يقضي الكاتب عمرا يبذر، على الورق، على بياضات القلب والذاكرة والخاطر وهو بذلك يسفح فناجين القهوة ويدلق السوائل المعتقة ويتشرب بعقار الدواء و«اللأل س د ي« "L S D«، كما يسوح في الشارع نافخا بوقه عن الحتميات البيولوجية والتاريخية والأيديولوجية، يبحث الكاتب عن شيء لا يناله بسرعة وعن نرجسية محفورة في أيادي القراء إذ هم يصفقون أو هم يدهشون لبليغ العبارة وفصيح الكلام وذكاء الكاتب في لعبة الكتابة التي تتسع لقول ما يثير مخيلة الناس أو ما يرمي بهم من عل، من ونحو هاوية لا قرار لها، أو نحو مدارج المتع والهبوط والدمارات. بذاك تصير الكتابة ملحمة وتصير الملحمة مكلفة عليها الرسوم والجمركة وأتاوات التخليص الإجباري، ويستفيد الكاتب من شهرة تضمن البقاء على قيد الناس وعلى رقابهم ناهيك عن قيد شهواتهم السرية واستهاماتهم في الأذواق المعقولة كما في الأذواق المزركشة الخاطفة للعيون وهبلها، هي الدرجة الرابعة ربما وهي النجمة الرابعة أيضا في سلم الشهرة وأضوائها التي تعني عالم الكتاب والأدباء والشعراء. كانوا سيحصدون الألقاب والأوصاف وينالون التكريمات ويجري عليهم ماء الذهب مجراه وذلك في الوقت المتأخر عن العنفوان بزمن كبير، هؤلاء الأدباء الكبار، العظام، الأفذاذ، الجهابذة - كما يحب أرثودوكسيو اللغة العربية التسمية والتعبير -، كانوا يشتهرون أكثر لا بعد حادثة كتاب أو حادثة نص أو حادثة عمل فني، بل بما كان يثار حولهم ويملأ دنياهم بالغبار والأقاويل والشنشنات، فإن الشهرة هي هكذا، ميدانها وحشي تصهل فيه الخيول، يتضارب عليه الصغير المعتوه مع أولي البسطة والجسم والمال والقلم الأصفر، إن تنيسي وليامز ودوستويفسكي وكامو، إن خورخي بورخيس، وساراماغو، وغابرييل غارسيا ماركيز، إن فرناندو بيسوا وجان جبينه ومحمد شكري، إن امبرطوايكو وميشال فوكو وبول أوسترو لوكليزيو، إن ابن جلون وعبد الرحمن بدوي وادوارد سعيد، إن وإن، أسماء وتعاليم وخبطات في الأدب والخيال، في المعرفة ومسالكها المبثوثة في كل مكان وناحية كل مكان تصاحبت دائما مع زوائد الشهرة ومبالغاتها التي لا ترحم فضلا عن جدل ممتد ما انتهى يوما ولا عرف فاصلة أو نقطة عن الحياة السرية للكتاب وجزيئيات الحياة الأخرى تلك التي لا يكتبونها أو لا يحبون الظهور بها أمام عشاقهم ومريديهم، كذب الأدباء ولو صدقوا، فهؤلاء الذين يريدون إسماع الموتى عن موتهم لا يملكون نية في إخفاء شرهم ولا حالة "القورمونديز" التي تتملكهم وهم يطمحون إلى أبعد من الكتابة وحلقاتها الضعيفة، أي التحليق في سماوات الآخرين ممن لهم السبق والكسب الأول للنجمة والنيشان، ليس الكاتب فارس نبالة زاهد في عيش رغيد ومصعد هوائي يوصله إلى غرفة لها شرفة تطل على يخت، كاتب اليوم ليس تنيسي وليامز الذي ترك رسالة يقول فيها "إذا حصل لي أي حادث عنيف ووضع حدا لحياتي بطريقة وحشية، فلن يكون ذلك حادث انتحار". في التحليل الذي أوردته غادة السمان وهي تبعث وليامز من رفاته، تتنقل بين رماد كتبه، ورماد سيجارته، أثلجني وآلمني أن تنزف شجرة العبقرية بكل هذا العطاء للمسرح ولأمريكا القومية وللإنسان وللسينما عن هذا الذي قدمه تنيسي ثم يكتب هذه التوصية الغريبة للبوليس كي يتعقب أثره ويتعقب خطواته في الدهاليز المعتمة في أوكار الشرب والخنا، في البيسيونات العفنة وفي تذاكر الذين سافروا والذين لم يسافروا، والحال أن تنيسي آنذاك كأي "كاتب آنذاك" كان يتقدم على عصره زاحفا نحو القيم والأعالي، نحو أزلية الخير والجماليات غير أن الداخل باهت، فثمة لمعان أقل، لا يقين ورجفة من الكون والله، خوف وانقباض عن الإبصار الحقيقي، كان الكاتب هكذا، ضرائبه مدفوعة سلفا وتسبقه الشهرة حتما بعد انقطاعه عن هذا العالم ووباءاته، شهرة أقل آنذاك وشهرة أبرز بعدها وحشية التقليعات، ملصقة في كل الحيطان بالغة العنان والأبراج كما هي أفيشات قهوة "كارت نوار" قهوة اسمها الرغبة وقبلها كانت العربة، عربة تنيسي وليامز لم يركبها وركبها غيره من منتحلي الصفات وسماسرة ووكلاء الأدب والدائخين من حشيشة السوق العصرية. هكذا اليوم هي السوق العصرية تسبق الكاتب وأصالته، التصاقاته بالمعنى وروحانية الكلمة فيه، الكاتب اليوم لا ينسحق بسرعة لا يعلن نبأ وفاته، لا يرغم البوليس والمخابرات على الاستعانة بالكلاب المدربة وأجهزة التنصت والتشويش، له من الحيلة ومن المكر ما يجعله بالأجرة المرتفع على المقال الصغير على الأعمدة، ومجاراة عربات الآخرين من الفنانين والوجوه التلفزيونية ومتصدري صفحة مال وأعمال، إن الصورة المليحة صارت مطلوبة، والألوان في الملبوسات تحتمل أكثر من تقطيع وتخريج، والعلاقات قاعدة تسر من يعمل بها وينسج خيوطه عليها، وهكذا نكون قد أنهينا عصر الكاتب المتأزم، المطحون بحوافر الكبار الذين لهم في النجمة الواحدة عشرة آلاف خادم وراقصة وطبال وملاعب ومدرجات. في الحصيلة الشهرة مع وفي الأديب لا تشتغل من الأعماق، من أصالة النصوص وتوترها من الموت المحقق المسبوق الإعلان كما هي موتة تنيسي وليامز وارتست همنغواي ستورني وألفونسينا بل تعمل على المنطق البراني من حيث الزمن وسيره على النواميس وفاعلي الشهرة ومروجيها والحائمين حول أطعمتها ولذائذها. لقد اعترض القوم على الشاعرة اللبنانية جمانة حداد إذ هي تتملى وتتمطى في تصاديرها وتتفنن في عرض غدوها ورواحها من بيروت إلى بونيس ايرس ومن كولومبيا إلى روما ومن باريس إلى فرانكفورت، وهي شاعرة عملت في مؤسسة كالنهار مشهورة وأشبه بعلبة من علب الأزياء ودور الموضة، مسألة كتلك لا فيها نظر ولا من ينظرون، لازمة حداثية جديدة تظهر مسعفة بديكورات العمل العام وفق منطق جديد، وفق عربة تسير على عجلات لاهثة بارقة واقتحامية فقط أن تخل بعنصر القوة الفنية في النصوص والإبداعات، أي عمن يشتهر أكثر بفضيحة السرقات الصغيرة التي كان يمارسها جان جينيه، وارتياد النوادي الليلية الحقيرة المستوى كما كانت حياة عمر شكري أو بشذوذ ميشيل فوكو مع شخص آخر هو أيضا ينتمي إلى العمل المعرفي والفلسفي، وبين هذه الأسماء وسلوك كسلوك مظهري رلوكليزيو أو بول أوسيتر أو عربيا كما هي جمانة حداد وأهم منها وقبلها نزار قباني أو أدونيس أو محمود درويش وأحلام مستغانمي، قصدا بقولي إن تطوير التعاطي مع الشهرة بالبحث عنها والاحتذاء بمسيرها بمفخرة وغرور لا يرى بالعين المجردة ما عاد هذا التعاطي كسابقه من سابقات الكبار العظام الجهابذة كتينيسي وليامز. مسعاك في انتحارك، ترصد من يغتالك فيغتالك حقا - كما فعل مثقفون اشتهروا أكثر بعد اغتيالهم -، تعاطيك عقاقير الهلوسة، فضائح السرقات التي سجن بها جينيه، أسطرتك لحياتك الخاصة، كل هذه اللزوميات وغيرها غيرته شروط الحداثة ومتطلباتها، ليس من ضرورة للبهدلة، والفظاعات طالما أن حكمة يكتب بها الكتاب، يمجدونها صباحا مساء لم تكن تعني عن سوء صنعهم في الحياة ودونها. إن الكاتب مغرور، متيم بالشهرة، مولع بنظرات تلاحقه، بعشاق يخطبوه وده حتى وهو مسجى له الجثمان والتراب والقيامات لاحظ أن مسرحيا عالميا آخر عندما أراد المبالغة في اقتلاع الحفاوة والترحيب وحديث الناس تزوج بالأسطورة مارلين مونرو رغم أن آرثر ميلر لا ولم يمسسه النقص أو الحاجة. كتاب زمان فائت تمنعت عليهم عربة الشهرة من أن يركبوها فركبوا قصص الوفاة وإعلانه المسبق، الاغتيال المشبوه، الاختطاف، جنحة الحب، الزواج من الجنيات أو من ابنة الكولونيل، مراسلة الموتى كان فنهم مثل سرقة النار أو الاختباء في الأعالي ليتركوا البوليس يشقى ويجوع ويعرى حتى يعثر على قطار الجريمة. إن كتاب زمان السيبر نطيقا والغوغل واليوتوب أمرهم اختلف صاروا كالناس كلهم لهم صور في الانترنت مع عائلاتهم، لهم صور يبرزون من خلالها غليوناتهم، أثواب سباحتهم، عدد سيجاراتهم المستهلكة ومن كان له سيارة على شيء من الفخامة طلعت ريحتها من موقع على الشبكة، إنها المرحلة في دمقرطة الخصوصية والكتابة الافتراضية التراسلية المشتركة، حيث يمكن للكاتب في لحظته أن يكتب وللقارئ في لحظته أن يقرأ ما يكتب كاتبه وهذا ما يفعله على التو الكل في الكل، ثمن الشهرة ليس في العطاءات المدفونة ككنز الملك سليمان ولا هي تلك المركونة ركنا كمصباح علاء الدين، بل ثمنها أن يشتهر أي واحد فينا بحماقة يفعلها أو يتصرف بها، الشهرة هي عربة ديمقراطية مئة بالمئة يمكن للطحالب والبراغيث أن تركبها.