبات جديدة. وقعت إيران والدول الغربية ثلاثة اتفاقات سابقة لحل أزمة الملف النووي. وقد جرى التوصل إليها جميعا على خلفية الغزو الأمريكي للعراق، وتحول الولاياتالمتحدة إلى جارة لإيران، وكانت واشنطن تحتفظ بما لا يقل عن 200 ألف جندي على حدود إيران الشرقية مع أفغانستان والغربية مع العراق. أثار الوجود العسكري الأمريكي مخاوف إيران من احتمال استهدافها بعد العراقوأفغانستان، خاصة بعد أن قام الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن بضمها إلى محور الشر إثر إعلانه عن عقيدة الأمن الأمريكية الجديدة، التي حملت اسم مبدأ بوش في سبتمبر 2002. وعليه، نسّقت إيران أمنيا مع الولاياتالمتحدة في أفغانستانوالعراق. وعرضت إيران في جولات مفاوضاتها مع الدول الغربية التي كانت تقتصر في ذلك الوقت على الترويكا الأوروبية - فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا - التوصل إلى تفاهمات بخصوص ملفها النووي، مقابل رفع العقوبات والاعتراف بدورها الإقليمي. يعود أول تفاهم نووي إيراني - غربي إلى عام 2003، حيث جرى الإعلان عن بيان "سعد آباد" في طهران عقب لقاءٍ جمع بين وزير الخارجية الإيراني في ذلك الوقت كمال خرازي، ووزراء خارجية الترويكا الأوروبية. وتضمن البيان التزاما طوعيا من إيران بتعليق تخصيب اليورانيوم، والسماح للمفتشين الدوليين بزيارة منشآتها النووية الناشئة حينئذ في "نطنز". وفي المقابل، تعهدت فرنسا وبريطانيا وألمانيا بعدم تحويل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي. وفي ال 24 فيفري 2004، وقّعت إيران في بروكسل اتفاقا مع الأوروبيين، التزمت بموجبه وقف عمليات بناء أجهزة الطرد المركزي، وتعليق عمليات صنع قطع الغيار اللازمة لتلك الأجهزة. وقد ترأس حسن روحاني الوفد الإيراني المفاوض، في حين كان خافيير سولانا على رأس الوفد الأوروربي. أما الاتفاق الثالث بين الطرفين، فجرى توقيعه في باريس في 14 نوفمبر 2004، والتزمت فيه إيران طوعيا تعليق جميع أنشطتها النووية، بما في ذلك تخصيب اليورانيوم، وبناء الأجهزة والمنشآت المرتبطة به، وصناعتها. إضافة إلى وقف جميع التجارب المتصلة بالأنشطة النووية. وفي المقابل، تعهدت الدول الأوروبية بقبول عضوية إيران في منظمة التجارة العالمية. لم تكن إدارة بوش الابن مهتمة بالعروض الإيرانية، إذ كانت تشعر بأنها غير مضطرة لتقديم تنازلات مهما قل شأنها للإيرانيين. وقد أدى تجاهل واشنطن عروض التفاوض الإيرانية إلى قيام حكومة أحمدي نجاد التي وصلت إلى الحكم صيف 2005، باستئناف العمل بالبرنامج النووي، مستفيدة من الصعوبات التي كان الأمريكيون يواجهونها في كل من العراقوأفغانستان. وقد دفع ذلك بالوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تحويل الملف إلى مجلس الأمن الذي أصدر في جويلية 2006 قراره الأول بخصوص الملف النووي الإيراني، ودعا فيه طهران إلى وقف عمليات تخصيب اليورانيوم. وفي ديسمبر من العام نفسه، أصدر المجلس أول قرار يقضي بفرض عقوبات مالية وتجارية وعسكرية ضد إيران. على الرغم من انتقال الملف إلى مجلس الأمن، وصدور مجموعة من القرارات بحق إيران، استمر مسلسل المفاوضات بمحطات متعددة، في جنيف 1 (يوليو 2008)، وجنيف 2 (أكتوبر 2009)، وجنيف 3 (ديسمبر 2010)، وإسطنبول 1 (فيفري 2011)، وإسطنبول 2 (أفريل 2012)، وبغداد (ماي 2012)، وموسكو (جوان 2012)، وألماتا 1 (فيفري 2013)، وألماتا 2 (أفريل 2013). كانت جولة إسطنبول 2 عام 2012 من الجولات المهمة، لأنها ثبتت أسس التفاوض بين الطرفين، إذ أقرت كاثرين أشتون في نهايتها حق إيران في التخصيب، وذلك بالالتزام بالحدود التي تسمح بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مقابل حوافز اقتصادية يجري التفاوض بشأنها. وفي جولة ألماتا 2 (أفريل 2013)، جددت مجموعة (5+1) عرضها للإيرانيين، برفع العقوبات جزئيًّا عنهم مقابل الالتزام بثلاثة شروط، وهي: تعليق جميع الأنشطة النووية في منشأة "فوردو"، القبول بالمزيد من رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على أنشطتها النووية والتخلص من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%. بقيت المفاوضات معلقة في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية صيف 2013، ومع إعلان فوز حسن روحاني وتغيير فريق المفاوضين، بدأت جولة جديدة في نيويورك (سبتمبر 2013)، أعقبتها جولتان في جنيف (7-8 نوفمبر 2013)، بينما كانت تجري مفاوضات سرية بين واشنطنوطهران بوساطة عمانية، جرى إخراجها إلى العلن في جولة جنيف الأخيرة (20-23 نوفمبر 2013)، وخلالها جرى الإعلان عن التوصل إلى الاتفاق المرحلي. سعت حكومة الرئيس روحاني إلى تقديم الاتفاق بوصفه إنجازا كبيرا، إلا أنه يمثل في حقيقة الأمر تنازلا كبيرا من الطرف الإيراني. لا شك في أن الأمريكيين وافقوا على إعطاء مكسب رمزي مهم يسمح بتعزيز مواقع الرئيس روحاني داخليا في مواجهة المتشددين المشككين في جدوى مقارباته الواقعية تجاه الغرب، فالاتفاق وإن لم ينص صراحة على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، إلا أنه سمح لروحاني بالقول إنه - أي الاتفاق - أقر بحقها في التخصيب، لأنه اشترط على إيران التوقف عن نشاطاتها التخصيبية بنسبٍ تزيد عن 5%. ولكن كان هذا مقبولا أصلا كما ذكرنا أعلاه، أي بالالتزام بالحدود التي تضعها وكالة الطاقة. خلاف ذلك، يمكن القول إن بنود الاتفاق الذي وافقت عليه إيران تُبرز من جهة حاجتها الماسة إلى تسوية ولو مرحلية تفتح كوة في جدار العزلة والحصار والعقوبات الدولية الصارمة ضدها، إذ جرى تقديم تنازلات كانت حتى الأمس القريب تعد من المحرمات، وذلك في مقابل مكاسب اقتصادية بسيطة قدمها الغربيون. ومع بقاء معظم العقوبات على قطاعي النفط والمصارف، يبدو من المستبعد أيضا أن ينهار نظام العقوبات الاقتصادية كما كانت ترجو طهران على اعتبار أن الاتفاق سيؤدي إلى فرط عقد التوافق الدولي عليه، وسيعطي ذريعة للمتذمرين منه بتجاوزه. من جهة ثانية، يعبر قبول إيران بكبح نشاطاتها النووية بهذا الشكل الواسع عن مسعى أكيد لطاقم روحاني - رفسنجاني، وبدعمٍ واضح من خامنئي للخلاص من إرث النجادية وفتح البلاد أمام التطور الإصلاحي والانفتاح على الخارج. ولهذا يبدو مبررا التقدير، أن ترشيح روحاني وانتخابه كان مرتبطا بقسوة العقوبات الاقتصادية وضرورة تجاوز تأثيرها الجدي في الاقتصاد الإيراني بالتوصل إلى اتفاق مع الغرب. الأهم من ذلك، ربما قامت إيران بتوقيع اتفاق ستجد التحلل منه صعبا حتى إذا تطلبت مصالحها ذلك، فأي خرق للاتفاق سوف يُضعف موقفها على الساحة الدولية، وحتى أمام حلفائها، على اعتبار أن روسيا والصين موقعتان وضامنتان للاتفاق. كما سيكون من الأسهل في هذه الحالة اللجوء مجددا إلى مجلس الأمن، واستصدار قرارات جديدة بعقوبات أشد على إيران. أخيرا، حتى لو قررت إيران عدم تمديد الاتفاق في نهاية الأشهر الستة، فإن المعلومات التي ستكون الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد تحصلت عليها من خلال زياراتها التفقدية، والمعلومات التي تعهدت إيران بتقديمها وفتح منشآتها كاملة أمام التفتيش، ستعطي العالم صورة أوضح عن حقيقة البرنامج النووي الإيراني والمراحل التي وصل إليها، وستجعل إخفاء بعض أهم جوانب برنامجها النووي وأكثرها حساسية، من أصعب الأمور على إيران. قد تبدو التنازلات التي قدمتها طهران على المدى القصير كبيرة، لكن هناك مكاسب لا ينبغي تجاهلها تحققت على المدى البعيد، بمنطوق الإصلاحيين على الأقل، فالاتفاق سوف يسهم في انقاذ البلاد من انهيارٍ اقتصادي محقق، وسينزع المبررات من صقور الكونغرس الأمريكي المتحمسين لفرض حزم من العقوبات الاقتصادية عليها أشد صرامة. وقد عبر هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام عن هذه الحقيقة، قائلا: "إن هذا الاتفاق أنقذنا من مأزق كبير"، في إشارة إلى المخاوف من انهيار الوضع الاقتصادي برمته. وينطبق هذا التقدير أيضا على الجانب السياسي، إذ مثل إخراج المفاوضات النووية من وضعية الانسداد هدفا راهنت عليه الحكومة الإيرانية الجديدة، فالرئيس حسن روحاني لن يستطيع تحقيق برامجه الإصلاحية في ظل استمرار وضع العزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية، لذلك مثل هذا الاتفاق نجاحا مرحليا سوف يحاول البناء عليه لفك طوق الحصار الاقتصادي والسياسي بصورة كاملة عن إيران. لكن هذا الأمر سوف يعني أيضا أن مسيرة الصراعات الداخلية والتنازلات الخارجية قد بدأت للتوّ من أجل تحويل الاتفاق المرحلي إلى اتفاق شامل لحل أزمة إيران مع الداخل والخارج. ولا شك في أن إيران سوف تحاول في البداية ترويج الاتفاق، ولا سيما في جبهات المواجهة التي تخوضها لتثبيت نفوذها عربيا، وكأنه انتصار. وهناك في العالم العربي من يروج لكل ما تقوم به على أنه انتصار. لكن هذا الأمر يبدو غير ذي شأن أمام ما ستحاوله طهران، لتعوض عن تنازلاتها في الملف النووي باعتراف دولي بدورها كدولة إقليمية. أما على المدى البعيد، فلا شك في أن أي انفتاح لإيران سوف ينجم عنه تآكلٌ في النظام الأيديولوجي الديني الشمولي، كما حصل لبلدان المعسكر الاشتراكي. وهذا ما يأمله الإصلاحيون في إيران. عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات