في 31 جانفي من العام الجاري تلقى عبد العزيز بلخادم طعنة في الصميم حين وجد نفسه طريدا من جهاز جبهة التحرير، وبالتالي أبعد عنوة عن حلمه الطويل، أن يصبح ذات يوم خليفة عبد العزيز بوتفليقة ووريثه في قصر المرادية، ويومها علق أكثر من مراقب على سقوط بلخادم الذي لم يكن في الحسبان وتساءلوا إذا ما كانت هذه المحطة الأخيرة القاسية هي بداية نهايته الدراماتيكية بعد أن كان الحصان الذي امتطى ظهر بوتفليقة خلال غزوته ضد خصومه من داخل جبهة التحرير وفي سبيل تطبيق مشروع الوئام، ومن ثمة المصالحة الوطنية الذي دشن المعنى السياسي لعودة بوتفليقة إلى الحكم بعد غياب وصمت طويلين.. هل كان رحيل بلخادم من على رأس جبهة التحرير بإيعاز وإرادة من بوتفليقة أو من دوائر أخرى كانت لها حساباتها وسيناريوهاتها للاستيلاء على جهاز الأفالان لتوظيفه في الوقت المناسب كآلة انتخابية لرئاسيات 2014؟! يعتقد البعض ممن اتصلت بهم، وهم في الحقيقة ميالون إلى بلخادم، أن الرجل لم يرم بالمنشفة ولم ينته زمنه السياسي، وهو إلى جانب كل ذلك، ظل وفيا للرئيس بوتفليقة ولم يدخل في أية مناورة لا مع أجنحة داخل الحكم ولا مع دوائر ضيقة في المؤسسة الأمنية ليقف حجر عثرة في وجه بوتفليقة إذا ما قرر التوجه إلى ولاية رابعة.. بل بالعكس، يضيف هؤلاء، أن الذين خططوا لإقالة بلخادم وجره إلى تلك النهاية الدراماتيكية لم يخبروا الرئيس بوتفليقة.. وهذا ما أثار حفيظة هذا الأخير فيما بعد، وأحس أن ثمة رائحة خيانة تدبر في ليل وفي خفاء عميقين وربما يكون بسبب هذا الغضب الذي اعترى بوتفليقة ارتأى أن يدفع إلى رأس الأفلان، أو في أقل تقدير أنه لم يعارض أن يكون السيد سعيداني وذلك ليس حبا أو تقديرا لهذا الأخير، بل كنوع من أنواع العقاب الذي سلطه بوتفليقة على أولئك الذين لم يستشيروه في عملية الإطاحة ببلخادم.. ويذكر هؤلاء المتحدثون أن بوتفليقة لم يحتفظ في أي وقت بأي شيء من الميل أو التقدير نحو سعيداني، فلقد كان بوتفليقة هو من عارض أن يوضع سعيداني في قائمة الأفالان في العام 2007، بسبب ما يصفه المتحدثون بالانحراف الذي ظهر عليه عندما كان على رأس البرلمان والفساد الذي تورط فيه، ويضيف هؤلاء أن الرجل سحب منه جواز السفر عندما بعث به بلخادم في مهمة إلى تونس، إلا أن بلخادم بقي حريصا على علاقته بسعيداني، وكان يدافع عنه أكثر من مرة لشعوره أن الرجل مظلوم، أو على الأقل أن التهم الموجهة إليه غير ثابتة ربما أن بلخادم نفسه كان يدرك جيدا أن الرجل مكبل بملفات فساد، وأن حمايته له تجعله موالٍ طيع يستخدمه في اللحظات المناسبة، إلا أن ذلك لم يمنع من أن يتمكن سعيداني من مخادعة بلخادم لوقت طويل، وفي النهاية كان من المنقلبين عليه بغية خلافته، وهذا ما لم ينتبه إليه بلخادم، ولم يشعر بالخديعة التي أصابته في الصميم إلا بعد فوات الأوان.. يذكر بعض ممن عرفوا بلخادم عن كثب أن حياته السياسية بدأت صدفة وهو بغريزته ودهائه الكامن لم يترك الصدفة تمر دون أن يستثمرها لصالحه، يقال إنه كان معلما في مدرسة ولقد ألقى بخطاب ترحيب أمام الرئيس هواري بومدين في زيارته إلى ولاية تيارت، وهذا ما فتح له الباب أن يصبح فيما بعد نائبا في البرلمان ليتمرس منذ ذلك الزمن على الممارسة السياسية ماركة حزب واحد.. وساعده هذا التمرس بشكل صامت ومثابر على التعرف على خفايا النظام وعلى إجادة خطاب مطاط، مائع ومديح بكل تلك الشعارات المبجلة لحزب التحرير والاشتراكية والمؤسسة العسكرية وغير ذلك من تلك الأدبيات التي شكلت ذهنية الأفالاني، وبالتالي المواطن الجزائري خلال عقود امتدت من السبعينيات، وتمكن بلخادم من الإطلاع على دهاليز السياسة الجزائرية التي ظلت تتميز بعقيدة السرية والصمت وتحول في فترة من حياته البرلمانية والسياسية تحت العناية الكاملة للراحل الجنرال العربي بلخير بحيث كان عرابه الأساسي لوقت كبير في حياة بلخادم، ولعب الانتماء إلى نفس الجهة دورا في ذلك.. كما تمكن بلخادم أن يجيد التأقلم مع التحولات التي أصابت الجزائر بعد أحداث أكتوبر 88، وظهور التعددية فكان على رأس التيار المتأسلم داخل جبهة التحرير وأطلق عليه في الميديا، نعت (بار بأفلان أو الأفالان الملتحي) لم يزعج ذلك بلخادم، بل سعى لأن يكون الممثل الرمزي للتيار المحافظ المكتسي نبرة دينية.. ولقد خلق له ذلك، في البداية خصوما إيديولوجيين، سواء داخل الحكم والمؤسسة العسكرية وداخل المعارضة لكن من جهة أخرى أكسبه لوقت طويل تأييدا وتعاطفا من قبل الإسلاميين الراديكاليين والمعتدلين، وسعى بلخادم لاستخدام مثل هذه الورقة بذكاء وقوة ووصلت أوجها بعد حل البرلمان وإيقاف المسار الانتخابي ورغم أنه مثّل حلا وسطا أيام الأزمة بين جبهة الإنقاذ والسلطة، إلا أن الحكم آنذاك ظل تياره الممثل من الصقور يشككون في نية بلخادم، بل كانوا ينظرون إليه كعميل للإسلاميين الراديكاليين داخل الحكم.. وشدد بلخادم على صناعة هذه الصورة السياسية باتخاذ موقف إلى جانب سانت ايجيديو (العقد الوطني) الذين عقدوا لقاءاتهم بكنيسة سانت ايجيديو بروما... لم يستسلم بلخادم طيلة التسعينيات لتلك الهجومات التي راحت تصيبه أسهمها من قبل العلمانيين وصقور السلطة، بل راح يوطد علاقته مع الإسلاميين، وانخرط في الدفاع عن قيادة جبهة الإنقاذ التي كانت تقضي سنوات سجنها بالسجن العسكري بالبليدة وصب صوته باتجاه مصالحة تاريخية في الجزائر.. وعندما قذف القدر ببوتفليقة إلى أتون المغامرة السياسية وأصبح رئيسا، اعتقد بلخادم أن ساعته حانت وأضحى مقربا من بوتفليقة بحكم علاقته السابقة به وأمين سره في مجال إنجاح المشروع على بوتفليقة، وهو المصالحة الوطنية، فقام برحلات مكوكية إلى أوروبا، حيث التقى الكثير من الإسلاميين وعرض عليهم مشروع بوتفليقة، ومن بين هؤلاء الذين التقى بهم أنور هدام، ورابح كبير إضافة إلى لقاءاته مع مرجعيات إسلامية في العالم العربي والإسلامي، وأفهمهم أن بوتفليقة سيكون المنقذ الحقيقي للجزائر وإعادتها إلى أصالتها الإسلامية، ما جعله في فترة من الفترات يحظى بتأييد الإسلاميين والدعاة، وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي.. كما خاض بلخادم الحرب ضد بن فليس في رئاسيات 2004 واصطف في خندق واحد مع بوتفليقة، وكان يشعر بالفخر عندما تحصل على ثقة بوتفليقة الكبرى فيه.. ويصرح منتقدوه أن الرجل الذي حظي بثقة بوتفليقة رغم التحفظات التي أبداها بعض الصقور من المدنيين والعسكر لم يدرك كيف يحافظ على هذه العلاقة التي خصه بها بوتفليقة، وخانته نفسه عندما راح يبدي بشكل ساخر عن طموحاته في خلافة بوتفليقة، ويضيف هؤلاء أنه انجر نحو لعبة مشبوهة بسعيه التقرب من الدوائر الأمنية الفاعلة، وعرض نفسه عليها حتى وإن أدى ذلك إلى خيانة بوتفليقة في اللحظة الحرجة.. وربما ذلك ما أدى بشقيق الرئيس، سعيد يحاربه في السر، لتتطور هذه الحرب بشكل معلن قبيل انقلاب رفقائه عليه، وكان على رأسهم عمار سعيداني، الذي وعد حينها بخلافته، لكن رغم الخيبة التي أصابت بوتفليقة من أداء بلخادم على وجه عام، إلا أنه ظل حريصا على بقائه بقربه.. وهو يدرك أن بلخادم يشكل ورقة قد يستخدمها في اللحظات العسيرة.. هناك مآخذ كثيرة يأخذها عليه منتقدوه وذلك ما يشكل نقاط الضعف التي يعاني منها بلخادم وقد تكون معوقات أمامه لأن يلعب دورا أساسيا في الرئاسيات إذا تقدم إلى المنافسة الرئاسية وهي ضعف شخصيته التي تفتقد إلى الصرامة والحسم.. إن بلخادم حسب هؤلاء يتسم بالتردد في عملية اتخاذ القرارات، بل يظهر كرجل مائع غامض يتجنب المواجهة والصرامة وهذا ما ترتب عنه الوضع المتردي لجهاز الأفالان في فترته، خاصة الفترة الأخيرة التي اتسمت بانبثاق نزاعات لا حد لها بين الزمر والعصب.. ويؤخذ عليه كذلك عدم التزامه بوعوده التي يقطعها للآخرين، وربما هذا ما جعل البعض يطلق عليه النعت الكريه "مسيلمة" ويعلق آخرون أنه يفتقد إلى قوة التحليل القائم على النظر العلمية، إن ثقافته تقليدية، ويعاني من ضعف في الثقافة الإقتصادية.. وظهر ذلك جليا في أدائه الحكومي.. كما يمكن أن يضيف إذا ما صدقنا منتقديه ميله الشديد إلى رجال الأعمال الذين لا يتصفون بالنزاهة أو الثقافة النضالية، بل معظمهم ينتمي إلى فئة الوصوليين والأثرياء الجدد، المستعدين أن يدفعوا لكل ثمنه، ولقد تفشت مثل هذه الثقافة المبتذلة والهدامة في أوساط جبهة التحرير، بحيث تمكن الكثير من الأميين أن يشتروا بالمال القذر مقاعدهم في البرلمان وفي المجالس البلدية، ولقد أشارت الصحافة أكثر من مرة إلى مثل هذه الفضائح وذلك ما انعكس بشكل سافر على مستوى تدني الأداء البرلماني.. أما مناصرو بلخادم والمتعاطفون معه يقللون من شأن هذه الانتقادات ويرون أن الرجل تمكن من خلال ممارسته الطويلة للعمل البرلماني والعمل السياسي داخل جبهة التحرير لكن أيضا داخل الجهاز التنفيذي أن يكتسب تجربة ثرية، ويصنع رؤية سياسية شاملة عبر عنها عندما اشتغل إلى جانب بوتفليقة في إدارة ملف شائك ومعقد مثل المصالحة الوطنية، ويضيف هؤلاء، أن لولا اشتغاله وموهبته في إدارة ملف المصالحة، لما كانت حققت تلك النتائج التي انعكست على الاستقرار والأمن الذي استعاده الجزائريون.. ويضيف هؤلاء أن الرجل تمكن من تأسيس شبكة رهيبة عن العلاقة مع قادة عرب وإسلاميين، خاصة القادة في الخليج، وكذلك في إيران، ويشكل ذلك في حد ذاته رأسمال رمزي يمكن أن يوظفه بلخادم في الساعة الحاسمة، وأن هذا الرأسمال الرمزي يمنحه هذا البعد الإقليمي والدولي كذلك، خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو إلى جانب كل هذا، رجل خطيب، له كارزيما تساعده على توسيع قاعدته الانتخابية، ومزدوج اللغة، (العربية والفرنسية) ومتحدث لبق مشبع بالروح الدبلوماسية ولا زال يحفظ برغم الخيبات التي أبداها تجاهه الإسلاميون بعلاقته مع الإسلاميين وذلك الخيط الذي يدرك إدارته في عملية تحريك الوعاء الإسلامي لصالحه.. ولقد تمكن كذلك من إزالة المخاوف تجاه العسكر... إن كل هذه الجاذبية لمعادلة القوة تجعل بلخادم الآن مؤمنا بخوض المعركة من جديد ضد عمار سعيداني الذي فشل في تحقيق إجماع حوله داخل حزب جبهة التحرير، وهو يعتقد أنه نجح في إظهار مدى أهميته للأفالان الذي أصبح يعيش أقسى لحظات انحطاطه بعده... وأمام كل هذه الحظوظ التي يراهن عليها أنصار بلخادم، إلا أن هذا الأخير يشترط دخوله المعترك الرئاسي بعدم تقدم بوتفليقة إلى عهدة رابعة.. وذات العقدة أصابت عددا من المنافسين المحتملين لبوتفليقة، من بينهم أحمد أويحيى، ومولود حمروش، باستثناء علي بن فليس.. وكانت لهذه العقدة التي أصيب بها بلخادم أثارها السلبية على أداء الرجل سواء عندما كان داخل الأفلان أو خارج قيادته، وبرغم أن البعض يقول إن الرجل لا يتوقف عن التنقل في أرجاء البلاد، إلا أنه بفعل هذه العقدة، أصبح أقرب إلى الشبح منه إلى الرجل الفعال المؤثر على توجهات الأحداث وإلى الرجل المنتج إلى خطاب جديد وخلاق..