يرى الكاتب الصحفي حميد عبد القادر، أن الثورة الجزائرية موضوع سلم للذاكرة وليس للتاريخ، ما يجعلها حبيسة رهانات سياسية تضيّق النظرة للوقائع و الأحداث.ويؤكد في مقدمة كتابه "هواري بومدين.. رجل وثورة (1954-1962)"، إن كتابته لا تعاني من أي تأثير سياسي، و بالتالي فهي تختلف عما ألف لحد الآن عنه بشكل متناقض ومنافي لحقيقة محمد بوخروبة. صدر الكتاب عن منشورات "الشهاب" في 2013، والدافع إلى البحث مجددا في سيرة رجل يعرفه العام والخاص من الجزائريين، لأن "شخصية هواري بومدين تثير الكثير من المشاعر والجدل"، ورغم مرور السنين يبقى "موضوع خلافي"، تناوله أكثر من شخص، سواء كان معارضا سياسيا له "يحتقره" فينفي عن الرجل أي دور أساسي في الثورة الجزائرية. وقدموا بذلك، صورة عن عقيد بسيط تحرك في منطقة غرديامو في الحدود الشرقية للبلاد، و تارة أخرى كتب عنه فريق "مجده" واعتبروه بمثابة "القائد الثوري الأكبر الذي لم يخل بمهمته". يدرج عبد القادر رأي طاهر جاووت، الذي وصف بومدين بمؤسس الدولة الجزائرية، على غرار ماسينيسا والأمير عبد القادر، وحتى محمد بوضياف توقف عن انتقاده، بعد أن شاهد جيوش المعزين يرافقون الرئيس إلى مثواه الأخير. يقول حميد عبد القادر، إن شخصيات وطنية كثيرة، وقعت "ضحية لبس عميق"، و يرجع ذلك إلى "القراءة السياسية للتاريخ"، التي تربت عليها أجيال كاملة للأسف، والنتيجة حسب المؤلف "كارثية"، حيث بات تاريخنا محل "رهانات سياسية" ومربوط أيضا بالهوية والنزعة القبلية. ذاكرة هواري بومدين، كانت إذا "ضحية رؤية متخلفة"، يقول عبد القادر الذي يعتقد إن الجزائر تركت تاريخ ثورة التحرير للذاكرة وليس للتاريخ، لهذا فهو يؤكد أن كتابه يبتعد عن أي "تأثير سياسي"، ويقول في مقدمته إن المائة وثمانية وعشرين صفحة، تروي قصة كفاح رجل ومساهمته في الثورة ودوره في تفعيل الحركة الوطنية. سبعة فصول، هي محطات إختار الكاتب التوقف عندها، ليروي سيرة قائد ثوري ورئيس جمهورية إختارت مسارا اشتراكيا لتسير أمورها. فصل عن الطفل محمد بوخروبة، وثاني عن تواجده وسط نيران الثورة، ثم بدايات نجاحه، ومكانته في صفوف القادة، وفصل خامس حول خياراته الإشتراكية، وعلاقاته بالقادة التاريخيين، وأخيرا موقفه من اتفاقيات إيفيان. تظهر أهمية هذا الكتاب، في استرجاعه لأبرز ما كتب وأنتج حول هواري بومدين، ولكن بعناية محسوسة في اختيار أهم المحطات التي يعيد بها تشكيل بورتريه لرجل ظل خجولا ومتحفظا في عز الأزمات التي ضربت الحركة الوطنية، لكنه عرف كيف يفرض وجهة نظره في هدوء صامت، بورتريه تاريخي لهواري بومدين دون الحكم عليه بالخير أو الشر، بالفوز أو الفشل في إدارة مهمة بلد مثل الجزائر. محمد بوخروبة... الطفولة القاسية يصف عبد القادر في الفصل الأول، طفولة محمد بوخروبة القاسية في قريته بمشتة بني عدي (15 كلم عن ڤالمة)، ويكتب: "منذ سن الرابعة، زاول دراسته بالمدرسة القرآنية في 1938، عندما كان عمره 6 سنوات، إلتحق بالمدرسة الفرنسية بڤالمة، زملائه يذكرونه ولدا خجولا متحفظا، يحب أن يبقى وحيدا في أقصى القاعة، ولا يثير التشويش عند الخروج منها". ويدرج الكاتب شهادة سليمان بن عبادة، صديق الطفولة والدراسة من 1940-1945 يقول: "كنا في القسم الإبتدائي، وكان هناك أقسام فرنسية وأخرى للأنديجان، الأقسام الفرنسية كانت مخصصة لأبناء المعمرين والوجهاء والتجار الأغنياء وكبار الموظفين...". التلميذ بوخروبة، كان يجيد اللغة الفرنسية، إلا أن والده لم يهمل تعليمه العربية من خلال تسجيله في مدرسة قرآنية، حيث حفظه عن ظهر قلب، ويسترسل الكتاب في سرد الطفولة الصعبة التي قضاها الطفل محمد كغيره من الجزائريين في تلك الفترة العسيرة، إلا أنه كان ذو كبرياء عالي، لا يشكو رغم ملامح التعب وأسماله البالية والمرقعة. كان طويل القامة، بوجه بيضاوي الشكل، قوي البنية رغم الجوع والعوز. وقد شكل هذا الفصل لوحة واقعية إلى حقيقة منشأ هواري بومدين، بخطوط بعيدة عن الخيال، يمكن للقارئ أن ينظر من خلالها إلى وجه الرجل وهو صغير، ويتخلص من الصورة الأسطورية التي عادة ما تمحو عن الزعماء بداياتهم الصعبة. في الصفحة 14 من الكتاب، يخبرنا عبد القادر، سر ارتباط هواري بومدين بالبرنوس مرده، إقامة الطفل محمد عند "القبايلي" رجل شريف طاعن في السن، قبل باستقبال الصبي ورعايته في منزله رفقة باقي أبنائه، كان "القبايلي" صانع برانيس، كما سنقرأ في الصفحة الموالية تسجيل بوخروبة في المدرسة الكتانية، التي سيكون لها تأثير مستقبلا عند انتقاله للدراسة بالقاهرة. الكتانية يذكر المؤلف، كانت تضمن التدريس باللغة العربية بقسنطينة، كانت تسيّر من قبل حزب الشعب الجزائري، وقد أوصى مصالي الحاج أيامها بمنع تلاميذ هذه المدرسة من الإنخراط في معهد إبن باديس، مروره على الكتانية إنجر عنه انخراطه في حزب الشعب. أولى خطوات الكفاح الثوري من أحداث الثامن ماي 45 ومخلفات مشاهد المجازر على ذهنية بوخروبة الشاب، الذي اعترف يومها أنه شعر بتقدم السن لدى معايشته تلك المأساة، ليشد الرحال إلى القاهرة رفقة ثلاثة من رفاقه سنة 1949، وهناك سيقف على وضع مغاير لما كان ينتظره، سجل في معهد الدراسات الإسلامية بالأزهر، فالأموال لم تكن تكفي مصاريف الدراسة، ولم يكن بمقدوره الإستفادة من المنح التي كانت جمعية العلماء المسلمين تخصصها لطلبتها، وقد اصطدم برفض البشير الإبراهيمي الذي قال إن طلبة الكتانية غير معنيين بهذه المساندة، ضربة تركت في نفسية الرجل أثرا بليغا، ورفعت أسئلة عميقة عن الوضع العام للجزائريين داخل وخارج الوطن. في مصر أيضا، كانت أولى اتصالات بوخروبة بقادة الحركة الوطنية، ومناضلين من قامة مولود قاسم نايت بلقاسم، الذي اتخذه صديقا مقربا، وكذا أحمد بن بلة الذي بفضله تحمل مسؤولية سفينة دينا لنقل الأسلحة لجيش التحرير الوطني، مهمة ناجحة أصبح بوخروبة على إثرها أصغر عقيد في التنظيم العسكري الثوري، وتعرّف بعدها بالعربي بن مهيدي ثم اتبع خطى عبد الحفيظ بوصوف، واختار لنفسه إسما عسكريا "هواري بومدين" نسبة للرجلين الصالحين سيدي الهواري المغراوي وشعيب أبي مدين الأنصاري. بعيدا عن خلافات القادة يعود الكتاب إلى الخلاف الذي نشب بين عبان رمضان ومحمد بوضياف وأحمد بن بلة، وأرضية مؤتمر الصومام، التي لم تحظى بوفاق كلي للقادة الثوريين، في تلك الأثناء كان هواري بومدين يقود الجيش في الحدود الشرقية، وبعيدا عن الخلافات، كان قد أسس لفكرة تقترب إلى أطروحة عبان، إذ أشرك كل الفئات الشعبية في العمل الثوري، وألغى الإختلافات الإجتماعية أو الجهوية. ظل هواري يتجنب الخوض في أي صراع، أو التعليق على أي رأي يخص القادة، إلا أنه كان حذرا حيال السياسيين، كما يذكر بول بالطا، خصوصا أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ المستقرين بالخارج، وكان يعتقد أنهم ابتعدوا عن واقع الثورة، و لبسوا رداء برجوازي منحتهم إياه العواصم العربية. يشير الكتاب، إلى الخلاف الذي نشب بين بوصوف وهواري بومدين من جهة وعبان رمضان من جهة أخرى، هذا الأخير الذي رفض تعيين هواري نائبا مباشرا لبوصوف، رأى فيه غير مؤهلا وقليل الخبرة لمنصب كهذا، وانتقد قرار ترقيته دون العقيد لطفي. و يحيل المؤلف أسباب ذلك، إلى ما ذهب إليه المؤرخ جيلبير ماينيه، الذي قال إن هواري كان أكثر تبعية لبوصوف من لطفي، ولا يتوقف عن هذا ليستمر، فعلى مدار 128 صفحة في كتابة مختلف المحطات التي شكلت في الأخير رجل دولة و رئيس الجمهورية الجزائرية.